عن الحزن، والبحر، وأشياء أخرى
(١) آخِر مرثية لفلسطين
لعلَّ الموت هو المناسبة الوحيدة التي بَقيَت أمامنا، نحن عرَب آخِر الزمان لنلتقي حولها أو نَفتَرِق، ومن تداعياته الحزن، والألم، وفرط المرارة، نحن مُؤهَّلون للقاء الموت، في بكاء جماعي أو انفرادي، أكثر من أي شيء آخر، وقد دُبِغْنا بالخيبات والانكسارات والهزائم تَجرُّنا إثرها جرًّا.
بالأمس، مثلًا، أنشَدْنا وصَهَلْنا طويلًا: ستعود فلسطين، فلسطين عربية، وتتمة اللازمة تعرفونها. واليوم نقول، ربما بلا حسرة أو تنهد: كانت فلسطين، وينصرف كلٌّ منا إلى حالِ أهواله القادمة.
وبما أن من حق الموتى على الأحياء أن يقيموا لهم مأتمًا هو آخِر اعتراف بوجود لهم كان، أو إلى الإلغاء النهائي، كما هو حق الحياة على الموت كي تسترجعَ يقين سيرورة الوجود، فإننا نحن عرب آخِر الزمان، وآخر الأبجدية، أقمنا لفلسطين، أو لفلسطين أحلامنا وقومِيَّتنا المرذولة، مآتِم عديدة، بمناسك تراوحت بين الغناء الفاجِر وهَزِّ الأرداف أو الأكتاف، وبين نَعيب الغِربان والنحيب القبيح. لكن ماذا يفعل الشاعر العربي، وخاصَّةً إذا كان من هذه اﻟ«فلسطين» الموعودة والموءودة، حين يعرف أو لا يعرف بأي ذنب قُتِلَت، وكلُّ شِعْره، منذ اغْتُصِبَت تلك الأرض ووُلِدَت من ومَع اغتصابها القصيدة الحديثة، كلُّ هذا الشِّعْر لم يكنْ إلا ضربًا من «البروفة» تمرينًا لمأتم مؤجَّل؟ الشاعر الحقيقي لا يكتب إلا من غياب، والقصيدة البِكْر لا تُنْسَج إلا مِن فَقْد أو رَجْع افتقاد، وهل بوسعه، وقد اكتملَت طقوس الجنازة، أن ينسحب ببساطة من تاريخ البكاء والجمهور أمامه واقف، جالس ومُقَرْفِص يَتضرَّع، جفَّف مِدْرار الدموع بمزيد من بكاء؟ ماذا يفعل حقًّا، وهو الذي لم يَعُد يعرف أين يمضي بحزنه، بثُكله، بكل الغياب الذي لا يتسع لشبر من حضور جسده.
في تلك الليلة بإحدى القاعات الكبرى لِمَقر منظمة اليونسكو: الليلة النوفمبرية بلا مطر ولا عويل رياح، إلا عويل متأخر سيصدر عن «ثوار مغتربين» ومسحوقين بنوستالجيا شعار فات أوانه، سيفد إلى القاعة العرب الوافدون إلى باريس؛ ليلقوا النظرة الأخيرة على الجثمان قبل تشييعه إلى مثواه الأول والأخير. جاءوا رجالًا، ونساءً، فتيانًا، وأطفالًا رُضَّعًا، وأيضًا، وسيدات تَزيَّنَّ، تَفَرْوَوْن وتَضَمَّخْنَ بعطر فوَّاح خصوصًا لهذه المناسبة التي لا يخطر اسمها على البال … بمعطفها الأخضر الصارخ بدَت السيدة الإوزة تخطر في الفناء البراني للقاعة كما لو أنها تَتهادى في «بركة المتوكل» والآنسات يَطُفْن حواليها، وأنا أطوف ببصري في ذاكرتي المشروخة بالإعلام وأسماء الأعلام وما تبقَّى من رماد تحت «ثالثة الأثافي» ثم أطوف ببصري كَرَّتَين مُتضرِّعًا من أجل حضور الشاعرين يَمرُقان من الكواليس إلى الخشبة كطَيْفَين، لا نسمع وقعًا لأقدامهما كأنهما يَنتعلان خُفَّين، كلاهما: محمود درويش وجمال الدين بن الشيخ يغمران القاعة بقامَة الشِّعر البهية. الشعر لا يُوصَف والحزن كذلك، وأحسب أن درويش لم يكن يرثي فلسطين، ولكن يرثي نفسه، فماذا يبقى، إذن؟ ومَن يدلني على عنوان فلسطين، على شاهدة المُتَنَبِّي … بدونك يا محمود؟!
