أنا الكتاب الذي …

(١) سواء استشرفت المكان عن بُعد، عن قُرب عَلِقْت به، أو أقمت فيه ملء الحلول، فالمكان يَتقلَّص، المساحة فيه تنكمش انكماش الجلد البشري يغزوه زحف العمر المتراجع، تُربته تَتحلَّل وألوانه تُحَوَّل، ما كان له أبعادٌ يَعود إلى حدود المهاد. أين شماله من جنوبه؟ أم أين الظل فيه من القامة؟ ومَن الساكن فيه؟ ويله، مَن المسكون به؟ خلاء حين يخلو من ذاته، وعمران حين يصدح فيه الكلام، بصفاء السريرة أسمعه يصدح، ثم ينهض ملء شموخ، رغم أنه مأهول بالعطب إلى لا نهايات التلف.

(٢) لو حدثتني قليلًا عن الهواء! كلَّا عن الهوى، بلى عن الهواء. قال صاحبي المرصود على لساني وإلى فمي، بسمعه الواجف يصيخ، فتحت رئتي ملء اتساعهما عساني أستنشق قليلًا بعض الهواء، في الشهيق دخلتْ سموات ملَبَّدة وصديد وعقارب، في الزفير سال مني سائل كامد وماع رفات من كلمات، لم يكن لطبقة الأوزون المثقوبة أي دور في فساد الأمكنة، الهواء لم يشح تمامًا، لَمَّا ينعدم، كل ما هنالك أنه لا يكفي لنا جميعًا؛ أي لي ولأولئك، ولذلك أفضل أن …

(٣) لو أخذت ورقة بيضاء وغلافًا وقَلمًا وطابع بريد، لو استحضرت ذاكرة أمس، القلب الذي دَوَّى ولم يَذْوِ، شوارع كالأجساد متقاطعة، زوايا مُعتِمة في أقبية دافئة، ثمالات، رماد في منفضة، سرير ضج أمس بالشهوة العارمة، المنفى بوصفه الوجود الصاعق للحرية، كلاب الحراسة عند الحدود، «كلمات ليست كالكلمات»، يد امرأة تلوح من شرفة عالية نحو اللامرئي، قَلَمي، إذ يشتط في الإدانة ودِيدان تلعق حبره، لو أمكن التذكر، لو أمكن الألم، لو أمكن البوح لسميت هذا فضاء.

(٤) من الأفضل أن تختار طريقك، طريقًا واحدة، لا غير، دَعْها تُؤدِّي بك إلى التهلكة، لكنها طريقك أنت بالذات، ذاك الذي عرفت، وأعرف منه كثيرًا يذرع أكثر من طريق، إذا سُدَّت هذه ينتقل إلى أخرى، فثالثة، وهكذا دواليه. تلك حكمة العصر عنده، يرافقك هنا، بل ينصحك بالطريق، في منتصف المسافة، يلهث قبل الأوان، لينعطف إلى أول زقاق، كان أمس هنا، صار أمس هناك، لم تعبأ به الطرقات، هو الذي احترف التجوال، حكمة «ليوفيري» سهلة وصارمة، أقبَل نحوي من رصيفي، تركتُ الرصيف، كل الطرق له … وحلَّقْت.

(٥) أمعنتُ في الصمت، ضَجُّوا بالكلام، خطتُ فمي، انتفخَت أشداقهم، ما همَّني أن أُزْدَرى؛ فلوحة الازدراء مكتملة.

من حُسْن الحظ أن «لسان الفتى نصف ونصف فؤاده.» لذا لا أبالي بصورة اللحم والدم، لو أخذوها، سرقوها، نَهشوها، أشرق في بلاغة صمتك، المجاز ليس قبعة سحرية ولا فرقعة أصابع، كلماته ليست مبذولة في الطريق، هو الافتتان، هنيهة وتسلب لُبَّك أو تقوم القيامة، الضمائر تلعب اليوم الجمع والقسمة، ضميرك غائب بصيغة متكلم، يملأ قدح الصمت حتى الجمام … ولا يشربه، وفي انتظار، يكتفي بالنظر، فلوحة الهزء، أيضًا، مكتملة.

(٦) أمام موظف البنك وقفتُ، قال: مرحبًا، نحن في الخدمة. قلت: الأمر سهل وصعب، ولا تظنني مجنونًا، أريد أن أفتح حسابًا للغياب. أجاب للتَّوِّ: أهذا كل ما في الأمر؟! أتنازل لك عن مكاني، فالقائمة طويلة، ومن أجْل التأكد مِن تَحضُّرك، خذ دَورك كالآخَرين، وانظر خَلْفك يا أخ، فالطابور طويل، أردتُ أن أسأله: مَن هؤلاء؟ وما الذي يجمعنا في هذا الطلب؟ ولماذا يتنازلون عن حفل مُقام رخيصًا في الخارج، مُوثِرين فتح حساب لهم بالغياب على حساب بطلب الفائدة؟ كدتُ أسأله، لولا مغادرته لموقعه، وانضمامه إلينا، نحن الحاضرين بحرارة في وجه الغياب.

