«(…) ودمعٌ لا يُكَفكفُ يا دمشق»
أنا السائر في يقظة حلمه، تاركًا خلفي ثُغاء النعاج، وأشكالًا بهلوانية لدسائس محبوكة بخيوط واهية، وتَبيَّن لي وَمْض، قلت: هذا دربي، وسرتُ أتبعه، فوالله ما أعلمُ في صحو أنا أم في منام؟ بَيْدَ أن الطَّرْق كان مسموعًا، آتيًا من زجاج النافذة خلفي، والقلم بِيَدٍ متهيِّبًا أمام افترار ثغر الورقة البيضاء تكبح فتنتها فيه الرغاب عداها، وتتداعى منه الكلمات، من أسفٍ، في إياب. الطَّرْق أسمعه فأدفعه عني في ارتياب، زاعمًا لنفسي أنه آتٍ إليَّ من احتكاك القارَّات المزدوجة في رأسي، ومن اختراق كل تلك الأجساد لِلَحْمي، مع بقايا القَرْقَعة التي تحاول اللحاق، عبثًا، بكلمات باهرة الثريا.
كان ذلك كله، وغيره، ولم يكن شيء لأن الطرق مُمعِن في التجدُّد، حاضر الوقع مِلحاح؛ الصوت فيه صائت الآن وهنا. أنسى رغبتي ولا تنساني الرغبة، فوات الأوان هو اجترار الذكرى، فيما الذاكرة مشحوذة على جمرة اليومي، شاسع، كما هي أمامي اللغة الشاسعة من تناسُل أحلامي.
قررت أخيرًا أن ألتفت لعَلَّني أرى الوجه المُدثَّر بالحنين إليَّ، أو أشهد شَفتين ستنطقان بكلمات سأنتظرها دائمًا كما تنتظر امرأة وحيدة هُطول النجم على حافة شُرْفتها، وانسداله بين شِقِّ نَهْدَيها … لتغرق في صحو عميق.
قررتُ أن ألتفتَ إلى الخلف حيث ينشرح صدر حديقتي السِّرِّية، وحسبتها تريد الدخول لتبوح لي ببعض ما تَجمَّع في صدري من أشجان، وقد غبتُ عنها صيفًا كاملًا في ذلك المشرق السِّحْرِي، ولم يكن شيء ممَّا توقعتُ، فهي ورقة صفراءُ التصقَتْ بزجاج النافذة بعد أن هدْهَدَتْها ريح خفيفة جذبَتْها من أعالي شجرة من الأشجار المُصطَفَّة على ضفة النهر القريبة، لأمر ما جاءت، وهي حتمًا تحمل لي رسالةً، ربما شوقًا أو نجوى أو لِتنبِّهَني من شرود أستسلم له بلا قيود، ليس من عادتي الانتباه إلى توالي الفصول في محرابي الداخلي، أشتري اليومية في مطلع كل عام جديد، وأنوي تعليقها على الجدار كي تؤدي مهمة حضور الزمن، لكني حين أعود إلى البيت سرعان ما أركنها في زاوية من مكتبي، أنساها ليتجمع عليها غبار الأيام. يحدث عندي أن أتفقد اليومية؛ لأتأكد من تاريخ محدَّد فأشتري ثانية وثالثة، ما تلبث أن تغرق بدورها في لُجَّة النسيان، وإذا استثنيتُ ما هو ضروري من توقيت مضبوط مما يتصل بأمور العيش، والتوافق مع بعض المُتطلبات الحياتية والاجتماعية، وهذه ضرورتها نسبية، وسواها من مُستلزمات تَجعلُك مقبولًا من العالَمِ الخارجي لكيلا تُتَّهم بالجنون وتُساقَ عنوةً إلى مُستشفًى للأمراض العقلية؛ باستثناء هذا فإن الفصول والأزمنة، في مذهبي، تتوالد من تراكيب سحرية، غير خاضعة للتقنين، أو بما هو شبيه بمحافل تُتَداوَل فيها طقوس ما قبل تاريخية؛ ولذا استغربت، للوهلة الأولى، رؤية الورقة الصفراء كأن الخريف اقتحم على أبهة خلوتي بلا استئذان.
