في حب مصر وحبنا

لو نطقت الشرق لتلعثَمَت الأبجدية على لساني مُستنفِرة أهواءها الدَّفِينة، رأيتُها مُحلِّقة بأجنحة المدن وأسماء الأصدقاء وعلامات الأماكن. الشرق تكتبُ سيرتك وإذ تروي بعض سيرته، وفي ضفته تكتنز خصوبة كل الضفاف. أهو الشوق برَّح بك؛ لتشدَّ الرحيل إلى طُرُق كالخصور الَتفَّت بك قبل عشرين سنة ونَيِّف، في استدارتها الأولى راقصة في حضرة جموحك، أم إنك لا تبرأ إلا باعتلال يتفانى فيك داؤه، والأيام سبحة جروح تكر ذبحة، ذبحة؟

تلك القاهرة، كما لم تحلم بها أبدًا قبل عقدين من الزمن، كنت لتبقى ملك الرحيل في أحلامك، وها هي ذي فوق الكف دفعة واحدة: غنج وأهرام وأنف كليوباترا، وعصَا طه حسين تجس بلاط الجامع الأزهر، وأنفي يَتشمَّم البخور ونكهة التوابل بين السيدة زينب والحسين، حتى إذا ظَمئت الروح سقيتها العرقسوس بمقهى الفيشاوي، وما أنا إلا مُقتفٍ مَسار بطلٍ تائه في رواية، كلَّا، أنا التائه أرتق نسيح العمر بخيوط أحارُ في تَوقيتها. يطل الأمس واليوم من رأسها من شرفة واحدة، ومعًا نُرى، ونحن نصعد في هذا المهوى العميق عمق ما في حياة العرب من حسرات، أغبط الذين يكتبون سِيَرهم بانتظام ويَروُونها بوعي كامل، كأن الماضي، بكل تضاريسه واحْدِيدابه، كتلة صمَّاء في قبضة اليد، وبعبارة أخرى، فأنا لا أعرف أين تقع القاهرة التي نزلت بها مرات وليس بيني وبينها سوى أيام من عودة. الجغرافيا عندي موطنها في غير المكان، حيث هي مرسومة. الأماكن تشحذ أو تشحب على حد المشاعر ملتهبة أو فاترة. العاجل، الآني لا يغريني في شيء، الكم الهائل من الصور والوجوه والتفاصيل لا يعنيني إلا بقدر ما ينقدح ببعضه بزناد لحظة صاعقة أنا فيها المقدوح والشهاب.

لن تكتب أبدًا إلا عن ماضيك، وما الكتابة إلا سُلافة الماضي المُعتَّق في دِنَان نسيان مُؤجَّل، تستوطن رُكنًا من الذاكرة، فَجوة في الروح، هي الكُمُون حتى تَشتعل بجمرة الوقت، وحينئذٍ، فهي تَحرِقك مع الأخضر واليابس في طريقها. والماضي فُسَيفِساء، الفن وحْدَه يُحْسِن تشكيلها ويَمهر في تركيبِ قِطَعِها، والفن غِواية وجُنون ودأب وصنعة، الأحاجي نفسها يحتاج راويها إلى خيال وتطريز، فماذا عندي، الآن، من هذه الإعجازات وأنا لا أستطيع أن أسترجع من تلك القاهرة سوى فُتات من ذكريات تَرشَح من ذاكرة عمر يَترمَّد، وحولنا كل هذا الغبار؟!