(٧) اتصل الوقت أو انفصل، تَعُودين من أقاصي الخطو، ومن تلاشي الحفيف، اخشَوْشَن ثوب الزمن، أم استَدَقَّ الهمس حتى مَلاسة النِّطْع، تَنفُذين، قلتُ: ضاق القلب حتى لا يتسع … مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وجُعِلت أنت. كيف أنتَ من كيف أنا؟ أم تُراك استبدلت قُدَّاس الرذاذ بصراخ العابرين؟ أم تُرى اتَّسع الخَرْق على الراتق، أم ماذا والصهيل صار نباحًا؟ ما أجمل الكلاب حين تقعي! لكن مَن أرى دون الكلاب. شارد أنا لا أبالي تحت حدِّ النِّطْع، العين إذ فاتت منك نظرتها انغراز النصل أو تلقفتني. وأراك رغم كل شيء، من خرم إبرة تَعْبُرين.

(٨) لو كنتُ استعرتك صوتًا لخلقت أنثى. لَقالِق في «قصر البديع» تَغار من نظرتي إلى صوتك أنت أنثى. شمس فوق شمس، كواكب غُفل دونها، يَزْوَرُّ القمر ارتجافًا، يتسع الرصيف لموسيقى الخطو. انظروا كيف يكون بذخ الظل أو تشبيه ظل السبيل في بحثه عن وجه الشبه، وكل ما في الأمر أنها لا تشبه إلا فتنتها، حاشا أن يطولها وجه شبه. الأنثى غير امرأة، أشبق من ريق يَتحلَّب بين بين، أزْأَر ممَّا في عرين أسد، لم نعرف الخريف هذا العام، جاء الشتاء دفعة واحدة. غدق من ضروع منها عليها، والرياح، اسألوها من تكون.

(٩) حين تكون صغيرًا تَعلَّم أن تكبر بهدوء، تعلَّم الصبر؛ لأن للطبيعة وللموهبة، أيضًا، قوانينها، ولن يطفئ أحد نور الله بفم.

ليست حكمة صينية، هي تحصيل حاصل، سَمِّه مغربيًّا لو شئت، لو تطاولت أكثر خانك ظِلُّك، وحده يعرف قدره، وقدرك، هو سِرُّك، أنت لا تملك لغزًا سوى أنك تريد أن تكبر أكثر من عمرك؛ من الآن لا يتَّسع لك المدى قبل أن تكبر، لا تعرف الفرح، لن تطول البكاء، والطرقات لو أغلقتها، وهذه السطور لو محوتها، وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ستبقى بعدها صغيرًا، بلا ظِل، بَلْهَ بلا قامة، ولا زغب، ككل الفراخ التي ستصبر على الطيران؛ لأنها تملك الموهبة.

(١٠) ربما كانت أفضل طريقة لمواصلة الحياة، هي أن تعيش الحياة نفسها، مُستساغة، كما تريد، مَهما بدا شأنها، بكل يُسر، في شساعة القُبْح المنتشر ثَمَّة في مكانٍ ما أَلْق من جمال يحتاج إلى عين لتكتشفه، لِتُفْتن به، كن هذه العين. في كثبان البغضاء الناهضة في صحراء العمر، ثمة جداول من محبة، احفر عنها عميقًا حتى والرمل يمتص زلالها، صدِّق السراب إذا سلبَك، استسلم لغوايته حتى تبلغ السقيا أو تهلك، لا بأس، بهذا العطش، كن هذا الحفار؛ لكي تغيض أعداءك عِش، تَنفَّس الهواء فقط. أما أعدائي فأنا كفيل بهم.

(١١) أنا الكتاب، الكتاب المغربي تحديدًا، عندي حكاية وأستسمح القراء عذرًا، إذا أثقلتُ وفرضتُ عليهم سماع حكايتي، فهي منهم وإليهم، وفي النهاية أنا مضطر أن ألجأ للقارئ، فبدونه لستُ شيئًا، هو المُتلقي، بلغة هذه الأيام، من يحسم في وجودي، أظن أني أبدًا هكذا، أو على الشكل التالي: يوجد شخص يُسمِّي نفسه كاتبًا، مؤلِّفًا، باحثًا، أو أديبًا، ما هَمَّ يجلس إلى مكتبه واضعًا أمامه كوم أوراق أو أمام الحاسوب، إما لِيخُط أو يَرقن. في رأسه حكاية ما، فكرة إحساس مُلتَبس، صور مُتمَوِّجة، وما شاكل.

