صَعْقَة حب في «أكدال»
(١) كبير الأحبار
كانت نيتي هذا الأسبوع أن نضع يدًا في يد، وننشد طريق الضوء مفروشة بأنفاس تسبقنا، هي الهودج فوق راحلة نركبها تَقودُنا إلى أفق تَربَّعت على مُحيَّاه نجمة الأعالي، خفق منها الشعاع بلغة تقول: اتبعني وما ملكتُ إلا أن أتبعها، وهل لي خيار في هواها، قُربُها يضني وبُعْدها يفني، والطريق إليها كالملح على بشراتنا مدبوغ، ودَعْك من ذكرى البنفسج. كانت نِيَّتي، وما تزال، أن أحكي لكم عن تلك البلاد، عن الشَّرق رحلتُ إليه مرة فسكنتُ به أبدًا، وما كان الذهاب والإياب عبر السنين، بين مَضارب القوم وارتجاف الموج عند ضفاف تلك العيون، سوى سعي شغوف، كما يبدأ خطو النبوة، للقبض على جَذر الدم، والتماس بصَمات الأجداد في خريطة دَمِنا.
سيُؤجِّلُني النسيان، قلتُ: إن لم أفعل، ويحشرني سريعًا في رفوفه العامرة، تَبرد جمرة الشوق وتَذبُل فتنة الشَّرق في أي كلام فاتر يَحكيه الأغنياء والمَجْلُوبون، المُباعون بثمن بخس أو بصفاقة الوجوه في مزاد سادة هَرِفِين، جَلَبوا قِردًا هَرِمًا من أقصى الأرض، وخلعوا عليه ما ظنوا لم يُنْتِن من جلودهم، وقام الأشمط فيهم خطيبًا مجلجلًا برعونة لم تُفارِقه من صباه: أجل هو قرد، ولكن سيعرف قَدْرَنا ويحاكي الأسياد وهذا هو المُراد. نراهن عليه، بالروح بالدم، أو يصير أمرُنا إلى زوال، في هذ الرَّبْع كنا وسنبقى إلى الأبد! وقال: لا تخافوا من افتضاح أمرنا؛ فقد جَنَّدنا السَّحَرة، والصَّغَرة، والأَرَضة، وطوَّقْنا البلاد طولًا وعرضًا ناشرين فيها العيون تَتقصَّى الأخبار، وتجمع إلينا الأنصار، وعلى رأسها واحد من كبار الأحبار. فما كان من القرد إلا أن نطَّ فرحًا، وحين انتهَت الخطبة عن آخِرها أمسك بذيل الخطيب الذي ضرب طبلًا معُلَّقًا بعنقه؛ إيذانًا بافتتاح طقوس الفرجة.
خِفْت أن تبرد جمرة الشَّوق أو تَذبل فتنة الشَّرق أو تهرب مني تلك البلاد، أشغف بأن أحكي عنها، وأُجَلِّي مفاتنها لأدفع قليلًا عن الأرض تقاطيع القُبح، وغُضون التَّشوُّه، وأسترجع مرهف الشِّعر، يُبدِّد رَديء الكلام وَعِيَّ الألسنة سأضرم لها النار لأحرقها بنفسي، سأضرم فيها حقدها وأراها وحْدَها تُشوى في أُتون دمها الفاسد، وعاليًا أصعد ذروة جسدي برفيف أجنحة خفقت بين قاسيون وصنين، كنت كلما مددتُ قطفتُ النجوم وصبَبْتُها في قدح الليل؛ ليسقيني الليلة وينير غدًا، كنتُ كلما تكاثَف عربي استَعرْت من فيء الغابة وشاح الأخضر فيَعْشَوشِب الحلم ونحن في صَحو النهار. هي ذي بعض نُذُر الشرق: خرق العادة والنظرة في العين كما الأرض تميد، والوقت خِضاب جُرح في ساق الجنوب، المَغرب مُفرَد يتعدد والشرق جمع يتفرد، كل هذا حتى لا يُؤجِّلني النسيان أو ييبس في القلب رحيق الوردة.