كما لو قلت الورقة على خد التصقت بزجاج بينهما قبلة توشك أن ترفرف لا تعرف أين تحط فنادتني: يا هذا تعالَ، كفاك وهْمًا أن يصعد الفصل من محبرة، أو أن يشذَّ عن تغريد قُبَّرة، أو أن تستنبت الرياحين من شِغاف قصيدة، في الخارج ما أريده لك، الأرض بَسْط، وأغصان الشجر كما تشتهي لها اصفرار أو احمرار كأرجوانية المَغيب، في هذا اللون تحب أن تذوب، وتصل إلى البَدَد الشامل الذي به تنضمُّ أطرافك إلى بعضها، وتتوحَّد الروحُ التائهةُ جامعةً انتشارها، تكاد تقول شظاياها المترامية بين الضفاف: إننا في أيلول، والشادية التي شعرها أكمام أَرْز وقامتها جِذْع سنديانة، أليست تغني: «ورقوا الاصفر شهر أيلول تحت الشبابيك»؟
كدأبك في الأعوام الماضية ستفعل هذا العام، فأنا ورقة الميلاد، ومن رآني في استهلال لوني شُغِف بالحياة إلى الأبد، ومن فاتته الرؤية يسكنه الندم إلى الأبد … ولاتَ ساعة مندم، ستغادر البيت وتنتعل حذاء العشب، ولا حاجة إلى الخروج من الباب؛ كِلانا قادرٌ على التموج، والعبور من حافَّةِ النافذة إلى ضفة النهر مثل نفحة، أم تراك نسیتَ نهر «السين»؟ يمضي بك الخطو بين خرير الماء وضرب المجاديف، والماء هو دم المدينة يعبرها مثل الشرايين في القلب؛ ولذا فالمدن التي تدير ظهرها للبحر والنهر، والبحر يشيح بوجهه عنها، ليست أكثر من رُفات عمران، يسكنها أقوام مُولَعون بالبداوة وأحلامهم كلها، إن حلموا، مسارحها القفار والأودية اليابسة، فإن أدركهم الغيث صعقتهم الدهشة وتراهم يدوسون الوردة وهم غافلون.
يمضي بك الخطر، والمسافة طي حضنك، تبسطها أخيرًا في غابة «بولونيا» بين شهيق وتنهيد، مع النفس اللاحق تختلج أشعة الشمس في ضربات متلاحقة كرشق السهام، لا ليس من دم على صفحة الورقة، إلا كما يتضرج خد عذراء مَسَّته لثمة صادية. فهاك عندئدٍ نهارًا يخرج من نهار، والفصل أَسْوِرة من ذهب تتلألأ بين معابر الغابة أنت فيها الشجرة، أعضاؤك أغصانها المُورِقة، فتَرفَّقْ برقة حالنا أيُّ هذا الجمال، لا نملك بعدُ قلبًا يقوى على ارتشاف كل هذا الأفق … فيك أنت ما مضى، فيك ما يَسْتَعِر الآن، وما هو آتٍ.
عدا أني ما حسبتُ قط أن المنفى سيصبح ملاذًا، والأوطان المبتغاة تنقلب علينا هي المنافي … عدا أني ما حسبتُ أن اللغة تنكر معناها، والإيحاء بالشيء ينقلب إلى ضده، يوحي بقدرة الموهبة الصَّناع لا بما تريده اللغة في ذاتها. الكاتب لا يذهب إلى اللغة يا صديقي علوان باشا الودود، لا يتفحص المعاجم؛ لكي ينتقي كلماته، عسيرة أو يسيرة، ولا هو المُنقِّب في كُتُب البلاغة وعيون الشعر والنثر والحقول عن جذور الصور وألوان المجاز، الكاتب لغته تجري في دمه، والصور التي يصوغ بها عالمه ورُؤاه هي منه في موقع النبض، لا تفارقه أو يموت. ما يجعل الخريف لا يلفظ أنفاس الفصول، بل هو الشهوة العارمة تَشِي بانفجارها الوشيك عيون مخمورة، بالحب لو شئت، هو الحياة تَتجدَّد نضارتها فيما يظهر، وهي آيلة للزوال.