إذا انحدرت بعيدًا في مهوى العهد الساداتي ستجد من يمسك بيدك ليسحبك من زحام خان الخليلي الفولكلوري، رغم أن عينيك مثبتتان على المَشربِيَّات والنوافذ المعشقة تتوهم خلفها غمازات لاهبة، يسحبك الساخر الأكبر في جماعة الحرافيش؛ ليدفع بك في أزِقَّة حي الغورية هامسًا في أذنك: الآن، ستتَعرَّف على مولانا، ومن هو مولانا يا بهاجيجو؟ هو الشيخ إمام طبعًا، يا مغربي، فأَفِقْ من غفلتك. كتبت هذا الشرح قبل عشرين عامًا وما أسرده الآن فُتات، أمام باب شديد الانحناء تقوس ظَهرُكما وانْقذفْتُما دفعة واحدة في غرفة ما أضيقها لولا فسحة التطلع: فلَّاحون، عُمال، رسام شعبي، امرأة تُعِد الشاي الخاتر، مولانا بنظَّارتَيه السوداوين يَتفَكَّه، أحمد فؤاد نجم بقامته الصعيدية يُرسِل الزَّجَل الغاضب فتَسمعه مُجلجلًا تارةً، منغومًا تارةً أخرى من صوت الكفيف الجريح، لم يكن إمام ولا نجم آنذاك قد أصبحا موضةً لاستهلاك مُراهِقي اليسار والمزايدين علينا في الأحلام الكبيرة. كانا آنذاك تعبيرًا تلقائيًّا لغضب مَرِح وفكاهة سوداء للاحتجاج على انفتاح أهوج، سيد الطغاة والجشعين من كل صنف لِيُنْجب سلالة من سُمُّوا بالقِطَط السِّمان يَبُوسون أيدي الأمريكان، الذين راحوا بعد تكرار هزائمنا و«لهف» نَصْر مُجْهَض يَصولون ويَجُولون في بلاد العربان، كان الرَّجُلان الفنانان إذ ذاك يَمنحان فَنَّهُما مجانًا في بيوت الفقراء: هذه عقيقة، وهذا عُرس بسيط، وتلك سهرة للأشقياء، وإذ تَنقَّلت معهما في أكثر من مكان، كُنَّا أشبه بكومونة جديدة تُنذر بالوبال … وما كنا إلا إلى زوال، عجبي! عجبي ولهفي على تلك الأيام، مِن حِبْرِها ظننتُ أنني سأستنهض الهِمَم في أرض بَوار، أرضي. وجريدة «المحرر» لمن يملك قدرة الاستقصاء ونُبْل التَّذكُّر النزيه، نطقَت بلهفة واحترار سنوات الجمر، يا لتلك السنوات!

الشَّرْق سِحر، فتنةٌ للناظرين، موزاييك فرعوني، فينيقي، سومري، عربي، وثَني، إسلامي، مُتنَبِّي، مَعَرِّي، نواسي، حَلَّاجي، قرمطي، إخشيدي، فاطمي، مملوكي، ناصري على جلد مَسحور، هو جِلْدي مُرَقَّط باكتناز الذاكرة الملتهبة بين قاهرتين؛ الأولى التي ضممتُ، أسكنتُها الشغافَ، فتحتُ لنيلها قنوات في شراييني يجري ماؤها، أَحِنُّ إليها وأنا منها، فيها أرى شعبها لأفتقد شعبي وحبهم لوطنهم فَيهيج في وطن أريد أن أحبه، الأولى، دائمًا مثل تلك الحكايات الألف لَيلِيَّة، بينما الأيادي الصلبة تعاند التراب، وما الغناء سوى بَحَّة حزن، شجن وَنجوى، غضب منفوث في نرجيلة وآخَر محتقن في نظرات الحرمان والانكسار.

ويوم كسرَتْنا هزيمة ٦٧، حلَّت القاهرة محل «ظهر المهراز» في ذلك المنفى الجبلي بفاس، أيام حُزْن لم يُعْجَم لها عُود، واحترقنا، وبكينا، ورأينا عبد الناصر في الشمس والقمر، ومن قبل كنا نُنْشِد ومع عبد الوهاب «أيُّ سِرِّ فيك، إني لست أدري؟/كل ما فيك من الأسرار يُغري.»

وحين كبرنا لم نجد ما نُعَوِّض به هذا الحب إلا حبه، فانكفأنا على جراحنا، وتَلعثَمت على شفاهنا أبجدية الأسماء والمدن اسمها في قلبها نموت، ونكاد نحيا.

أما الثانية، وإن كانت في الأصل لا تُثنَّى، فاستقبلتني بصخب الموج البشري، بعشرات الآلاف من السيارات، تلال نمل تَتقاطع بين الجسور والقناطر تحتها أعلاها، بنيلها يجري، كما كان منذ آلاف السنين، بالناس الغَلابة والناس الغَلَّابِين، بالكَدَح مَسكوكًا في الخطوات اللاهثة، وسماء كأنها لا تشبه أي سماء، أتطلع إليها؛ بحثًا عن سمائي، أو عن وجهها أتشرد فيه بين الضفاف. كأن سهرتنا في الهرم لم تَبدأ إلا من نسغ البارحة، وأنا تركتُها هنا تركتُها هناك منذ عشرين، وها عام آخر سينقضي بعد لَوعة آزِفَة، لكل عمر نَشْوَته، له حُرْقَته، وحُرقتُك أنت لا تمضي، رابضة هنا مثل أبي الهول. وقفتُ قبالته، أظن للمرة العاشرة فأدركتُ أنه ينظر إليَّ ساخرًا ليعلمني أن الزمن كله لم يَنلْ إلا مِن أنفه، وهو رغمه سيبقى أما أنتَ فماضٍ، فلماذا جئتَ إليَّ ثانية وعاشرة أم إنك تستعجل رحيلك من خلودي؟

