شذرات صحو

من قلب مفتوح

أنت كتبتَ، كتبتَ، عدَّلتَ، حوَّرتَ، قوَّمتَ المكتوب بقدر ما في الأرض من اعوجاج، رتَّبتَ ثم فجَّرتَ وأرسلتَ الكلام سلسًا بين السُّرى والغلس … كل هذا وأنت صامت تمامًا مثل الصمت، لا زيادة ولا نقصان، وهو ما لا يحتاج بتاتًا إلى أي تشبيه.

وأنت صَمَتَّ. في غور الصمت دلفتَ حيث وضعتَ رحْلَك وعَناء ما تحسبه دهورًا من هدير أعمار في عمر. طوَّقتَ لسانك مثل ذاكرتك، وقبلهما الحنين المُقتفِي آثار خطوتها الفائتة، كأنها تمشي الآن في أول خطوة على طريق مَشت فيك … وهذا كله وأنت تكتب، وبين الكلمة والكلمة مساحات شاسعة يشغلها الصمت المتأبِّي، رغم انثيال الكلام.

تريد زمنك الذي يصنع وقته بما هو أبعد وأفسح من الكتابة والصمت معًا … كمَن يترامى بين كثبان للصحراء لَيسَت تِيهًا، بل هي الطريق المُلتَبس فيه، الصاعد منه، الذاهب نحو نبوءته، زمنك، لو علمت، لا مُترجرجًا، بل هذا الذي ما إيابه إلا لحاق آخَر بالذهاب كأنما لترهق بالأرض، بالمشي، والسحب وهي ترغي جاثمة بسحابك يَفتُر ثغره دومًا بما تحب أن يشبه وجهها، أو ذاك الهمس مثل حسرة ما بعد الرحيل.

أنت صحوت، ومن كل مجرَّة جلبتَ ثُريَّاها، فدرات بك الدنيا في شعاع هو شعاعي ألاحقه، هو المنبثق مني، الساطع في أرجاء نظرتي لأميد من غزارة ضوئي، لأصرخ أنا الصارخ ماذا تراني فاعل بكل هذا الصحو في مدن عمياء، شوارعها بلا ضوء تنام، ناديت وكنت قد تبدَّدْت. أهدابي مُثقلَة بخطوات العائدين من حروب خاسرة، المُثخَنِين بحروب أخرى كانوا فيها صكوكًا ونفيرًا. ماذا أفعل بكل هذا الصحو والبلاد التي غشيتُ بشعاعي أسبلَت جفنيها في رقدة أبدية لم يوقظها هذا العراك الذي أدافع به صمتَ المهانة والتواء الثعابين الرقطاء؟ تراني حين أقبل عليها غير هيَّاب أو تدخل مَخدعي فتبتسم، وحقد كالسم، يفح منها، وأنا أرى وهي تضحك حاسبة أن بإمكان الزواحف تطويق الثُّريَّا بمكيدة، وصد الهدير بالصمت المريب.

صدري، الآن، مفتوح مثل كل البلدان التي جعلتها عارية وكانت أسرارها مجدولة. حللتها، فككتها، سلالةً، سلالةً، نفخت في الرماد فاحتَقَن جمر ما انطفأ إلا في العيون المُرمدة، وعدتُ أفتلُ الأسرار في هذا الجسد، أرى الأيدي تحاول أن تطوله. تتطاول عليه، فينزع إلى تَشنُّج لم يَعُد مقبولًا في المعرض القومي العام للأجساد والهمم المستباحة، هذه خاصية السنديان، وخصلة الصنوبر لا يزهو خضرةً إلا حين يَستدِقُّ كالرُّمح، مغروسًا في قلب الأرض، صاعدًا ربوة من ربوته، فناشرًا ظِلَّه، من عجب، في علاه، ثم هاك الأخضر بعد ذلك مُهفهفًا، وعندي أنا الألوان لا تصبغني أو أستعرض بها القوامات الفائتة، فاللون أصوغه من دمي يتجدد بكل قطرة فيه، وينتشر كالمطر حين تراه طلًّا على وجنات الأوراق، وتمعن النظر بعد فصل فإذا هو خصيب في السنابل اليانعة.