طفقنا ننزع ما علينا، الغابة وأنا، الشجرة، والشجرة، فجأة اكتشفتُ أنِّي لم أعد وَحْدي، ورجال ونساء وأطفال وشجر تَخلَّى عن كثافته، قَدِموا كلُّهم من شرق وغرب، واصلنا ننزع ما علينا إلى أن بدا عرينًا مكتملًا، وعندئدٍ هبَّت الألوان تغمُرُنا وهي تصطفي ألوانها فما وعيتُ إلا والأوراق تلبسني، ومن ضفة إلى ضفة تُلقِي بي وتَهْوي بي أنا الهاوي بين مَشرِق وغرب ومغرب تتقاذفني. فمن بين الأحبة، اليوم، يَتلقَّفُني ويكسو عُريي وبِعُريه الشبق، سكرَتْ منه شمس الجنوب … فوالله ما أعلم في صحوٍ أنا أم في منام؟ ولكني مُوقِن أني حين الْتفَتُّ ثانيةً ما سمعتُ طَرقًا، ولا رأيتُ ورَقَةً صفراء خدُّها بزجاج النافذة ملتصق. كنتُ أنا الواقف أبدًا، ممدَّدًا على سرير «أبي رقراق»، الماء يجري من تحتي ودوني وإياه ارتفاعُ شبر — رأسي مستندة إلى سهل مُجدِب، وذراعاي حين أحركهما بتكاسل إلى الوراء ترتطمان بأسوار حائلة اللون، عرفتُ فيما بعد أنها أسوار شالة، ليس بداخلها سوى بقول فوضوية نابِتة على قبور موتى يواصلون موتهم أمام ازدراء أشباه الأحياء.
حين نضب الماء تحتي استقمتُ واقفًا حقًّا، وتقدَّمْت أمشي مكتشفًا ما حولي، ومن الخطوة الأولى كان الشوك والقَتاد لي بالمرصاد، سَرَّحتُ الطرف أُجِيله حولي فلم أرَ أثرًا لشجر، لبشر ولا ورق، وكل شيء يشبه بعضه بلا لون، فحصل لي من ذاك العجب؛ السماء التي رفعْتُ إليها وجهي كي أتبيَّنَ لونها رَدَعَتْني للتَّو بشمسها اللاهبة، الشارع الذي انتقلتُ إليه مُستحِثًّا السير إلى ما يبدو شبه مدينة حاصَرني بصَمْتِه المريب. تَقدَّمتُ أكثر باتجاه إشارة «وسط المدينة» فألفَيتُني أُجدِّف في الفراغ، والصمت حولي قماط للأسفلت والجدران، لعله الهجير حبس السكان في بيوتهم، نظرت إلى الساعة في مِعْصَمي فوجدتُ العقربين جامدَين ولم أسمع تك تاك، تك تاك. لم يكن الوسط غير حفرة حولها أبنية كالردم وأقوام متبعثرون بينها يتثاءبون: أين أنا؟ وماذا حل بي؟ وكيف وصلتُ إلى هذا الصقع الغريب؟ من أي فصل نحن هنا، أم إنها أرض لا تعرف تواتر الفصول؟ مرت بي وجوه حسبتُها تعرفني وأعرفها، فأقبلت عليها هاشًّا، باشًّا، لكني ما لبثتُ أن أجفلتُ متراجعًا، وقد رأيتُ شفاهًا مخيطة بقنب، ومَحاجِر العيون تحتها أحداق بِلَّوْرِيَّة. قبل أن أُدْهَش أو أُصْعَق مما أرى سمعتُ صدَى ركضِ رِجال رأيتهم يشيرون إليَّ، فقلتُ: النجاة، النجاة، ولما كنتُ ماهرًا في الهرولة استنجدْتُ بساقي وأنا أسمع رَجْع كلام: «ما تخافش، نحن نبحث عنك من زمان، نحن نريد أن نشفيك مما …».
