أصدقاء الفجر

(١) نعاسها سكر

شيئًا فشيئًا أحس أني أبْتَرِد. نَسجت هذه العبارة وأنا لا نائم ولا يقظان، ولست بين الحالتين بأي حال، لا أحب العبث بالكلمات، وقلَّ أن أسعى إليها إذا لم تكن هي الغازية بمفردها في حياتي تَهجم بلا استئذان، وبلا تَلطُّف أو وَقار، تقتحم متى شاءت لتجلس حيث تشاء، لا تبالي بالوقت ليلًا أو نهارًا، بالزُّوَّار سبقوها إليَّ، بمفردات العيش اليومية، بكل ما يعمر الروح من حزن أو يُؤثِّث الفضاء من عوارض الزمن، قدُومها تُعلِنه الروح والزَّمن يعليهما فوق كل شأوٍ، وأنا أنظر إليها كيف تَتملَّكني، لا أحار أمامها صنيعًا.

شيئًا فشيئًا ابْتردْتُ، ليست الكلمات ما يهجم الآن، إنه حضور يتكاثف في انعدامه إلى حد شراسة الغياب، وقسوة ما يَعز استحضاره، ما لا يمكن بتاتًا إلا بمستحيل أن نجدد البدء من نطفة الميلاد، لكن من أي رحم ونحو أي مَسار فمزار؟! أهو اغترابي في الصَّمت أو ما يشبه رفض اللغط ما يجعل هذا الإحساس يعتريني، أم إن قعودي في المكان الواحد، والخلاء إلا من قفره، يكاد يُجمِّد أعضائي، أم حذار أن تكون تلك «النوستالجيا» المَقيتة إيذانًا بأفول أعتى في وضع نتعجرف أو يتعجرفون فيه شامخين، أفلين في أفوله، في زوال ينزل قطرة قطرة ولن تُسْمَع منه إلا القطرة الأخيرة، وحينئذٍ، أووف … لا مناص؟

لكن، ماذا لو كان الأمر قد تحقَّق فِعلًا، أي أمر؟ ستسألني أوه، أجيبك، إنه ذلك الشيء المفضوح، لو سميته لافتضح بدوره، واسْترخصت قيمته، مثلنا، مثلنا جميعًا تقريبًا، يطفو معنا منذ الصباح، يُحلِّق فوق رءوسنا في الظهيرة، ترانا نُهَدْهِده في العشي أو يراوغنا كأنه انفلتَ أو انفلتنا منه في المساء، فيما هو قابع حيث نعرف ولا نعرف، ونحن نتخالس بالنظرات كأنَّنا في حياء أو عاشِقَين سيذوبان إنْ نظرَا وما نحن إلا نلوذ بفرار لا نعلم إلى أين، حتى إذا لم يكن من الهجوع بُد، واستوى النهار والليل فوق الجنون في لحظة مَديدة، صَحْوُها ناعم، ونُعاسها سُكر، تقول هي الأبدية، جاء هو وحَطَّ بأثقاله وطفق يعمل، الأطراف فيك تَتنمَّل ثم ما تلبثُ أن تنسلخ منك واحدة واحدة. لقد ابتردت يا هذا وكل ما في العالم من دفء لا يُدفئ، يَتدلَّى إليك من السَّقف حبل الذكريات لِيُنجِدَك فلا يُنْجِد، سرعان ما يتكثف الحاضر ليمسي سريعًا ذكرى تنضاف إلى سابقاتٍ لها، والوقت يَتمطَّط وهو يَهْرِس الكائنات والأشياء والأخيلة، أيضًا، في طريقه وحركته الصماء. لا قياس له ولا يشبه إلا حاله بعد الآن، لا يهتم بِصَمْته، فهو مُتكلِّم فيك اللحظة التي غشاك فيها وإلى عَجْزك عن أن تغشاه، بالفعل والخيال معًا، الخيال يَتبدَّد في حضوره، والحلم يُخلِّي له السبيل، بل يتفسخ مِزقًا، متقطعَ الحلقات، حادَّ الملمس لو حاولت، هي السماء، أيضًا، تُطْبِق عليك بعد أن احتوى جميع نجومها في عينيه وقد بايعته الأحلام في قنوت، وأردت أن تفوه بكلمة قبل أن يسقط الاسم العلم، قبل رحيل آخِر حلم، وإنك ترتد.

(٢) أولاد المحو

هؤلاء من طينة أخرى، أو هكذا يُخيَّل إليهم، تراهم يتصرفون بطريقة تجعل أمرهم لا يفتضح، بينما هو مفضوح جهارًا في الكيفية الملتبسة التي يَسعَون بها لحمل أسماء غير ما هو مقيد لهم في سِجل الحالة المدنية، يُؤرِّقهم وضع الاسم الغُفْل؛ ولذلك تَتأكَّلهم ضغينة كسر الاسم العلم، أو على الأقل تَبديد الأشياء وتسويتها ببعضها ليتيسر لهم عندئذٍ، ودون معرفة ﺑ «فن العوم» السباحة في التيار.

حين كانوا صغارًا؛ أي أولادًا في المدارس، طلب منهم المُعلِّم أن يحضروا مِقْلَمة بلوازمها، لم يتعرفوا على الألوان في الطبيعة، ولكن في أقلامهم الملونة وحين سماها لهم معلمهم: انظروا، هذا هو الأحمر، هذا هو الأخضر، الأصفر … إلخ، فرحوا وابتهجوا، وعادوا إلى ذويهم لاغطين: نحن كبرنا، نحن نعرف الأحمر والأصفر. بعد يوم أو أسبوع أو شهر علمهم كيف يمسحون اللوح والسبورة بالممسحة، ثم كيف يستخدمون الممحاة لمحو أخطاء كتابتهم ووضع الصحيح محلها. وعندئذٍ عادوا إلى ذويهم أشد غبطة وأكثر لغطًا: بابا، ماما، نحن نستطيع أن نمسح ونمحو كل شيء، كل من … وكادُوا يواصلون لولا انتباههم إلى قاماتهم التي وجدوها كبتت رغبةً ظَلَّت مُضْمَرة في الليل، طيلةَ الليلة وهم يحلمون بتنفيذها، وكلٌّ منهم يتخيل طريقة لتنفيذها. نادى المعلم على أغلبهم تباعًا للكتابة على السبورة ومحوها مباشرة، أكثرهم شيطنة كتب الجملة التالية: أنا مِمْسَحة، أنا مِمْحاة، فاقتربَ منه المعلم مندهشًا، لكن الولد الأرعن لم يَتهيَّب الموقف، بل أَمْسك، على ضالَّته، بِسُترة الرجل وهو يصرخ مُتنطِّعًا: سأمسحك، سنمسحك، وانظر إذا لم تُصدِّق، وتراءت له يده وهي تمسح، تمحو في الفراغ، في صباح اليوم التالي، حين أيقظَتْه أمُّه للذهاب إلى المدرسة وجدَتْه يهذي: صافي، لقد مسحتُهم، مَحَوتُهم كلهم؛ المعلم، التلاميذ، الكراسي، المدرسة، الحارس، والمدير أيضًا، ولم يبقَ إلا أنا، إنما يا أمي ذكرتني: مَن أنا، ما اسمي؟ فما كان من أمه إلا أن هرعت مفزوعة إلى المطبخ وجلبت مِجمرًا ألقَتْ فيه بحبيبات من الشَّبَّة والحرمل، وطافَت به على المكان تُبخِّره لتطرد العفريت الذي لا بُدَّ هو من يوسوس له بهذا الكلام الأخرق!

في زمن آخر، ووضع مختلف، كبر الأولاد وصاروا غير ما كانوا عليه، وإن احتفظ بعضهم برغبة ظلَّت دفينةً في أنفسهم مُتحَيِّنين الفرصة للتنفيس عنها؛ لم يقتنعوا بأسمائهم القديمة فأرادوا أن يكتسبوا وبأقصى سرعة أسماءً تليقُ على الأقل بكِبَر أعمارهم وضخامة أجسامهم. وكلٌّ في موقعه، تذكروا حكاية الممسحة والممحاة، حكايتهم، وهَمُّهم الذي لم يفارقهم، فَقرَّ قرارهم على أن يشهروه في وجه جميع من يقابلهم ومن لا يقابلهم، أيضًا. ورغم أن كل شيء مباح في زمنهم فقد شَكَّلوا جمعية سرية، متعاضدة، من انضم إليها فاز بطِيب الذِّكْر وحُسن الثواب، ومن «ضل» السبيل إليها فهو في ضلال، وتُنَفَّذُ في حقه كلمة السر المكونة من ثلاثة أحرف: ميم، حاء، واو. والحق أني لم أكن على بَيِّنة من هذا الأمر، ولم أعلم به إلا صدفة حين نبَّهَني إليه أستاذ ورجل فاضل. عِلْمه غزير وتواضُعه وفير، وقد دفعتني حِرفته وتحيره إلى الاستفسار في هذا الشأن العجيب، فهالني، حقًّا، أن أمره استشرى أكثر مما قَدَّرت حين قادني استقصائي إلى اكتشاف أن المَحَّائِين شرَعوا يمحون بعضهم البعض بعد أن صُعِقوا بأن أجسامهم، مَهْما تكَوَّرَت أو تَحَرْبَنَت، ظلَّت مستوية بالتراب، لا تطول مَن وُهِبُوا بالطبيعة أجسادًا طبيعية تعلو بقامات هي أسماؤهم لا يبغون عنها بديلًا، هم بها نار على علم حتى لو حاول المَحَّاءُون حَجْبها بسدَف الظلام. أظن أني بعد وقت وجيز، عدتُ إلى صاحبي فألفيتُه على فضيلته يزداد بها كمالًا، ناظرًا إلى «الزوش» اللاغط حولها بتعجُّب الحكيم (وعدَا ما يصدره الزوش من وزوزة مستمرة يحسب أنه يملأ بها الفضاء وهي بلا طائل، فإن من معانيه في اللغة العبد اللئيم، فتعجب). أظن أني خاطبته كالمعاتِب: ألا ترى يا شيخنا أنك نسيتَ عنصرًا بدونه لا تبلغ الحكاية ذروتها؟ قال بتواضع العارف: فما هو يا تُرى؟ أجبتُ: هو أن عُمْر الممحاة قصير، كما تعلم، فبقدر ما تمحو تَتآكلُ، تَزول … وهي إلى زوال.