(٢) نفق في دمنا
كل هذا ونحن نمضي في النفق، طريق الضوء لم يكن «إلا حلمًا في الكَرى» وسواء التفَتْنا إلى المدخل أو تَطلَّعْنا بأبصارنا أبعدَ فأبعد عَسانا نرى نهايات النفق، تَبدَّت لنا إسرائيل، وهي ترقص على رأسها قُبَّعات الحمام تارة، والصقور أخرى، ونحن بين هذا وتلك زَفَّة وذبيحة. بالأمس بيغن أو بيريز واليوم نتانياهو، وقبلهما في العد مفردًا وجميعًا، جملةً وتفصيلًا، مذبحة دير ياسين، وشَعْب الشَّتات، وعبارة حق فاجرة في قصيدة لمظفر النواب سُدَّت في وجهها جميع الحدود التي كانت عربية.
قال مذيع أبْلَه في نشرة أخبار تُبَثُّ عبر الأقمار الاصطناعية البدوية: «وقامتْ إسرائيل، في غفلة من الزمن، بحفر نفق تحت المسجد الأقصى …» فنظرتُ إلى الساعة في مِعْصَمي وصُعِقْت لما رأيت: عَقرَبَا الساعة يشيران إلى نهاية القرن العشرين إلا ثلاث سنوات ونيِّف، وأنا وُلِدْت بعد سنة من أول مناسبة «رسمية» لضياع فلسطين، والحق أني لستُ متأكدًا من أن ذلك تم سنة ١٩٤٨م، كما يسجل التاريخ الرسمي، منذ أن استَبَحْنا صَبايانا سَبايَا وصارت الخيانة حليبَ الرضاع بدل أثداء أمهاتنا، نصف قرن تقريبًا يمر، هكذا، في غفلة من الزمن ولم نَنتَبِه أن إسرائيل التي ينفخ المذيع الأبْلَه شدقيه مفخمًا وهو يسميها «الدولة العبرية» — ولا شكَّ أنه يفعل ذلك نكايةً في الدولة العربية التي عبرت في سالف الدهر والأوان — هذه التي أصبح مُحرَّمًا أن ننعتها بالصهيونية؛ لم نَنتَبِه بعد نصف قرن كيف أنها تُوغِل في دمنا مُتمدِّدة بين الشرايين والأوردة تدفع فيها القيح والصديد، تلوثه، تنسیه دمَه الذي كانت له أسماء قحطان وعدنان، ومحمدًا والعروبة والإباء والدين الحنيف وعهودًا ومواثيق بصمناها بدمنا دونها نار حرب توقد.
نتانياهو، هذا الذي تكال له الشتائم، في الساعات الأخيرة من صحو طارئ على أحلام يقظتهم أو سلامهم، جاء هكذا، ودون سابق إنذار، وعَرَب في آذانهم وَقْر، وعيونهم مختومة بالعمى من شِدَّة وهَج التطبيع، وقام ﺑ «عجرفته» و«غطرسته» و«استهتاره» بالدَّوْس على اتفاقيات الكلام أو السلام المُبْرَمة، ففتح باب النفق على مصراعيه، دون مراعاة للمقدَّسات، المشاعر، واﻟ «كذا» … ياه، ابن الإيه، فعل فعلته «النكراء» هذه في غفلة ممن يسكنون في دار غفلون وَهُم عمَّا يجري في الكون لاهون!
إنما لا بأس؛ فشَمس فلسطين تُشرِق من جديد، فلسطين التي هِمْنا بها حبًّا، وقلنا: إن دورة الفصول لن تنتظم إلا بعودتها إلى أبنائها، ها هُم يستأنفون سبيل الحجارة، الجميع اليوم أطفال الحجارة، الدروع صدورهم والاستشهاد عندهم يقين، الرجال لا يبكون، لا يوقعون على صكوك الاستسلام، ولا يَطْوُون تاريخ الشهداء بمصافحة الرجال كما كانوا دومًا من أجل عروبتهم يستشهدون.