بقيتُ أهرول إلى أن وصلتُ إلى ساحة تحمل اسم أحد الأيام، هنا انقطع نفَسي، وقد أشكل عليَّ ما أبصره أمامي وأنا بين مُصدِّق ومكذب. شاهدتُ تابوتًا معلَّقًا وحده في الهواء لا أكتاف تحمله، والميت بداخله حي يستند على مرفقيه، وبين يديه كتاب يقرأ منه ما سمعتُ:
قلتُ: أقترب لأتطلع إلى سحنة رجل التابوت، فراعني أن أجده صديقي ورفيق سهادي الشاعر أحمد المجاطي. عجبت منه يبادرني: «ما الذي حملك إلى هذه الأرض وأنت في الشمال أليق وأبهى؟»
– بل أنت، كيف تَتمدَّد في تابوت وأنت حيٌّ؟ ثم إني كنت أبحث عنك فما دلَّني أحد؟
– فات الأوان، وصلتَ متأخرًا، الحصاد فاتَ والصيف ضيعنا اللبن، والخريف لم يأتِ، وأنتَ تعرف شِدَّة وَلَعي بالخريف، وهذا منذ كنتُ أمشي في دمشق من المَرْج إلى الغوطة قبل مسيرنا بين نخيل شارع بن يوسف في الدار البيضاء.
– لكن، خَبِّرْني إلى أين أنت ذاهب هكذا، أم إنك تنوي …؟
– تمامًا، كما تُخمِّن، أنوي الرحيل، بل إني على صهوةِ الموت راحل، وهذه الطريق، كما ترى، تؤدي، إلى مقبرة الشهداء. لقد اخترتُ موتي، فلا مُقام لي بأرضٍ لا يطرقها الخريف ولا تقيم احتفالات للفصول.
– وإذن، آتي معك فأنَا كذلك لا …
– كلَّا، لم يَحِن وقتك بعدُ، أنتَ صاحب «حكاية وَهْم» فانتظر قليلًا إلى أن تنقشع الأوهام … ما يؤلمني هو أنني أرحل وفي نفسي شيء من المطر!
– عندي منه نَزْر فهل أسقيك؟
– لا، اشرب نَخْب رحيلي إذا مررتَ بي في العام القادم، هذا إن تَذكَّرْتَني، تَذكَّرني أحد منكم، ولِي وصيَّة أخيرة، إذا زرتَ دمشق وأنا أعرف أن لك فيها قلبًا ملتاعًا، فاصعد إلى قاسيون واطبع لي قُبْلةً على الشام، والآن اتركني؛ لا أريد أن يفوتني موعد الخريف.
تركته أم تركني، فوالله لا أعلم في صحوٍ أنا أم في منام حتى وجدتني، وهو حق، أقف على قمة جبل قاسيون، فرَدْتُ من ذراعي جناحين ونزلتُ أشمل المدينة بقُبْلة حتى نهايات اخضرار الغوطة وركوعي بالمسجد الأموي شاهدٌ على ما أقول. وأنا أُحَلِّق ناداني النهر الذي كان، وحمَلَني الشوق إليه، قُل له «سلام من صبا بَرَدى أرَقُّ …» فحملتُه طيَّ الضلوع وعَبَرْت في طريق العودة بغابة بولونيا حيث جمعتُ بعض أوراق الخريف، وما أن وصلتُ — أين أنا؟ وإلى أين؟؟ — محيط الرباط، قصدتُ شاهدته ونشرتُها فوقها. وفي طريق عودتي أدركني صوتُه أم اختلج مني صوتي أكمل على لسان أمير الشعراء: