في الحاجة إلى الذاكرة
خذ مداك يا حمو عابد!
أعترف أني استمتعت ﺑ «حفريات في الذاكرة» لأستاذنا وصديقنا محمد عابد الجابري، هي سلسلة السرد السِّيرِيَّة التي اطَّلع عليها القراء منشورة بين صحيفتَي «الاتحاد الاشتراكي» البيضاوية، و«الشرق الأوسط» اللندنية، خلال الشهر المنصرم، (ديسمبر ١٩٩٦م) وعلى امتداد أربع عشرة حلقة، وتُغطِّي هذه السلسلة من عمر صاحبها، المراحل الممتدة من صباه، فطفولته اليافعة، ففتُوَّته وصولًا إلى مطلع عنفوان الشباب، وإن كانت الطفولة هي الفترة الأساس، الأشد خصوبة التي يتم تسليط الضوء عليها من زوايا مختلفة، وقد ألْفَى الأستاذ الجابري نفسه متنازعًا في سرد تلك «السِّيرة» بين بطولة الكائن، ولا نقول الذات، وبطولة المكان؛ أي مدينة فكيك، حيث وُلِد وترعرع ومنها انطلق إلى فضاءات أخرى، وإليها يعود اليوم كتابةً على قاعدة «ما الحب إلا للحبيب الأول».
في حفرياته يسعى «حمو عابد» إلى خلخلة أكثر من اقتناع ومُعطًى مُتوفِّرين عنه وعن إنتاجه، ومن هذه الخلخلة بممارستها بين فِعْلها بذاتها وتأويلنا نحن لها يمكن أن تظهر قيمة ونتائج، بل وعواقب فعله، إن كان جديدًا حقًّا.
وأول ما يسترعي الانتباه، هو أن صاحبنا الذي عرفناه إلى وقت قريب رجل فلسفة، مُربِّيًا ومفكرًا وباحثًا جامعيًّا، يحقق لنفسه بتدوين «حفريات في الذاكرة» نقلة نوعية في النشاط العقلي الذي عرف به، بانتقاله من البحث النظري الصارم، والخاضع حتمًا إلى المنهج والمفاهيم إلى المجال الذي تمتد فيه الكتابة وينهض فيه وضْعُ الكاتب، باعتبار الذات محورًا أساسًا في هذا الوضع، إنه افتراض نُجازِف به في بدايات عملية التَّلقِّي رغم أن المفكر قد ينظر إلينا من عَلِ متعجِّبًا، منكِرًا علينا موقفنا: «هكذا إذن، بكل مؤلَّفاتي ولم أكن كاتبًا، والآن فقط يمكن أن …» والمسألة ليست تلاعبًا بالألفاظ، فهي في غاية الجدية، وإلا لما كان صاحب «العقل العربي» يُسمِّيني «أديبًا» ما ينكره على نفسه طبعًا، مُحتفظًا له، ضمنًا، بلقب المفكر أو يخاطبنا بتلقائية: أنتم الأدباء تحبون كذا، وتميلون إلى كيت!
نقول: إن الرجل في طَور تحقيق نقلة في نوعية ممارسته، مجازفين، ثانيًا، باعتبار موضوع الكتابة لديه ذاتًا لا موضوعًا رغم أنه يضع أمامه وأمامنا، وبوعي كامل، أكثر من عرقلة أو عائق؛ ليبعد عنه ما يكاد يصل إلى مرتبة «الشُّبهة»، فهو يعلن في الديباجة، أو الميتا-خطاب السابق على متن الحفر، وبوضوح لا مزيد عليه بأن صنيعه بعيد، مُنْبَت الصلة بالخلق والابتكار؛ أي إنه واقعي جدًّا، الواقع عينه، وليس فيه مجال، طبعًا، للاستيهامات والخيال؛ أي إن هذه السيرة يا أولي الألباب ليست من الأدب في شيء ما دام الأدب يشتغل بالخلق — أي ليس بالواقع وحده — والتَّخيُّل شغل مُعاقِره الشاغل، ثم إننا نراه، في كل خطوة يخطوها في درب طفولته، وفُتوَّته، شديد الحذر والتدقيق في كل ما يروي، مُستظهرًا التفاصيل من معينها، مُتجنِّبًا أو محاولًا ألَّا يسبغ عليها أي طلاء ليبعد عنه شبهة الخلق والابتكار؛ أي ما لا يجوز علوقه بالمفكر. وما بالك بعد هذا، وهو يضع على مشرحة الوعي والفحص كل ما يمر به؟ أي إنه في اللحظة التي يدرك فيها بأنه يوشك أن يلعب لعبة الأدباء — في مستوى النية على الأقل، أما الأسلوب وزاوية المُقارَبة، فذاك شأن آخر — بل يفعل أحيانًا، حين يسرد ذاته أو كيانه وهو يقوم بتعريتهما — علما بأن الذات منبوذة، وفعل الرواية هنا موضوعي لأن الحفر يتم في الذاكرة وليس في الذات — فإنك سرعان ما تراه متعجلًا لإفساد «اللعبة»، عامدًا إلى الوعي بكل شيء: بشرحه، مفهمته، تبريره، تسويغه بعقلنته، وكأنه يريد أن يُذكِّرَنا بأن سارد السيرة مُفكِّر، يبحث عن المنطق ويُركِّب البنية في كل شيء وليس كاتبًا أو أديبًا مُعرَّضًا للغواية والتحليق بأجنحة الخيال والوقوع عُرْضة لنزوات الذات؛ لقد تم نفي الذات منذ أول عبارة في مشروع «الحفريات» في «آخر» هو «صاحبنا»، ليس ذلك، كما يفعل بعض كتاب السيرة الذاتية، لاكتساب قَدْر أكبر من الحرية في عَرْض أنا حياتهم، ولكن لأن المشروع قائم من أساسه على إعادة بناء موضوع لا بُدَّ سَيكتَمِل في أجزاء لاحقة، وما الأنا إلا مرآة من مراياه وسَنَد لوجوده وتَكوُّنه.
سيقول الدكتور محمد عابد الجابري: أنتَ تريد ما يريده الأدباء، وهذا شأنكم، وأضيف يا صديقنا العزيز: هذا ما أريد، وأكثر، وإلا لماذا ألقيت بنفسك في «تهلكة» كتابة السيرة، سيرتك، والتي لا يستقيم أمرها خارج ما هو ذات، مهما أصررتَ، وتعدَّدَت التأويلات والتصنيفات؟! ونحن مَعْشر الأدباء إن سَمَح لنا بذلك من لا يقرءون النصوص الأدبية، أو لا يَعتدُّون بجدواها، نرى — لا نزعم أننا وحْدَنا من يرى، ولنا الحق الكامل في الزَّعْم المطلق بهذا الشأن — أن كل مَن ركب هذا البحر عليه ألَّا يدعي بأي وجه، مَخافة الغرق فيه، ما دام قد ألقى بنفسه في يَمِّه وهو في ذروة العقلانية؛ أي ما هو نقيض الهوى، والنزوة، والنزعة الذاتية بعد هذا وذاك، وأيًّا كانت النوايا والخطاطات والتصورات التي ينهض عليها مشروع «الحفريات» فإني أعتبره سيرة ذاتية لصاحبه، وليس هنا مقام استحضار المرجعيات ولا المقاييس الخاصة، التجنيسية لهذا النوع الأدبي، كما أن من يجترحه غير مطالَب بمعرفتها سلفًا بحكم أن كل كتابة مُنظَّمة وواعية بمسارها في هذا المضمار تصبح بدورها مُجنَّسة.
من هذا الفهم بدا لي أن «أناوش» سيرة أستاذنا محمد عابد الجابري — علمًا بأن «حفريات في الذاكرة» هي عنوان لا نوع — بإثارة بعض الملاحَظات الإضافية: في مطلعها أن كل ما يُسْتَرْجع باللغة، بالكلام، لا يمكن أن يكون هو الواقع نفسه، وأيًّا كانت النظريات الفلسفية التي عالجَت موضوع الذاكرة أو بَرهنَت على قُدْرة التثبت من الذكريات، المرئيات والمسموعات، فإنَّ ما ينبغي عدم إغفاله أبدًا هو أن هناك أنا آخر — وليس الأنا الآخر — هو من يستعيد أناه البعيد ويُعيد تأسَيسه بواسطة الكلام، الذي مِن خصائصه أنه ليس بريئًا، وقد وَدِدت أن أرى في هذه السيرة، بالدَّرَجة الأولى، ما يُسجَّل لحظات المفارَقة والاستثناء في حياة الأنسان لا ما هو بَدَهي ومن جنس المألوف، المبذول، وهو مُتوفِّر عند صاحبنا ربما لنُشدانه الكمال في كل شيء، والحق أنه يزعجني أن أقرأ السيرة الفاضلة، كما لو أنني أقرأ حياة الملائكة، وسيرة «حمو عابد»، كما كُتِبَت في شطرها الأول الحالي، لا تشوبها شائبة، وتصلح أن تكون قدوة للأجيال وتربية النشء، ولن ينتقص من فضيلتها المطلقة سرقة طفل، هو تلميذ مُتعطِّش للمعرفة، لبضع دريهمات ستنغص عليه حياته إلى أن يجد لها في الكبر فتوى المنفعة العامة، لا يُناقض هذه السيرة في مثلها ومسلكيتها، إلا حياة محمد شكري في «الخبز الحافي» وهي سيرة ذاتية أدبية خالصة، على أن انزعاجي يُخفِّف منه أن الإنسان، في النهاية، ابن بيئته، بين ماضيه وحاضره، وسليل تربيته، ومُخْلِص لثقافته وقيمه وقد عكس الجابري صورة هذا الإخلاص، بفهمه الذاتي والواعي له، على أحسن وجه في حفرياته.
