«خذني بعينيك واغرب»
(١) تجرید الماهية
من أين تبدأ الطريق إلى المشرق؟ الشرق اللعوب، الساحر، الفتَّاك، الغريب … من وقفة سيدة تبدأ بَشَرِيَّتها بحرف الباء في مدينة الباء، نقف معًا ذات مساء من صيف ١٩٧٥م على الكورنيش، وبحر بيروت يفيض من أحداقنا لهفة علي؛ أم من بغداد محفوفة بسجايا النهار لتهجع في شارع أبي نواس عند كرمة عناقيدها دم ودموع؛ أم هي بيروت ثانية راودتني من «باب إدريس» إلى «الشياح»؟ وحين استفقتُ من ثَمَل النجوم هابطة مع الندى على الأرصفة، رأيتُ الرصاص يَعبرُ بين قَدمي وسماء الله كثيفة يواريها دخان المدافع.
لَكَمْ يبدو الوقتُ موجعًا في التذكُّر، مُثقلًا بكثافة الذكرى تنوء بها الأمكنة ونرزح تحتها نحن العابرين مسالكها، لا نعرف أين نقيم، حتى لو أقمنا بين جدران نكتشف بعد فوات الأوان أنها أجسادنا أو لُحودنا – يا لهذا الشؤم – كالأشرعة مُتقاذِفَة بين هوج رياح العمر، حين تهم بالاستقرار يَفِرُّ العُمر إلى الزوال.
هذا الذي صنعته، وفي حين من الدهر تريد أن تصعد سُلَّمه درجة، درجة، لتتهجي لغة صعودك. وقتئذٍ فقط تنبهر؛ إذ تدرك أن الأبجدية أمامك غائمة، وصور ما عشتَ، وحيث أقمتَ، وما تلاحمْتَ به من أجساد، وتصالبْتَ عليه من أمكنة، وتقاطعْتَ به من فضاءات، تُدرِك أن ذلك كله يتموج، فإن حاولتَ القبض على شيء غُصْت في لُجَّته إلى العنق أو صرتَ تترنح على حافة هاوية. أوَليس العمرُ منذ اللثغة الأولى ذلك الانزلاق التدريجي، المتقلب بين الغِبْطَة والأسى نحو الهاوية؟
ولذا، فإن كتابة السيرة الذاتية ليست إلا وَهْم كتابتها، تجربةٌ مادَّتُها الاستحالة وشَكْلُها الرماد؛ لأن النار التي اشتعلَت في الصدور انطفأت، والجَمرة المُتوقِّدة لم يبقَ منها إلا جِلْد فينا يَحمِل تَشوُّه الحريق، وعندما تُراوِدُنا رغبة السيرة، إذا كنا نمتلك حقًّا رصيدها، فإن أفضل ما باستطاعاتنا أن نفعله — أن يفعله الكاتب الموهوب الذي عاش حتى الثمالة — هو غربلة الرماد، وصعود شجرة أنساب الحريق، أما الذات فَقْد أضرم الزمن والمكان النار فيها من قديم، وألسنتها تتراقص بوهم استعادة الأنا. وكان هذا بعض لعبنا أنا وسيدة الباء حين وقفنا صيف ١٩٩٦م على الكورنيش نفسه، وحسبنا في لحظة أن البحر سيجدد فيضانه من أحداقنا، فظلَّ هاربًا كأن الجَزْر مثواه، وما كنا إلا من الغافلين. التقينا، فما عبَرَت الصواريخ فوق رأسَيْنا، ولا شاهدنا طابورًا من القتلى يَشخُب دمهم من أقراص خبز دامية، كذا الأعمدة، العمارات غير مقصوفة، ومكاتب الأحزاب لا مَنسوفة، مَشدودة إلى أوتاد المَرارة والنسيان. بين نظرتين غافلتُ وجهي، غافَلَني، تهالَكْنا معًا على حَشْرَجة من سُرَّتَين لا تزال آتية. ويحها، على البعد قطافها دانية، رغم أن الأماني تَوارت، وهَذِي الديار على تَجدُّد العمران منها خالية فكنت فيها، أنا غريبها وهي مِنِّي سر في الغياب وأسرار في الحلول، بينهما فَمٌ لو تَكلَّم فاه يقول: أنتَ مُصِرٌّ على الذهاب والإياب نحوي وإن غادرت، فإنما لتقصدني، واعلم أنني رحلتُ. صنعت من أطلال خرابي جموحًا فرحلتُ وكل من يذكرني، يتشبث بي، إنما يُراوِح في ذكراه، غير أنك لن تعدم أن تراني، حين ترى، في حاجب هلال وثغر برتقال في «سهل البقاع».
وإن مشيت قليلًا متوسِّدًا أوجاع صدري البلاد، أو شَفَتَيَّ المقضومتين لا ككل الشِّفاه، وقفت أخيرًا، متوهِّمًا كعادتك، عند أطلالي: أنا بعلبك، بَيروتُك رميتها ضوءًا خلبًا على شُرْفة البحر، قبل ذلك كنت استويت منارة. قبل ذلك نفخت فيك الحنين إليَّ، ولم تكن قد وُلِدْت، فكيف بكَ لتراني؟ أنا التي ترى وأراك طريقك يعرج بي شئتَ أو أبيتَ، أسكنك سهادي، ومتى طَعمتَ الهجوع، مُتوهِّمًا كعادتك، أيقظَتْك القروح شظايا تناثر من أنحاء البلاد، هو القَصْف، القَصْف، حتى دمار المُحال، حتى اختفائي فيك، فنائي فينا، انضمام آخِر وردة تعكف علينا تحت أكمامها، وأكمام أخرى، يشمها رجال عابرون أم تراهم شاردون، عن سواعد، لدفن جثث؟ كل هذه الجثث مُبعثَرة، لو رأيت فترَجَّل عن صهوة الوهم، الفتكة البكر صارت خَلفنا، رجال قِرَدة يمرحون بين زِقٍّ وناي، والكتاب شاهدة مَمْحوة، أنا القبر لها، وأنت البقول على صدرها، وإن شئتَ زَهوًا على صدري أعطيكه، خُذْه، لك أن تَأخُذَني إلى حضنك وإن شئتَ موتًا إلى مخدع الأمة الآفلة، فتَرجَّل. يا الفارس القديم تَرجَّل؛ هذا أوانُ شَمِّ التراب، إن اقتفيت منهم الأثر، سيرهم على ذلك الاثر، تَرجَّل، تَرجَّل.
إن جُننت لا بأس هو خير من مشهد القردة، في مَشهدهم الأخير ترى عِوَجًا — غَدُنا لنا الوجع من شميم أمس هو الأوجع — أو دمًا، هوى، كاليترقرق، سرقَتْه الأيادي التي اعتادت، شأن العيون، وهي تسرق دَمْعَك، ثم تَداعَت، بيد زِق، بالأخرى «شَدْوُ» زامِر، ثالثهما قرطاس مَمْحُو، آخر تقتفي خطواته، مَحْو نياشين المَحْو، هي «مسك» ختام زفاف البغلة البائرة …
ألَمْ أقُلْ لك: تَرجَّل؟ فبَيروتُ فيك وباء، وحيث تُرابِط هو الوباء، أنت فُتِنْت بغنج لفتتها، بهطول الدمار، وبقيتَ هناك، حيث أبقيتك أو أبقيتها … أم لعل الرِّباط شد ما أخشى عليك، بها نافذة مفتوحة، وحيدة، صوتها يناديك فيها … إليك.
(٢) Facteur de Risque
(٣) لهفة الليل
من حيثُ أخذني أعدتُها … قمر ساحر يفرش الطريق … صوت الصباح صوتها كذلك سعادة ملأت أرجاء الليل فاستنجد بآخِر رشفة من ليلتها.
حين دخل القمر مخدعها، همس جنون همس جنوب، فاضَتْ حولنا شُطآن العطش قلتُ: «خذني بعينيك، واغرب أيها القمر!»