يفترض أنه على غير وفاق مع الحياة، أنه يحس بنقص ما فيما يرى حوله ويتوهم أنه موكول له؛ مثل أي نبي، الإجهاز على النقص، وإعادة ترتيب بيت الحياة. من الجائز أن يكون هذا الكاتب مصابًا بعصاب ما، يعاني من نقص، بل من المؤكد، والحال، كما أعرف، أن الخلل مُعشِّش فيه، وإلا لكان سويًّا مثل سواء الناس وانصرف عن هذا الورق، بعد شهر، بعد عام، بعد عُمْر، بعدما لا أدري يصبح كتابه جاهزًا — اعذروا أنانيتي، وليكن الكتاب مجموعة قصصية بعنوان: «رؤيا السيد سين» مؤلِّفها صاحب هذه السطور، قضى شطرًا من عمره يكتب ولا يعرف متى يرتفع عنه هذا البلاء — يَحُكُّ رأسه ألف مرة وهو يدير فيه أسماء المطابع ودُور النَّشْر مَشرِقًا ومغارب، ويقرر: مَغربي أليق بكتابي، وبعد هِياط ومِياط وشفاعة قريش، يدفع الكتاب إلى الطبع، وتُصدِره دار النشر ويغتبط صاحبه أيَّما غبطة، والصدور مُتزامِن مع معرض الكتاب بالدار البيضاء، والمناسبة شرط، كما يقول الفقهاء. وبما أن صاحب الكتاب فرد لا مؤسَّسة، فلا بُدَّ له أن يبحث عن موزِّع، بل وعن موزِّع استثنائي يقوم بمهمته مضافًا إليها الحَدب والاحتضان كما وجدَهما بأريحية وحُسْن اقتبال في شركة «سبريس» العامرة.

وهنا أصِل إلى لُبِّ الحكاية، فإن هذه الدار، دام لها العِز، فتحَت لي — أنا الكتاب الجديد — رِواقَها في المعرض الدولي، ورتَّبَت لي رفوفًا عُرِضْت فيها أفضل عرض، ومن أول يوم للافتتاح بدأتْ رحلة الشَّوق والعذاب. الشوق الأول في أن أُباع، فلا يُخْذَل في مُؤلِّفي الذي يُعلِّق أوهامًا كبيرة على قصصه، المسكين، وهذا على كل حال يَهُون؛ إذ ينبغي ألَّا تُخْذَل بأي حال، وقد فتحت لي بابها على مصراعيه وستَتجَشَّم عناء توزيعي في ربوع البلاد.

هذه المخاوف تَلبَّستْني كلها وأنا مغمور بالشوق رغم كل شيء. وأعترف أن كثيرين أقبلوا عليَّ يقتنوني ويَحتَفُون إما برغبة أو بفضول للمعرفة، فكنتُ أندسُّ في أيديهم بحرارة، آملًا أن أُقْرَأ بسرعة وأُحقِّق بعض «أوهام» صاحبي الذي ظلَّ صامدًا يقدمني مشفوعًا بتوقيع خاص.

أما رحلة العذاب يا سادة، فقد بدأت حين أخذتُ أقع بين الأيدي، تتفحصني العيون عن قُرْب وبُعْد. تَكُر وتَفِر؛ منها الذي يَتلَمَّسني بحنُوٍّ، منها مَن يعجبني، منها من يقبلني طولًا عرضًا طولًا، منها من يكيلني لِيعْرِف وزني، منها الذي يحملني إلى طاولة المؤلِّف ليسائله عن أصلي وفصلي وأغراضي ومقاصدي، وهو يشرح ثم «شرَّح، ملَّح» وأخيرًا يُلْقي بي جزافًا وينصرف، وأخيرًا وقد تورَّم لحمي وتَفكَّكتْ عظامي، أَوْحيتُ للمؤلِّف بما ينبغي أن يَتصرَّف مع الزوار ليريحني من هذا العذاب وقد فعل.

جاءه شخص وبدأ معه لعبة سين وجيم، واعلاش كيدوي هذا الكتاب، فأجابه مستسلمًا: «شوف يا أخي، هذه السلعة ديالنا بيع ومقال تشري الكتاب أولًا، وإذا ما عجبكش آجي غدًا ونردوا ليك فلوسك.»

وهنا انتفضتُ في وجه الكاتب: «أنا لستُ سروالًا ولا قفطانًا، ولن أرضى بهذا الهوان، هذا شأنك أن تصبح مازوخيًّا، أما أنا وإلى أن تستفيق من أوهامك، فإني سأنظم مُظاهَرة في المعرض، وأعلن الإضراب، وانظر ها أنا أصرخ، أصرخ، وسأستمر في الصراخ والإضراب إلى أن …»

١٦ / ١١ / ١٩٩٦م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