(٢) حين لا «حتمل»
في الليلة الموالية كان الموعد مع الموت، أيضًا، مع الحزن دائمًا، ألم أقُل لكم بأنها المناسَبة الوحيدة التي بقيت أمامنا، وهذه المرة، نحن بعض عرب آخِر الزمان لنلتقي كي نَفترِق. تدفعنا اليونسكو من أحشائها المثقلة بالكلام لتَذْرُونا في إحدى قاعات البناية الصَّمَّاء لمعهد العالَم العربي، الجدير بإقامة المآتم. وكُنَّا فِعلًا، نحن بعض العرب، على موعد مع مأتَم آخَر، أو مع ذكراه، قُل مع احتمال وجوده، هو جَميل حتمل، القاصُّ والصحفي والمناضل السوري، كأنه وُجِد ولم يُوجَد، حط كالرذاذ وتَبخَّر كالنَّدى، مات جميل وفي نفسه شيء من فلسطين ومن الشام ومن قلبه الذي لم يُمْهِله كي يعانق قلبه المهجور، الهارب، الضائع في «لا بَلَد». كَتَب حتمل مجموعته القصصية «حين لا بَلَد» وأسدل قلبه، جَفْنَيه في رقدة أخيرة. فتيًّا، طَريًّا، شَجيًّا رحل، مِلء سَمْعِنا وبَصرِنا نحن عرب الشَّتات، قصصه مُقتضَبة ومُتنزَعة انتزاعًا من موت الأدب والعرب مثل حياته، لم أكن أستطيع أن أُمْسِك به حيثما الْتَقيْنا في المؤتمرات، في الندوات، وفي وطَن المَهْجَر أو الأوطان المهجورة، فهو دائمًا يلاحِق قضية أو أحدًا أو توقيعًا يُسانِد به السياسيين والمُثقَّفِين المُعتقَلِين في بلدان الزنازن العربية، يُسانِد به منفاه القَسْري في باريس التي كانت أرض مَلاذٍ.
تستطيع الشام الآن أن تَرتاح، وكل وزراء الداخلية العرب أن يُوقِّعوا أدناهم على بیاض موت النَّدى الذي لن يَجْمَع بعدُ أيَّ توقيع لمُسانَدة الحياة.
وفي لحظة ما خطَر لي أن هذا كله رغم فضاضته مُحتمَل إلا أن يقوم بَغْل في قاعة البناية الصَّمَّاء؛ ليرثيك أنت بالتحديد يا حَتْمَل، بكلام منهوب من شهداء سابقين، ماذا لو تركنا المَنفيين لموتهم موقوف التنفيذ، والموتى لأسرار رحلتهم الأبدية، أفٍّ للرثاء، وعم مساء جميل، وإلى اللقاء، فقد تَعدَّدت المواقيت والموت واحد.
(٣) شفاه البحر
والحزن بالحزن يُذْكر، كلَّا، هو الفرح والدهشة عينها، وقبل ذلك لأعترف بأني بهذا العنوان الفرعي لا أطمح لمُجاراة الروائي الأمريكي هيرمان ملفيل في شيء حين كتب روايته الشهيرة «موبي ديك» (١٨٥١م)، ذات البرنامج الميتافيزيقي والتراجيدي، تلك التي أخذت في صيغتها السينمائية اسم «أسنان البحر»، فما عندي أنا ليس سوى شذرة من حكاية قد أَكتُبها ذات يوم حين يقترب مد روحي من ضفافه الأخيرة. وكل ما هنالك أنِّي وجدتُني في الدار البيضاء ذات مساء تائهًا أو كالتَّائِه لا ترشدني خطواتي إلى أي مكان معلوم، وفي لحظة بارقة حدَستُ أني أسير في المماشي النخلية لشارع مولاي يوسف المحبوب.
