باريس حتى الجمام
(١) هل هي ذكرى تتجدَّد، أم وجه يتورد؟ ذاك بعض سؤال باريس إن غادرتها زمنًا، شوطًا من عمر، ثم عدت ووطِئتُ السهل فيها والممتنع، كان الخريف على موعد مع وقته، لا يخلف ميعاده أبدًا. زمن يلزم هذا المكان، الفضاء مِهاد فضاء مُتَّصل بفضائه لا يبرحه، أو لعله ذاك الراحل إلى غير عودة، ليست الألوان وشْيًا، ولا أوراق أيلول تباريح للهوى أو الشجن، سَمِّها انبلاج النفس، يدًا ترتعش أصابعها بيدك، أو كما تلوح أخرى لطيف شبيه يتخايل في ردهات مطار.
(٢) يصيبني اللون بالدوار ولا أطالب بالإفاقة منه إلا لاستئناف دوختي، كما ثَمَلٌ إلى ثَمَل يُوصِّل. الشجر يسكن القامة، يندغم فيها، وهو في الآن دليل للنظر، حتمًا إن للأغصان يقينًا في تَبدُّد قريب، ووشك الفوات سيُلْقِي بنا خارج حدود النعاس ليسلمنا إلى صحو مُتأخِّر على يقين آخَر، كيف أبرأ منه أنا الذي تُزمن فيه أوجاع … هذا الخريف؟ فهل كان الشرق فواتًا وارتدادًا إلى العراء الأول، أم الغرب سربال يغطي فيك بالطعن طعانه، وهذي النصال تتلو، ما فتئت تتكسر … على النِّصال؟
(٣) لو ذهبت إلى مطلق يقظتها، لرأيتَ عليقًا تَدلَّى من تقويس الحاجبين حتى اللَّمَى، يعلوه طَل. ليس دمعًا، هو شَدْو بِلَيل تَبقَّى من أواخر ليل، فاتَك الوقت الذي كنتَ تدركه حين النجم من مُقْلتَين يضيء كلَّ حين بك فاتِك، العليق، الآن، تَغضَّن، رطب الملمس ما زال، لكنه تَغضَّن، في مطلق يقظتها ستجيبك بالحشرجة عن سؤال يتململ في خطوتك المحمولة كالنعش مُذ رأيتَ المُدْية تُثْخِن طعنًا في جسده. لا أحد، ولا شيء، أيضًا، حدث، كل ما هنالك أن العليق تَكسَّر، وأنا، الآن، أمسح عن جبهتها ذلك الدم فاض قبل أوان … الخريف.
طلبتُ من النادل قهوة وقاربًا صغيرًا؛ كي أَعبُر إلى الضفة المقابلة، حَيَّيت بيتي القديم. بُهِتَ الرجل لطلبي، كأنه لم يسمعني أو ربَّما قال: أنت لم تَسمع، إذن، بأن «السين» جفَّ منذ رحيله. لك أن تَعبُر حافيًا أو بحذاء، فالأمر سِيَّان. رأسي هو الذي هبط على صدري وأوى إلى حدوسه القديمة. كنتُ لَمَّا أتمالك صَمْتِي حين دَوَّت في المكان منه ضحكتُه المُجلجِلة. لم أرَ أحدًا أو قامته وحْدَها ظَهرا إلى عَيْنِيَّ تَتسرَّب منها الرمال.
(٥) ستجدني إذا بحثتَ عني، إما متكئًا على انتظار ما فات، أو مُتهيِّئًا للذهاب إلى جادَّة المونبرناس؛ لرؤية امتعاض يونسكو، وهو يذرع جيئةً وذهابًا عبثية العالم، لم يَكُن يعرف أني أتجسَّس على وحدته، ولم أكن أعلم أني كنتُ أتقدَّم حثيثًا إلى مَهوى العدم الشَّفَّاف. غاب نهار آخَر وأنا أنتظر، تَلَتْه عتَمة أخرى فانْتَصف ظِلِّي، في منتصف الليلِ دخلتُ إلى «المونتانا» لأبحث عن وصلة جاز ضاعَت مني، فَفاجأَني العازف فيه شكل من نصف ظِلِّي الغائب، وثانٍ يشرب قدحًا بفم لم يَعُد لي، وثالث، هو أنا، راح يَتْبَعني في النَّفق المسدود بظهره، كما القامة خلفًا تنسرب منها الرمال.