والحق أن أجمل إخلاص وأعظمه هو ما محضه «صاحبنا» لمدينته فكيك، لمرابع الصبا بين «القصور» والواحات وبين أغضان الشجرة الزناكية الفيحاء: هنا الحب كله، والمفكر الذي يَزِن مثقال ذرة، يكاد يَتحوَّل إلى رسام تشكيلي وينطق بروح شاعر، والحنين، كما لا يخفى على الشعراء الأصلاء، مَعِين للشعر لا ينضب. وأحسب أنه لولا الصرامة التي يفرضها الرجل على نفسه في كل شيء، لجاءت فكيك على يديه أبهى ممَّا هي عليه وأقرب منالًا، لا، بل لقد دَنَت منا وهي القصية، وأصبحت من الآن مركزًا هي الموجودة في «الهامش» في ذلك المغرب المسمى «غير النافع»، و«حفريات …» قصاص من التهميش، وتمجيد لماضٍ عريق يغمز بطرف العين إلى حاضر مدقع، هو تمجيد أيضًا لروح المكان، بلمسات صوفية حينًا وروائية حينًا آخر، رغم عقلانية وتقريرية هُما دومًا بالمرصاد لأي انزياح يثبت الذات مركزًا والموضوع محيطًا، وهو ما يدعوني لمخاطبة ابن فكيك الأصيل قائلًا: آه لو أخذتَ مداك، فخُذ مداك في الأجزاء القادمة التي نطالب بها یا «حمو عابد». أجزاء لا بُدَّ أن تَمس تاريخنا الحاضر، وفصوله المجهولة، فلا معنى ولا وجود للماضي، إلا وقد انتظم في عقد السيرورة. وهذا ضروري لنسلم معك بأن مدينتك هي مدينتنا جميعًا، المكان القصي في الجغرافيا، المكان الذي أصبح اليوم ملء الحضور، وكان مَقصيًّا في الذاكرة، فمرحبًا بعودة الذاكرة.
الذين يعرفون محمد عابد الجابري إنسانًا ومفكِّرًا، رغم لغط اللاغطين وخُبث المشكِّكِين، يعون بأن الرجل لا يكتب على الهوى، وما هو بصدده اليوم، شأنه في كل ما انخرط فيه، مشروع له استراتيجية مرسومة وحافز من ورائه يمكن أن نَختَلِف على تَسمياته، وأَجدُني مدفوعًا إلى تسميته بالدعوة إلى إعادة الاعتبار للذاكرة، الذاكرة كخزَّان لتاريخنا، وجذورنا، وثقافتنا والتضاريس المختلفة التي تنهض عليها تُربتنا الحالية وفوقها نُوجد نحن، نعرف ولا نعرف، أن تاريخنا يتمزق، إربًا إربًا، ما أكثر حلقاته المكسورة، صفحاته المطوية والمجهولة، لياليه ونهاراته مدلهمة سواء بسواء، ما نعرفه عن ماضينا يَطويه النسيان، أما تاريخنا الحديث فدُونه ألفُ حجاب، والمُطَّلعون على وقائعه ورجالاته يزدادون ندرة يومًا بعد يوم، ومع رحيلهم لا نخسر تاريخنا وحده، بل أنفسنا كذلك فيما نحسب أننا أحياء، فأي حياة لشعب بلا ذاكرة؟ والذين ينحون باللائمة على الشباب المتقاعسين عن التسجيل في تلك اللوائح الانتخابية، أو يَستحِثُّونهم مُستنهِضين فيهم الهِمَم والشيم، ماذا لو عمدوا قبل ذلك إلى تنظيم حملة وطنية مثل تلك الحملة التلقائية الموجودة دائمًا بمصر موضوعها وغايتها: اعرف وطنك وقوميتك وتاريخ بلادك إلى نهاية الأبجدية؟