وأما نتانياهو، بعد هذا وذاك، فلا ينبغي أن «نظلمه» أكثر مَمَّا يستحق؛ فقد وصل إلى السلطة وتأمَّل مشهد الحكم العربي جيدًا، من الخليج إلى المحيط، فوجدَنا نتنازل ثم نتنازل، وندير الخد الأيسر لمن صفع خدَّنا الأيمن، فقام يصفعنا على القفا ويركلنا كالدواب. لا بيريز ولا نتانياهو مَن حفر النَّفق الشهير اليوم، كان محفورًا في دمنا فجاء وولغ فيه وهو ماضٍ في الوَلْغ، ونحن أين نمضي بهذا الدم استرخصناه؟ صار عارًا على جباهنا، أين؟
(٣) بهاء القتيل
قتلوه في المرة الأولى، وحين رأوا خَيْط ندًى تجَمَّع من دمع الأحبة فوق مثواه الأخير، حسدوه، فقالوا: سنقتله مرتين، ثلاثًا، وأبدًا إن اقتضى الأمر؛ لنبقى حيث نحن إلى أبد الآبدِين، نحن الذين لا نقبل الدُّخَلاء، البُعداء، الوافدين من كل فج عميق بَلْه من شِغاف حُزنهم أو حزبنا، لا لغيرنا. تَمَلْملت الصحراء، طَوت جرحًا على جرح وناحت كثبانها. تلك عادتُها كلما شَدَّت قوافل الرجال الرحيل إلى حُبِّهم، غاضَت الآبار، حرقَت شمس قيظها من شمس، يبرك الرجال في الهجير، عن بُعد يلمحون سحابة لا كالسراب، بل سحابة لما تفرغ بعد شحنتها الآتية، من برق ورعد، توقعوها فهي آتية.
وها هي ذي القوافل في قافلة تحط بنا في وهدة غائر من أرض نحن أرضها لا يستوي فيها كثبنا ونحن كثبها، حين أيقنوا، تَوهَّموا أنهم قَتلوا آخِر الأحياء فينا … حينئذٍ لَحِقَت بنا ظلالنا، دمه من عطش الثأر لقتله ظمآن فينا، رغم أنا كِدنا ننسى طعنة الغدر، خسة الجبناء، وذلك الذي يلحق ما تَكلَّس من بعر فوق رمل عافَتْه بعراننا.
لن أُسمِّي القتيل؛ أجَلُّ مِن أن يُسمَّى هو وأبهى، كذلك لن أُسمِّي القتلة، هم القتلة، يعرفون أسماء بعضهم، وفي آخِر ليلة سهروا فيها نبشوا قبره فلم يجدوا جثة كان أسفل منهم سبقًا لنهشها، بَقِيت منه عظام الجمجمة فسرقوا مِنِّي لحم الوجه وكسوها ثم تبادَلوا نَخْب قتله مرتين، وقفوا على قبره، بأُم العين عاينوا لحده والجثة منكفئة، فما صدقوا بَعْدها أن روحه عند الله تَمْرح في الملكوت، جَلَبوا قِرْدهم من أقصى الأرض، قالوا سترقص لنا الآن، كما ستفعل غدًا، فلن يزيل البهاء، لن يقتله هو وصاحبه إلا رقص القردة، ونحن معك لأنك مثلنا جميعًا في الحلبة.
(٤) حب في «أكدال»
يا امرأة ما أبهاك! لو علمت ألقاك لخرجتُ إليك من ألف عام، لسَددتُ جميع الطرقات التي لا تؤدي إليك، يا امرأة من «أكدال»، حين رأيتُك خرج القلب من الجوف وراح ينغنغ فوق رصيفك بضحك الأطفال، كأنه وحي يوحى إليَّ وأنا من عشاق سيدنا محمد خاتم الأنبياء.
عن أي شيء كنتُ أبحث هذا الصباح في حي «أكدال»، في رباط لم أرَ فيها فتحًا، ولا بانَ لي منها خِلٌّ أو صاحب بوفاء، غير وفاء؟ ربما عنكِ أنتِ التي لا تعلمين شغفي هذا الصباح بملاقاة قصيدة، أو بحب يَعْبُر منها إليَّ صبيب أمل في مسالك هذه الضفة المقفرة، هي قادمة وأنا آتٍ، سهم مرشوق إلى قلبي من عينيها وآخَر مني مُنفلِت نحو عرامة النهدين. كنت مهيئًا للحب هذا الصباح وعلى استعداد لأغادر الدنيا مقابل لفتة غنج.
أوقفنا المارَّة وبدلنا أحوال الطقس، تقابَلنا وجهًا لوجه، لا أعرفها، لا تعرفني، يا المرأة ما أبهاك! قلتُ لها، وأنا أسعد مَن على الأرض، الآن … إذ ألقاك. وقفت، ضاعت، فاحت، غرد السنونو وحلَّق اليمام ورأيتُ العينين يمتلآن بنا، وغدوت، بقيت خلفي فاتنة تمسك فتنة هذا الذهول وأنا ماضٍ إليها بالبعد عنها … لملاقاة القصيدة.