(٦) للوقت في غابة بولونيا شَكْل جزيرة لا مرئية يخفيها الضباب، من قبلُ كنتُ فصيحًا حدَّ العري، الشمس جهيرة على بشرتي، ثم إني اكتشفتُ هنا أن الضوء المُفرط يُورِّث العمى، يَطرُدك أبدًا خارج نفسك. الذات هي الاستقرار الغامض تحت طبقة الضباب واقعة بين عُلوٍّ وتحت، لا هي إلى الأرض ولا نحو السماء تطلع، بأفواه كالأعشاش المخفية تطير منها النوارس. الصمت هنا لغات تَتأرجح، ليس صمتًا هذا هو خشوع الموتى والأحياء ينشدون مرثية للرجل الذي أدار ظهره للخريف، وانصرف على أثر خطو يقتفيه وخفق يتبعه. أظنُّ أني غطستُ في الضباب لأخفي وجهي، ولم أستطع لدموعي حبسًا.
(٧) من حسن الحظ أن المناضل آيت قدور كان هنا حين عدتُ، وحكيتُ له فصدَّق، وإلا لَظننتُ أني جُنِنتُ، والحقيقة أني ندمتُ على تأخُّر الجنون، وهو خلاف الحُمْق الذي يصيب الحمقى والمُغفَّلِين ومَن دار في فلكهم؛ فهو يُسدِل ستارًا بينك وبين قُبْح هذا العالم ودناءاته.
الذي استقبلني في مطار شارل ديغول أخذَني إليه بالأحضان، فضَمَّني شرقًا، إلى شوق هو شرقه، ثم قال: نزولًا إليها باريس لِترتعَ فيها، كما لم تفعل طوال المقام وهذا الحضور الوشيك، ما كنت اقتربت حين وصلت، ما أزداد إلا بُعدًا، ويقيني أن هذا الفضاء لا يجمعني، لن يجمعني، وإلا لَمَا احتجتُ لكل هذي المراثي وذاك الحُداء. قلتُ لمُستقْبِلي: عندي ما هو أهمُّ من المدينة، رجالها، أقصدُ منهم أصدقائي؛ المُدن ليست عمرانًا وحده، شخصيًّا أُفضِّل جادَّة الشانزليزيه، كما أراها في التلفزيون، وأهجرها أيام الآحاد والأعياد للسُّيَّاح البُلَهاء والمُتسكِّعين على رصيف دهشتي النافرة.
ليلة رأس السنة تُغْري بنوم مُبكِّر أو بانتحار مفاجئ تأخذُ معك فيه آخِر ما تَبقَّى، إن تبقَّى من جمال هذا العالم، أو إنْ أسعفك الحظُّ فطَرَق بابَ بيتك وأناخ راحلته عنده؛ لِيتخفَّف قليلًا من أعباء التِّيه، ثم قال بدون حرج: علينا بها، ليمضي العالم، هو الذي مضى.
تركت الشوارع المحمومة خلفي، مكتبات الحي اللاتيني التي لم يأكلها الماكدونالد بعد، ردَهات السوربون، مُدرَّجاتها المُنَضَّدة فوق دماغي، عادات السان جرمان، مغازَلة السين من جسر لجسر في عَشِيَّات التَّعطُّل، قهوة «لفلور» المُعتَّقة، أقداح خير الدين، «لوكلوني» الأمريكي، الحبب الشغوف بالعطش في «لوبونابارت»، والمصابيح التي سيفترش ضوؤها مُروري المُؤجَّل تحت أشجار «نويي سورسين».
