سِرُّ تلك الكلمة
الرجل الذي أخذ طريق البلاد من الشمال إلى الجنوب، رَسَت به الباخرة في ميناء طنجة، بَدَت له المباني البيضاء من بعيد مثل أعلام ترفرف، أو وشاحات حرير منسدلة من شرفات السماء إلى عتبات الضفاف، المدينة التي يعرف قَبْل زَحْف الذُّباب وتَسلُّط التِّنِّين مُنسَحِبة إلى صمت محبوك بألغاز عمرها الفائت. تَقتات بفضَلات الذِّكْرى، حينًا، وبفُتات الحنين حينًا آخر، وطَورًا تَلْفى نفسها مقضومة بين فَكَّي منشارين والوطن تحتها غمٌّ وصدأ.
الرجل الذي من مَنافي العمر أتى، عوض أن يقصد أهله مُتلهِّفًا لعناقهم، وأولاد الدرب القدامى للاستمتاع بآخِر النكات الوطنية، ولقاء كراسي قديمة في حديقة أمْسَت شاحبةً كان يجلس فوقها مع أول حبيبة، بدل أن يفتح رئتين لِيستَنْشق ريحة البلاد دفعة واحدة، بعد أن يزفر رائحة الشمال دفعتين، ثم يشرع في عَبِّ البصر بصور نسَجَها له حلمه في ليالٍ مُطفَأة النجوم، غذاها حنين خِصْب أحس به يكبر، يكبر مثل جَنِين إلى أن وصل أوان الوضع، فلمَّا خاف عليه من عملية قيصرية يعرف من تجارب مَن سبقوه أنها تترك في النفس جرحًا لا يندمل، أو كما تندمل جراح الغرباء وقتًا مُطامِنًا لتستأنف نَخْسَها بلا مُناسبة، على حين غِرَّة، هكذا، عند سماع قَرْع أجراس كنيسة وافتقاد أذان رَخيم من صومعةٍ مُفتقَدة، أو حين يُكْثِر بغير لسانه من قول صباح الخير ومساء الخير ويلعن أبوها جرة، أو يُضْطَر لقول أُحبُّك بعد طول إلحاح لامرأة شقراء يسيح وهجه فوق جسدها، وفي لحظة مُباغتة يكتشف أنها بلا رائحة أو عاصفة من عِطْر ليس غير.
لم يكن فيها ما عند بنات بلاده السَّمراوات، القَمحِيَّات، حاملات تحت آباطهن عبير التراب، كُنَّ يمشين أمامه وهن يُداعِبن خصلات شاردة الموج من بعيد، تَسْبي عن غير قَصْد الطير الشريد الذي هو، فيسمعُه يقول صباح الخير، مساء الخير، بلغته، بلسان منه يعرفه، فيحس طعم الصباح يُغَمْغم كصبي مَرِح بين شفتيه. والأصيل إما له لُكْنة الورد أو طعم القهوة بالحليب مغموس فيها خبز بالسمن والعسل، أما الليل فنُجوم لعوب مثل عيون السعدية لهلالية أو حليمة لفضالية تحرث الأرض وقلبه بالضوء، وفي ساعة خروج العفاريت يهتاج بالشوق ولا يعرف أين يمضي، ورغم كل شيء يمضي وقد طوى الشاوية، وهو الطائر الشريد بين جناحيه، عاقَر دمها اللَّجب، وخضَّب العينين بنظرَة عَطَش ومضى. كانت الأرض وقتها هُوَّة مفتوحة تبلع الواقفين والعابرين والصامدين أيضًا، وهو يغسل وجهه بالمطر النَّزْر فلا يكفيه، ثم بطوفان عارم يَتمنَّاه فلا يأتيه، وهي لا تكفي تلعب، تلاعب، تتأرجح، تَتفكَّك، تَتأوَّه، لا تهمد هنيهة إلا لتواصل بغناء له طعم فجور مُعتَّق، لا يكاد الجسد المُؤلَّه بنشوته يصحو منه، إلا ليهوي غريقًا وقد اصطلى جحيمها. قراره جحيمه الآن ارتحل من غربة إلى غربة يرتحل، وفي كل مَرَّة يقول هذي والتوبة ولا يتوب، كيف ينزع الجمر عنه حتى لو تَرمَّد هو رماده حتى لو صار غبارًا، والغبار طريق؟
لم يكن هائمًا على وجهه، بل على قلبه، المسافات طالت أم قَصرت تباريح من ذاك الرماد، كذا من لفحها المُستَعِر لا يغادر خرائطه في الجسد، هو دومًا بين رحيلين، منه إليه، يُضَحِّي للحاضر بقربان ماضيه، وينثني على كَمَد عندما لا يسمع الوصلة مَبحوحة بزهوان الشاوية. هل يقول الرجل الذي ينحني من شمال لجنوب نازلًا حافرًا في تضاريس الثَّمل الرائق والصحوة البارقة: إن كل شيء يَتَّفِق، كل شيء يَخْتَلف، كل شيء لا شيء وكله نصفه، بعضه، جزؤه، قلَّ نَدر؟ واصطفى حتى اختفى أم هو المصطفى حين يستوحش في عرين الغرباء، وإبَّان يُصْعَق فوق الرءوس المضخمة هي من خواء، صليل صدئ وصهيل خيول تعلك في ليل الهزائم. مقصلة تلك الرءوس دونها الظهور مُحدودِبة مثل كدية عوجاء، ورياح الخواء تهب حتى لا مزيد، أو سأستهلُّ نفخي في السور بعد أن فاتَ الأوان وكان في فواتي مِن بَر لِبَر مثل موجة نافرة اعتلَت صهوة البحر، وما ارتمت غير نثيث من تكونها عند ساحل مدينة كان فيها الفُرْسان قد رابطوا يومًا ثم أمْسَوا إلى الخيبة مربوطين.
وأنا هنا أو هناك، وحدي كما كنتُ وأبقى، أتَقرَّى كل هذا الذي يحدث فلا أرى شيئًا يحدث، أتَملَّى صفحة الماء فوق يدي لأرى وجهي القديم حين لا يحدث شيء ولا أحد يجيء، وبي أمل أن يستغرقني ثَملي بك حتى لا نهايات الثَّمل؛ لكيلا تخدعني الصحوة الكاذبة بعد كل هذا الكذب، وانتشار البَدد، لعلَّك قد تستفيق أيهذا الولد الذي كان، والذي أقسم، لا يبغي قَسمًا آخَر بغير اسم هذا البلد، هو ذا في المزاد، الأصوات تعلو حوله، لغط من كل جانب والموتى، أيضًا، ضَجُّوا من هذا اللغط يحسبون أصواتهم ساحرة، والكلمات إذا قالوها هي الشهد يحسبون، حين رأيتهم، أنا أراهم دائمًا هكذا، خلف منصة يجلسون، بوقار كامل وعيون مسكونة بالفراغ، هؤلاء ليس لديهم داخل لينظروا إليه، والخارج منهم يهرب وهم يلاحقونه بالأشرطة، بالمقصات وضرب الدفوف.