(٣) أولاد الصبر

ولم أكن أعلم أن صاحبي من الباعة الطيبين في ذلك السوق الذي أرتاد، يَتكتَّمون على ألف سؤال وشكوى، كما لم أفطن لغروري أو لامبالاتي، ولا شك بأن الجزَّار والحوَّات، والخَضَّار، وبائعة الدجاج جميعهم يقتنون الجريدة كل صباح، ويَدسُّون أنفهم في قراءة التفاصيل هنا وهناك. وفي كل مرة تعاملت معهم وجدتُ من يلفت نظري إلى قضية أو أثار استفسارًا، وعليَّ، أنا صاحب هذه المقالة، أن أُدوِّنه وأرد عليه كأني الوحيد المُبتَلى بالفهم، لكن الذي فهمته حقًّا مع المعاشرة أنهم يختلفون تمامًا عن فصيلة المماحي؛ إذ هَمُّهم الإعراب عن تقديرهم وامتنانهم لمن يستحق منهم ذلك. إن غِبْت عنهم اشتاقوا إليك، وإذا عُدْت عانقوك بعد عتاب رقيق، بلغة لا يعرفها إلا أبناء الشعب الذين تَربَّوا على الفطرة، وحنَّكَتْهم تجربة الكدح ومعرفة الناس بلا مناورة أو ارتياب أو كيد مكنون. أبناء عمي هؤلاء ليسوا سُذَّجًا بأي حال، وفطنتهم حاضرة في كل حين مع بديهتهم الخاصَّة رغم تلك التعابير المهندسة، المزركشة، التي يحملها الحضريون في وجوههم وهم ينظرون إليهم ليعاملوهم، أحيانًا، كالعبيد أو أولاد السخرة، ودعك من الحضَرِيَّات المحزوزات، اللواتي يَخَفْن على أنفسهن في كل ثانية مِن مَخاطر الكولسترول ولا يعنيهن في شيء أن تغرق البلاد في مليون طوفان.

والحاصل أن هؤلاء الذين أعرف ينظرون وقلَّ أن تسمع الواحد منهم يجأر بالشكوى، ومنهم صاحبي بائع السمك، وهو على قدر عالٍ من اللياقة والتهذيب، فاجأني في أول يوم من رمضان بطلب لم أتوقَّعه في صبيحة رأيتُ فيها البشر على أشد ما يكون من الفتنة واختلاط الحابل بالنابل، وما ذلك إلا لأن شهر الصيام فاجأهم، على ما يقولون، فهجموا — أصحاب القدرة على الهجوم، طبعًا — على المَحالِّ التجارية، والخضَّارين والجزَّارين و … و … وكأن حالة طوارئ ستُعْلَن بعد قليل. فاجأني الرجل حين طلب مني أن أتحدث عن وضع هؤلاء وأُقارِن بينه وبين مَن في وضعه هو وأمثاله من العاملِين، الصَّامدِين، الصابرين، الذين هم من أصدقاء الفجر ولا يقومون لصلاته في المناسبات ادِّعاءً وتفاخرًا. قال، اكْتُب عن الذين يتعَبَّدون دائمًا بصَمْت وفضيلة، ويُخْلِصون في عبادتهم وإيمانهم خارج ما سماه لي بذكاء ﺑ «الدورات الشرفية»، واكتب عنَّا نحن الذين نؤمن بأن الرحمة لا تسكن قلوب الظالمين، والمُستغلِّين والنَّهَّابين والفاسقين، حتى ولو صَلَّوا ألف ركعة في اليوم، أو تَصدَّقوا على مَن يحتقرونهم بكل ما مَلكت أيديهم … في هذا الشهر المبارك. ألا ترى أن استيقاظنا والناس نيام، وكَدْحَنا، وصَبْرَنا، بل وصَبْر كل الذين لا يَجِدُون اللقمة إلا بأعسرِ وسيلةٍ عِبادةٌ؟ واسترسل يتحدث ويسرد، ولم أتَبيَّن إلا بعدَ فوات الأوان أن المتحدث صار جمعًا، فجموعًا ينبغي أن نخجل أمامها حين نستعمل الكلمات الكبيرة، وننتج تلك الخطابات الفضفاضة متناسين الوقائع الصغيرة، والمناطق المدمدمة حتى وهي صامتة، خفية؛ لأن رجالها يخرجون إلى الحياة يوميًّا مع الفجر.

٢٥ / ١ / ١٩٩٧م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