باقٍ هو وهذا الشعب باقٍ معه بقوة يُغالِب كروب الزمن، متفانيًا في إبداع روحه وتشكيلها بين الصَّبَوات وهمس الصبايا والفتيان يَقضِمن أعواد الدرة المشوية أو شرب الحاجة السقعة، وببساطة النسمة ونعومة الكلام البلدي يقول لها أُحبُّك مُوهمًا أنه يخاطب النِّيل، مُسنِدًا رأسه عليه أو على صدرها أخذا إليه ثَدْي أمه لا يبغي الفطام، باقٍ هذا الشعب بحبه للوطن يرضعه مع حليب الأم دونه أي فطام. نعم، نحن نَتندَّر أحيانًا مستكثرين على المصريين تعلقهم ببلدهم، فهي أم الدنيا، ولا نهر إلا النيل، والأرض هي أرضهم والسماء والنجوم، وفي «حب مصر» أناشيد وأغاريد، إنما أتساءل وأسأل المستكثرين: هل من وجود حقيقي للشعب بدون حب الوطن؟ وما معنى الأوطان إذا تَحوَّلت إلى بورصات مواطنوها مُجرَّد عملاء أو وكلاء أو سماسرة في التصدير والاستيراد وإبرام الصفقات ومنها الأدبية أيضًا، وعلى عينك، ولا فخر؟ شعب مصر يحب وطنه؛ لأنه تربَّى عليه، ويمتلك ثقافة وتقاليد عريقة في هذا الحب. ثقافة البيت، والطبيعة، والمدرسة، والجامعة، والتاريخ المتسلسل، والمؤسَّسات الراسخة، الباهرة، عنوان على كرامة الإنسان وحِسِّه الحضاري المتنامي، تراه مكابرًا رغم ضَنْك العيش، الأم والأب والصديق والأخ والجار وطن، وطن يستحق الحب حقًّا، لا مزرعة من الخنازير والرجال الجوف يَطْوُون البلاد تحت بطونهم تَتدلَّى ثنايا شحم وسَفَه، حب الوطن مظهر ثقافي، وإعلاء لشأن الثقافة والمفكرين والأدباء والفنانين؛ تقديرًا لدورهم في صنع الإنسان وبناء الأجيال. أما السماسرة ورجال البورصة، فيُراكمون الثروات ولا يصنعون نملة؛ ولذلك وأنا أجوس شوارع القاهرة، لم أملك نفسي من أن أغبط هذا البلد على أُبَّهته الثقافية المُتجسِّدة في متاحفه، ومسارحه، وقاعاته الفنية، ومكتباته، وأوساطه الفكرية والأدبية، وحواراته الساخنة، قلتُ: لا بأس أخيرًا، فهذا وطن آخَر لي، يهدئ من روعي ويُخفِّف علي غيرتي من الضفة الشمالية التي تَسْلبُك ثقافتُها وأجواؤها مرغمًا، وكنتُ في الحقيقة أُطامِن نفسي لأن جنوبي الأطلسي ما يَنفكُّ خواؤه يحاصرني، وأنا أَحتَلِب من مخزون ذاتي ما أملأ به هذا الخواء … لكن إلى متى؟

على وقع هذا السؤال ضحكتُ في سِرِّي أظن أن القاهرة التي لا تنام لا تغبط الدار البيضاء ولا الرباط على شيء، تركتُها قبل أيام معدودة خلفي وفي نفسي شيء منها، أوه، كدتُ أنسى. أم لعلَّها ستغبط شرذمة من السُّيَّاح توافدوا على مدينة أغادير بمناسبة أعياد رأس السَّنة، يقول مذيع نشرة تلفزتنا الوطنية بكل فخر وبملء شدقيه: توافَدوا لأخذ حمَّامات شمس، ويضيف لا فُضَّ فوه: في أرضنا المعطاء بالخيرات.

في هذه اللحظة ذاتها، كانت الدار البيضاء والمحمدية والجديدة و … و … تسبح في حمامات غرقها، وانهيار البيوت على سُكَّانها، وغَرَق الأطفال، وتَلَف متاع العمر تحت طوفان أمطارها. وقلتُ أخيرًا وأنا أغرق: إذا لم تَستحِ فقُل ما شئت، فهذا هو حب الوطن على الطريقة المغربية.

 ٢٨/ ١٢ / ١٩٩٦م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