دخلتُ إلى القاعة عَنوةً لسماع شيء، ولم يكن عندي أي مشروع لإعلان تَمرُّد؛ ذاك عهد مضى وانقضينا، ننظر اليوم إلى الريح، إذا هبَّت عاتية، فنقول: هذه عاصفة لم تَعُد تعبأ بهياكلنا المنخورة، بقاعٍ صَفْصفٍ حتى ولو زُيِّن بالبُسُط السُّندسية، العواصف تهب على الأحياء وحدهم، أما العظام النخرة … لم يكن عندي أي مشروع لتنظيم مظاهرة كالتي أنوي يومًا داخل مستشفًى أو غابة أو أمام برلمان حقيقي حاملًا قلبي وحده لافتة وشعارًا … أمام كل هذا الهزء؛ ولذا، فإني جلستُ في آخر صف، فالصفوف الأولى مباعة أو مُؤجَّرة، وهي لا تعنيني في كل حالٍ. الضوء مُسلَّط عليهم، على المُتربِّعين فوق المنصة والمقابِلِين لهم مباشرةً بوجوه طافحة بِشْرًا، سيستمعون عمَّا قليل إلى حشد من خطباء مُبشِّرين طاردِين أشباح النذير، أشباحنا في الصفوف الخلفية انسحب عنها الظلام كأنَّ الضوء لا يليق بنا، كأن عيوننا سيطير منها الشرر، يقذف جمرًا فيحرق هذه القاعة ومن فيها، بدءًا منهم، ثم يعود الجمر يلوذ برماد أجسادنا في انتظار الجولة القادمة لحريق مضى ولم يأتِ، فالحرائق الآن كلام في المزاد؛ ولذا فضَّلت أن أجلس في آخِر صف، في أقصى ركن، ما رآني أحد، لا أكاد أرى أحدًا. كلمات بغاء ترقُص وحدها فوق المنصة. اهتاج الجمهور من النشوة والإعجاب فاحتاج إلى التعبير بيديه، احتاج طبعًا، إلى التصفيق واكتشف كل جالس وواقف ومُعلَّق أنه بلا يدين، واكتشفوا بعد حين أن شفاههم مَخيطة؛ أي غير قادرين على الصَّفِير لرد الجميل للخطباء المبشرين.
عندئذٍ نهضَتِ الكلمة التي كانت جالسة في الصف الأخير وتقدَّمَت إلى الأمام، وقفزَت نحو المنصة، خلفها ولمجرد رؤيتها ارتعد القاعدون، لم تَتكلَّم واقشعَرَّت أبدانهم، قُبالتها بدأ الجمهور يَتمَلْمل بعضُه، جُلُّه راح يَتملْمَل؛ الأماميون منهم انضَمُّوا إلى المِنَصِّيِّين، مُستصرِخِين، مُستنجدِين: أنقذونا منها، توجَّه هؤلاء جميعًا إلى الجمهور، لأول مرة، بخنوع، برجاء حارٍّ وبلا خيلاء: أنقذونا منها. تَعلَّق الجمهور بها، وهو لا يفهم شيئًا، بلى هو يفهم الآن كل شيء، وبنبرة متذمرة، ساخطة، وأي غضب تعلق بها راجيًا: أنقذينا منهم، عندئذٍ نزلت من المنصة مخترقة الصفوف بكبرياء، وشيئًا فشيئًا تَزحْزَح الجالسون من مقاعدهم، سَحبوا أجسادهم من كراسي الحديد، اقتلعوها ورموا بها … كرسيًّا، كرسيًّا، كرسيًّا إلى تلك المنصة. ثم ساروا خلفها يجمعون أشلاءهم وهي في الخارج تمضي وَهُم خلفها، معها يمضون نحو …
في مكان آخَر من هذا العالم المُضحِك المُبْكِي، اجتمع قوم آخرون على درجة من الوقار والضخامة لا مزيد عليها، بَدَوا في تمام قيافتهم، والهيبة منهم وحولهم تطير لها القلوب، لم يكونوا في حاجة للالتفاف خلف منصة واحدة، فكل واحد منهم بمفرده منصة، هؤلاء قوم لا وقت عندهم للإطالة في الكلام، فإن نبسوا فَبِنْت شَفة، عادةً يتغامزون بالعين، ويُفضِّلون البلاغة، لكن اجتماعهم هذا استثنائي، فوق العادة؛ ولذلك لا بُدَّ أن يَتكلَّموا وأن تسمع منهم عبارات شديدة اللهجة تَرتَعِد لها فرائص العالم، بعد أن تصطك لها أسنان وكالات الأنباء التي أبرقت إلى جميع أركان المعمورة بالخبر اليقين: مفاده أن القوم بعد ليالٍ من الكَدِّ والجد، بيضاء حمراء، أصدروا بيانًا يُحذِّرون فيه تلك اﻟ… من مَغبَّة الاستمرار في اﻟ… وأن كل مَن تُسوِّل له نفسه تَحدِّي هذا القرار سوف ﯾ…