تركت الذي يُترَك كله، أكثره المُبتغى وأقلُّه صبوة آخِر الليل فناء في المسرَّة، ثم عدوتُ، لاهثًا أمشي وخلفي الطرائد من كل لون وجِنس، غير واحدة كنت لها طريدة، لستُ معنيًّا بساحة أليزيا، إلا من حيث تشق في الوسط على شارعها يَمتدُّ لسانًا حتى مترو «بلیزانس». لو انحدرت بعده مائة متر، تحت جسر السكة الحديد، لشهقت كأنَّك واصل للتو؛ أي قبل عشرين عامًا، من سيدي محمد ولد مرس السلطان. بيدٍ باقةُ نعنع وبأخرى سلام حارٌّ سيورق، أيضًا، نعنعًا أعطر من شاي مقهى «البركة» رفقة خلان المغرب العربي/البربري/الصحراوي. أنت تعرف أن الخلان راحوا، تفرَّقَت بهم السُّبل أو اقتيدوا باكرًا إلى موتهم عسفًا بلا خيار. لماذا تأخرت كل هذا الصيف، سأل النادل في «البركة». الصحراوي كان هنا قبل قليل، أضاف. بدا شاردًا على غير العهد به، بلا ضَحِكه المُجلجِل ولا مَرحِه، دعوناه إلى كسكس فعافته نفسُه هو المحب لطعام لقبايل، مُوزَّع اللُّب كالمُحب، وما رأيناه يرافق إلا كتبه، انزوى في ذلك الركن القَصِيِّ، على غير عادته، وأخرج من جيب سترته تمرًا، هذا نواه باقٍ في المنفضة، راح يطعمه، ربما سمعته يتمتم: هذا آخر الحلا … الحلا … الحلاوة. سألتُ النادل: أمتأكد أنت مما تقول؟ أولستَ تَهرِف؟ فإني والقوم في جنوب وشمال على خلاف معك، ربما قصدتَ شخصًا آخر. أما أنا فأقصد الصحراوي الذي ينهي عمله في مكتبه بساحة فيكتور هوغو، ويأخذ المترو ويأتي إلينا مباشرة، فيجد السي محمد سنيترا، حميد القسنطيني، والطاهر ولد لعزازكة، وأخيرًا أنا.
– يا سيدي اعلم أنني أقصده هو، والذين فكَّرُوا في شيء آخر إنما شُبِّه لهم بالذات.
لم تَأنَس نفسي البقاء في المقاهي بعد الذي سمعت، لا بُدَّ أن أغذَّ السير إليه، وما جئتُ أتفقد الديار إلا من أَجْله، انعطفت يمين مقهى «البركة» في زقاق «بلزاك» صُعدًا فيه باتجاه «المجزرة القديمة» حولتها بلدية الدائرة الخامسة عشرة إلى حديقة يانعة. لو كان يوم الأحد لوجَدْته حتمًا يَتبضَّع عند مدخلها تَلِيد الكتب، ويحملها سريعًا إلى غرفة وصالون وغرفة ومطبخ وحمام ومغسلة ومخزن ورفوف ضاقت بالكتب، وهو يَتعثَّر بينها منفوش الشعر، لم يُغيِّر ثيابه من أيام، لم يأكلْ ربما من أيام، إلا من بقايا ما حمل. قطعة خبز يَبِست من هنا، تفاحة نصف مَقْضومة هناك، قِنِّينة ماء إلى الربع، عشرة كتب مفتوحة، جرائد ومجلات فوق السرير ودونه وفوق الوسادة. إذا أردت الجلوس فوق الأريكة، نظرتَ إلى القواميس وكُتب الحشرات والحيتان شزرًا. أكاد أشكوها إليه ولا من مُغِيث؛ لأنَّ عينيه تسرحان في الفلوات وهُما ترسمان على أكوام الورق ذاكرةً للرمال.
وإذن، فقد كان نادل «مقهى البركة» صادقًا، مُحقًّا، شارِد اللُّب كان صاحبي حقًّا … لا بأس، فقد كان حيًّا، والقوم أولئك إنما شُبِّه لهم، ومَضيتُ، فرحي يطير فرحًا باللُّقْيا ومضيتُ … لانتظاره.
(٨) عدتُ إلى «المونتانا» في الهزيع الأخير … عثرتُ على ظل لظلي مُنزوِيًا تحت نوتة، والمغنية السوداء تحمل ميكروفونًا خلته فمي منه تغني: