جدولة لديون الحب
(١) تخوم الملكوت
بدت طريق وصل الضفاف إلى هذا الصيف مختلفة، فالضفة توجد مفردة، تنكمش في وحدتها، كما هي تتمدَّد على سرير انتشار وديع، مفردها مكان يَتذوَّت، يرسل إلى الجنوب قدمين فتغطسان في الماء والظمأ على الشفتين يبقى مرتعشًا، وإلى الشمال منه تنبت قرون كركدنية تتشابك فيها مسارات الغابات، والأنفاق الثعبانية هي خطوط طول المدن وشرايين البشر اللاهث من فوقها خطوط العرض، أما جمع الضفة فرغم تكاثره يعمق المفرد، واصلًا أطرافه المبعثرة ببعضها، جاعلًا جمع المكان لا الأمكنة، كما تريد للصيغة النحوية، بل الذات إذ تُواصِل رحلة هبوطها العميق نحو شعابها بين انجرافات الوقت، وشطحات الهوى ولهيب الأخيلة.
بدتْ طريق وصل الضفاف إلى هذا الصيف مُهْرَةً جامحةً، مرة، وأخرى نافرةً، وأنا بين هذين الوضعين صرتُ مقسومًا إلى جسدين يترامى الواحد على حدود الآخر، ولا يشبعُ من نَهَمِ الترامي الذي من طبع الامتداد كما للضفاف خاصية أن تنتشر، لم أَتَعَوَّدْ أن أسأل يومًا ما الجموح ولا النفور … كنتُ أفعل، طبعي الريح عاصفة فما تسكن إلا لتمهيد هبوب العواصف. جسدان، واحد في الشمال وآخَر له الجنوب جسد.
والمنفى لكليهما الملكوت، وسواء تَوحَّدت أو تعددت الأطراف فيه أشطارًا مترامية، والأراضي التي ترزح تحت عبء الرحيل غير ظلال، أو شبهة ليل يستر مجرى النهار لحين ثم ينقطع، ليهبط الليل كاملًا فوق كمال الوجه — قل الوجوه — يهرب مني كلما خفق الدم بالحنين، فإن حضر رآني فنيت، وإلى المنفى روحي تَرتَحل، لكلينا صوت الماء وشكل الغسق، ضمة واحدة منه مقابل كل هذا الهباء الذي يعبر العمر، حين يضيق الكلام تنفلت الصرخة الشبقة، تحفر في الماء مَجرانا ليصبح الصوت نطفة أو لباب نهد يتكون، خذني بيديك، بين ذراعي منفاك وازرع البذرة، لغة إن شئت، سيف هواك تخرجه من غمد عشقي يشقني البحر إلى نصفين، مثل انشطار الواحد فيك إلى اثنين، جسدين، أو انضمامي إليك الغادي الرائح، المُتشظِّي بين الضفتين، شهيقًا، زفيرًا، سعيرًا … حتى تخوم الملكوت.
بدت لي طريق وصل الضفاف هذا الصيف محرقة ومحرقة، كنت أذهب عادة إلى الشرق من طريق الشمال مؤتزرًا بندف الثلج تارة، ملسوعًا بالقُرِّ تارة أخرى، بينهما البلاد التي سأدخل مرجلًا للدفء، وعاد يتناثر فيه رمادي، والصباح حين أصافحه مضمخ برائحة شواء توطئة لعبور سرب الفتنة العربية. ألفيتني أطرق بابه بل أهجم عليه من باب الجنوب، والشمال ثاوٍ كالعهد به في شغافي. ما كنت إلا كالحامل لبلاد الحرائق فتيلًا آخر، وَصَيف الشرق لهب، أقصد بيروت ودمشق التي نسيَت وجهي من عشرين حولًا وقلبي لهب، بغداد، الأغلى، الأبهى بلا نظير، فيها «مصعب»، و«بادية» وقمر مدمى، ولكن كان عليَّ أن أفعل من أجل جدولة ديون الحب.
(٢) «قمر بعقلين»
جبل مرتفع، نُسُك وسكينة، تترك بيروت لصخبها، زحام سياراتها المعتاد، واستجداء مُرشَّحِيها لأصوات الناخبين، البحر، ولو علمت، فات مثل الوقت الذي عشته لسانًا ممدودًا، مليئًا بالأحراش تحت شمس تشوي الجلد. يقبع الفقراء في جحورهم ونلوذ نحن بالجبل، تلتوي فينا طريق تنسلخ من الساحل لتصعد المَدارج الأولى لجبل الشوف، فنُلقي تحية عطرة إلى عَذارى بلدة «دير القمر» البهيات، هن اللواتي «يَصْرَعن ذا اللُّب حتى لا حراك به» مُتهادِيات بين قُدَّاس الكنيسة وفيء الصنوبر حيث الأليف على موعد مع أُلْفَته. نَصِل «بيت الدين»، فيفتح حارس العشي بوابة قَصْرها الذي كان بالأمس رَغيدًا بصوت فيروز يَصحبُنا بين المسالك الصخرية، نُرطِّب الحلق منه ماء زلالًا ونمضي خلفنا الأمراء يحتسون الأصيل غبوقًا، فإن بلغنا بلدة «بعقلين»، وقَبْلَها قرَأْنا الفاتحة حيث ثَقَبَت تلك الأيادي صَدْر كمال جنبلاط المغدور برصاص حي، وجَدْنا الشمس تنتظرنا عند آخِر محطة حول خصر البلدة الغربي قبل أن تشهق في المغيب. الدروز هنا سادة المكان، ومن لم يُلْحِق بهم الأذى فهو آمن، محفوف بالرعاية ويُكْرمون وفادته بالليل والنهار، والدروز لا يعبدون الشمس ودِينُهم نِحْلَة مُغلَقة، وهم طائفة عتيدة، بل القمر هو الذي يعبدون على ما ظهَر لي؛ فمع حلول الليل وتسلُّله التدريجي فوق المرتفعات وبين السرو والصنوبر تبدأ في سماع موسيقى السكون، وقبل أن تقول ما أحوجنا إلى الضوء يُبدِّد وحشة الظلام العالي، ويتزوَّج ولو ليلة واحدة هذه السكينة، ترى القمر هلالًا ليلتك يضم في قُربه أرضًا إلى سماء، لتسأل في أيهما أنت؟ يجيبك توًّا: لا تبتعد في السؤال فأنا المبتغي من يبتغى الآن، تراني أقترب، أدنو فأحف بالوجه مثل نسمة الصباح غدًا وأضم الصدر حتى العناق. قمر «بعقلين» إن شئتَ مددتَ يدكَ وقطفتَه كمثرى لفطور الحبيبة، وإن شاء نزل عريًّا يتيه في الشوارع، وكلما وقف أمام بيت تلألأ، أطلَّتْ نساؤه فرَشقْناه بالورد، وطيَّبْنَه بالمسك والعنبر. وإن شِئتُما معًا أَسبلتُما الجفون حين يسدل الليل كل أستاره فيأوي معك إلى سريرك حلمًا هو الحلم، وهلالًا في سماء الشرق، هذا هو الشرق.
راهِن كما تشاء، إنما قبل ذلك وبعده أيضًا، تَمتَّع دون مشيئة بهذا الهدير، جدار الصوت يهز المباني ويبعثر الأثاث، يصم كأنها الحرب ولا حرب، انطوى ليل أمس، أفَل الهلال والصليب تَكسَّر، وهذه صباحُ الخير على الطريقة الإسرائيلية؛ طائرات أعداء الأمس أم أصدقاء اليوم، لستُ أدري، تُحلِّق فوق السماء العربية بما يفوق سرعة الصوت، لعلها تُذكِّرُنا بالزمن. هذا هو الشرق لا نفايات الأخبار تَحكي عن العربدة الصهيونية نَجرَعُها مرة في مقاهينا القبيحة. في المساء امتلأت سطوح البيت بقطرات دم، كانت تَنزف من عَلٍ. رفعنا أبصارنا قرأينا القمر مَجروحًا بالقصف الإسرائيلي؛ هذا هو الشرق.
(٣) بستان هشام
وكانت الشام على مرمى عناق فجذبَتْني تلك اللكنة، النكهة، احتسيتُها للمرة الأولى، يا لَلمفارَقة، قريبًا من حديقة مونسوري بالمدينة الجامعية الباريسية، هوًى قديم يتشكل في فَقْد قريب فيَصْطَلِيان بمرآها في دمشق، ثمَّة مدن لا تُسافر إليها، بل فيها، لا يعنيك ما بها من عمران، أو مَظاهر ازدهار ممَّا تتشكل به صور المدينة الحديثة، فهذه في مجملها لن تضاهي فيها الغرب في زمن القُبح العربي، وتكالُب مُحدِثي النعمة الذين حوَّلوا مُدننا إلى ما يشبه حظائر للدواب. ما إن تحط قدميك فيها إلا وتسافر في الزمن، يرتدُّ بصرك إلى داخلك؛ أي إلى ذاكرة خاصَّة والتاريخ العربي عَمَّرها وطَرَّزها بخيوط المجد وألوان السُؤدد. هي الحاجة إلى الجذور تلبيها دمشق قبل أن يَرتدَّ إليك طَرْفك. هنا أرضٌ تتكلم العربية بالسليقة ولا تستعيرها أو تَرطن أو تَتحَذْلق، أرض تَتنفَّس العربية والأريج الذي يهب من الغوطة عند العَشِي لَعَمري عربي. ألقى وجهي قبل أن أبحث عنه، ويَجمَعني تاريخي، وَيْحِي تَبعثرت، في صحو الشرق له شوق. بدا لي معاوية ينشر سَطْوته، لا بأس يُؤسِّس الدولة العربية، لو رآها اليوم مزقًا وطواويس تُراه تَغرَّب مثلي وشقَّ قميصه مثلي بالبكاء في محراب المسجد الأموي. تَقدَّمت برعشة التائب إلى حوض الوضوء، يا ويلي كدتُ أنسى فروض الوضوء. أدَّيتُ تحية المسجد وأذَّن المؤذن إثرها لصلاة العصر، قلتُ: الله يحبني، فشهقتُ من الغبطة وقد صرتُ غريبًا عن ديني وأرومتي، تَذكَّرت صديقي علوان باشا، الرجل العصري لا تفوته الصلاة في مسجد بدر بالرباط فغَبطتُه على سكينة روحه ودعوتُ له بألف خير. ورائي بعيدًا خلف ثلاثين سنة ونَيِّف جاءني مسجد القرويين، والحصير البارد موطئ ولحاف، خلف الفقيه الجاي أو وحدي ما فاتتني صلاة قط، بعدها قليلًا كنا نخشى الله ونعشق محمدًا، بعد لَأْي أدركنَا حب عبد الناصر. بعدها ضِعْنا … وها نحن في هذا الكرب.
بدا المسجد الأموي في نهاية سوق الحميدية، غريبًا كأنه ينقرض، وأيدي الترميم تحاول إسعاف الانقراض بينما المال العربي ساهٍ عنه، مُتنكِّر له، ذاهب إلى النفايات، مبذول في السفاهات التي نعرف ولا نعرف. خرجت مع المصلين، وعند ناصية بدا لي قوم يمدون أيديهم كالمتسولين. عرفتُ منهم الزَّجَّاج، وابن السراج، وأبا الحسن الأخفش، دنوتُ منهم أسألُهم إن رأوا المتنبي يَمُر من هنا فحَمْلَقوا فيَّ مندهشين، وهم أساتذته الكبار. أظلم الوقت وتحت فانوس رأيت سيف الدولة يقارع الفراغ بسيف مبتور فناديته بلسان سميي:
فواصل قراع المنايا وكنت القتيل. الشامية فتاكة اللحظ، حليبية اللون، تذوق منها عن بُعْد حلاوة السحلب، قتلتني مرتين. على كمد يلحق بي سعيد عقل مُهدِّئًا من روعي:
أمضي قليلًا في سراب الزمن:
وإني على الليل مُلقًى «ويخرج من كل شيء سواه» إلا أحمد المجاطي لا يَبِينُ منه إلا الصوت في منفاه السحيق بعد أن تناساه الأهل وأجفل من ذكره وتذكره الشعراء الصغار، يرافقني الصوت من بَردى وحتى الأطلس وَخْز ألَم وحَفيف ندَم. فجأة وقد استأذنتُ التاريخَ لحظات؛ لأطل على يومي الحاضر وجَدْتُني مُحاطًا، محاصرًا بمئات، بآلاف الصور، بكل الألوان، بكل الأحجام، بكل القامات والضحكات. من يكون؟ من هذا؟ من هؤلاء؟ من أنا؟ ماذا تريدون بي؟ هنا تَجلَّت وهي تمد يدًا أن تعالَ بين خَمْر وحولنا وريح تَجلَّت وقد تَمازَجت بينهما، وسرَى الدفء في أوصال الليل، واهتزَّ دوننا وحولنا الحجر «وأين في غير شام يطرب الحجر؟»
(٤) نعنع «لبروج»
«البروج» بلدة في الشاوية، من لم يعرف الشاوية جهل الدنيا، ودَعْكَ من المغرب، الأصل في «لبروج» أنها سهل، لكن ما أبعدها عن السهولة؛ أرضها مطواع في الامتداد، ذات بذل، وما أمنعها، أبعدها عن ذل الطاعة، إن أحبت ملهبة للقلوب، قلبها الملتهب.
عَبرت إليها من مَجرى شريان قُبَيل انسداده، أو تَوتُّري في حريق المسافة، فدَنَت وهي تنأى، ومَضَت سوف تأتي، قرص الشمس حمى بجلد أرضها البور، الصاعد منها برجان كأنهما ساقان. مذ رأيتهما احتميتُ بين الأبراج. يا الوافد إلى ديرتنا في الجنوب نحن قوم عطاش سنسقيك من تربتنا شايًا سحريًّا نَعْنَعُه لا يشبه إلا نَعْنعي قصير الجذوع، مُعافى الوريقات، زُغبي الملمس، مُحتشم العبق، أخضر كالأخضر … لكن حذارِ، حبُّه، أعزَّك الله، أوَّلُه هَزْل، وآخِرُه دوام العطش.
(٥) ليلى والمها
فكر في أن «أكدال» بستان، حدائق معلَّقة، بابل البارحة، سُرَّ مَن رأى غدًا، كذبة ملفقة، كلمات الغد مختومة في أفواهنا بالشمع الأحمر، كلماته ليست مرآة للكلمات، لا الجنوب امرأة وهي أكثر، ولا الشمال خصاء ذكورة وهو أغزر. بينهما قوارب الموت مجدافها. إذن عُد إلى منفاك هو بِكَ أجدرُ يا سليل الضفتين. وتَماثَلْ لشفاء يُلقيك من تِيهٍ لتيه. سوف تكبر حتى تخشی سُرَّة الجنوب، ثم تأسى بكل هذا الجمال.