ومن عَياء أو سهو أسندتُ ظهري إلى نخلة ما لَبِث سعفها أن نزلت إلى مستوى قامتي فطَوَّقتْني من خلف وأمام، وطَفِقَت تَتغنَّج قدامي مثل الأيدي الشمعدانية للراقصات التايلانديات. أردتُ أن أقبض على الأصابع واحدًا واحدًا لأمصها كقصب السُّكر أو العرقسوس فإذا هي تختفي ثم تعود لتَتجلَّى كلها وقد شَملتْنِي بجسدها وجسدي المترامي تحت انسدال خُصَلها أو سوالفها هي الجنية، الحورية، أو ما لم يخطر على قلب بشر. قالت: أغويتُك يا الفتى الذي كان، يا المغترب حيثما حللتَ إلا أن ترتعَ في حياضي ويسَّاقَط عليكَ من نخلتي الرُّطَب الجَنِي، ولكن لي قبل ذلك شرط لا بُدَّ لك من الوفاء به أو فيك هلاكي، أن تأخذني إلى البحر وتَجلِب الموج إلى أعطافي.
أخذْنا الطريق إلى البحر، البحر هناك، كان هناك، والعنق هو «العنق» الذي لم يَعُد يعرفه ساكنة الدار البيضاء الجُدد، لم يعرفه إلا الذين احتَكُّوا بتاريخ تامسنا، الشاوية. في مدخل مطعم البحر هبَّ المستخدمون وعيونُهم لاهثة يتنازعون الجِنِّيَّة، الحورية، إلى طاولاتهم وهي تَنظُر من عَلٍ حيث تُصوِّب إسفينها بتحديد، بيننا وبين الخارج زجاج سميك طاولتنا لصقه ولا يَشفُّ إلا عن ظلام دامس.
وربما ترجرج خلفه ماء هارب، قلت: يا ورطتي، كيف أَجلِب ما وعدتُ به والليلةُ جَزْر، والتفَتُّ مخاطبًا النادِل بلهجة المازح، سألتُه: أوَتراها؟ أجاب مرتبكًا: بل أوَتَراني؟!
– فهل تملك أن تَحمِل إليها البحر إلى شَرْشَف المائدة؟
– بل المحيطات كلها يا سيدتي، أنت تأمرني.
ونهر «أم الربيع» سيقود موكب الشموع ليضيء بعينيك بحر الظلمات! وبين قولي: البحر، وإكمالي: هناك، وكما تستفيق إغماضة، يفترق هدب أعلى عن هدب أسفل، أو تُورق شفاهٌ مُقبِلَة من شِفاهٍ لِتُصيبَ الضربةُ مُخِّي … فهل رأيتم بحرًا نائمًا، مستغرقًا في شغاف التجاويف، والضفاف المشغوفة في عيون البحارة وضرب المجاديف، يترك نومه، يُؤجِّل حلمه، يعيد للبحر زَبد وقته ويهب نحوها رمحًا من بعيد، سَلسًا من قريب، واهبًا لها شفتيه؟ أنا رأيتُه، صحَّ لي ذلك، رأيتُ البحر يبايع المَلِكة النخلة في أرض المملكة. طَيِّعًا يركب موجه، مُعتليًا الصخر، أَيادي الملح والمحار تفتح النافذة فيدخل شاهرًا وهبه ومَواهبه؛ ليغمُرَها، يغمرنا والمكان. بقيت هي فوق وأنا في أعطافها. وسَمِعتُها والماء يُشقْشِق بيننا: أنتَ على وشك الرُّطَب الجَنِي، ولكن قبل ذلك أمامك امتحان آخَر، لا بُدَّ أن يَنزاح الضَّباب. فكَّرْت: بين سحابٍ وضَباب، على أي جانِبَي أميل، في الخارج كانت المدينة مُغطَّاة كلها بالضَّباب، والطرقات الخارجة منها، المؤدِّية إليها، والبلاد ضَباب، ومن وقتها وأنا أخوضُ في هذا العُباب.