قلبي الآن، مفتوح ملء البطينين. الشرايين التي همدت في الأجداد، وانطوت تحت تضاريس الأزمنة جاءت إليه؛ الشرايين التي كانت الصحراء لها لغة، والنقع صوتًا، واقتفاء أثر الجنين طريقًا، وابتغاء رهبة الموت مجدًا … شقَّتْ طريقها إلى لهفته، وأراها تكتوي بما أكتوي به. تشهد الحرائق كما اندلعت فيه تباعًا، وكيف تخافَقتْ فيه أنجم الليالي الغابرات، الساجيات، كما تلاطمَت أمواج الأيام العاتيات، ظهرنا فيها فلم تكسر منا ظَهرًا ولا قلمًا. في كل آنٍ تَتغذَّى منا الحرقات ونحن نصطبر، ولا سلَّمنا أبدًا أجسادنا لتأكلها الكلاب المتضورة جوعًا عند مفترق الطرق، ونحن ننفث في الفضاء حس نجوى خافتة، مغمورة في عبق الذكرى، كأنما ما مضت إليها نسير.

فيا لتباريح وَجْدِك أيها الفتى الذي كان، ويحك كيف لا تنسى عيشتك المذهلة، سِيرتك الأولى. ما بالك تنسى أنك اليوم هنا في أتون آخر يغلي باحتطاب الضجر أو الكدر أو سفالة من حسبتهم رجالًا. وفمك محترق بالعطش ولا صبابة ماء رغم كل هذا السيل العرم. وها أنا ذا أكرع من ثمالة قدح قديم معصورة من بقاياي … إيه، إنه قلبي المفتوح لا ينضب، فتحتُ للعبور بابًا من صدري، في الهجير القائظ سِرتُ، فالظل لا يأوي قامتي، بت أخشاه، كلَّا ليست الظلال الوارفة ما أعني، فتلك تتبع النسوة المُؤتَزِرات، المُتَّشحات، يسترق النظر إلى حيائهن ثاويًا، تارة، تحت نظراتهن الوالهات، وأخرى ثاويًا تحت أعطافهن الجمرية. كنتُ ممسوسًا فزادني الشوق إليهن التياعًا، أنا الشارد لا تستقر عيني على بهاء. من بَرٍّ إلى بَر تَعبُر، لا منقادًا ولا حُرًّا في العبور، فهذا ضرب من السَّير، مَسٌّ يصيب الذاهلين وحْدَهم، وليس عليهم أن يحلموا بشفاءٍ مِن يقين.

استويتُ واقفًا على نبضي أمسكه برموش العين، الزعيق شديد في هذه الطرقات التي نعبر؛ طبول، مزامير، واحتكاك قصديري الصَّدى لأنياب تنهش. بين ضرسين رأيتُ دمًا امتصَّ من بعض تراكيب أبجديتي. لغطًا سمعتُ باسم يُشْبِه اسمي وأنا أنكر على نفسي ما يُزوَّر من الأسماء، ظهر لي شخص كنتُ أعرفه يخلع سحنة شخص يعرفه ويدخلان معًا إلى حلبة رُسِمَت باستعجال لأداء رقصة غجرية لا تليق بذوي الأعمار المُتردِّية. في الخلف كئوس من أشخاص متهالكين في القدم، يجمعون أطرافًا من جلود تتدلى بين الرقاب والأقفية، وهم يطلونها بأصباغ هندية صارخة، تصدر عنهم لعنة خليط من عواء، وقرقعة طناجير، ومحفوظ من شعر باهت، على إثرها ينضاف إلى الحلبة أقزام وقِرَدة يحيطون بالراقصين الأجدبين، المُعار والمُستعار.

نحن نحتاج إلى الصمت، ودوام الغناء يفسد التغريد، أقبض على نبضي فأسترجع الثقة بأن الأرض ليست كلها معمورة بالذباب … والطنين. ليس الصمت انفصالًا عن الكلام أو وأدًا للغة في لحود اختناقها، بل هو الهبوط إلى تلك الأخاديد العميقة التي لم يَحْثُ أحدٌ من قبلُ ترابها، والإنصات منها إلى وجيبِ الخلق قُبَيْل التشكل وغداة الفَناء، حتى لكأنَّك ستبدأ من خلقٍ جديد ثم تنفصل عن رغبة البداية، ينفصل عنك كل شيء، تمسي ذاتُك مادَّة ومطلقًا، في آنٍ، وقد نزعت عنك كل نافلٍ ولم يبقَ أمامك سوى تخطيطات الكون الأولى تَتقرَّاها، أولًا، ثم تراها تبتسم بلا أفواه، تنطق بلا لسان، ترقص بلا أعضاء، ومعناه أنها ليست في حاجة إلى الكلام الذي تلف، وأن للصمت أسرارًا ينبغي علينا أن نحاول فكَّها قبل أن ننتقل إلى اللغو أو إلى الكتابة، ومنها استطرادًا إلى هذيان المُتفرِّدين لأن الهذيان الفذَّ ليس مبذولًا لكل عابر سبيل … فإن نحن عجزنا فلنشحذ فينا أسرار السكون على أن تتفجر من الكتاب الينابيع، وننظر إن كنا قادرين على أن نشفي غلة الظامئين … بكلمة.

كنتُ انفصلت عن الكلام والصمت، معًا. وأنفصل شيئًا فشيئًا عن ثيابي، ولحمي، وشكل أعضائي، وأتركني مسوقًا إلى حيث لا أدري، رغم أني، وبطريقة ماكرة، كنت أدري. اكتشفت في لحظة العطل القصوى أنني أنفرد بنفسي، أن لكلٍّ منا نفسًا تحتاج ربما إلى عمر كامل كي ينفرد بها. وقد تفوته الفرصة، وإذ ذاك لا معنى لحياة عِشتها فلم تَعِ، فيها وجودك أو صيرورة زَوالك.

يأخذ الانفرادُ شَكْلَ استيقاظِك بعد منتصف الليل في غرفةٍ لم تعرف سريرَها وأثاثَها، وحين تُطِلُّ من خَصاصِ النافذة المُوصَدَة بإحكام ترى نهاية غابة، وعمارات عالية، وفي اللحظة التي تبدأ بالسؤال: أين أنا؟ تكون قد أخذتَ الطريق إلى نفسك المنفصلة عنك دومًا وهي فيك، وحين تتناوب المجسات على جسدك، وتتشابك الخيوط بالمباضع، وعيناك دائمًا إلى السقف بين شهيق وزفير، هما استجابةٌ لطَلب خارج إرادتك … حين تنظر في المرآة ترى أنت يرى غيره، وغيرك يمشي في ردهة طويلة على جانبيها غُرَف بأرقام يُفْترَض أن واحدة منها خاصَّةً بك، غيرك هو من سَيلِجُها ويستبقيك عند الباب.

تفهم ولا أفهم، وفي نهاية الأمر تَتفقان قسرًا على الدخول سويًّا لأن الجسد الواحد، في أول تقدير، لا يمكن أن يذهب إلا إلى مكان واحد. تتركه يستلقي على الفراش، تهدهده، تمسح دمعة فَلتَت من صبره، وحين ينام أخيرًا تتقدم نحو النافذة، تعارك مقبضها كمَن يعارك غولًا فتنفتح أخيرًا على مصراعيها، وعندئذٍ ترفع وجهك إلى السماء مخترقًا دجنة الليل، وفي الأعالي … الأعالي … ترى نجمة خلَّابة فيسرقك ضوؤُها منك وتتبعها، تتبعها، تتبعني ونحن بعد نضيء … رغم الدَّاء والأعداء … من الضفتين نضيء.

٢٤/ ٩/ ١٩٩٦م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