آخر نداء في سان جرمان
رنَّ الهاتف بصورة غير متوقَّعة تمامًا، صدَر الرنين في البداية رتيبًا، مُنتظمًا، فمتواترًا، فلم أُعِره أي انتباه، كنت مقتنعًا أنه لا يعنيني، أنه يرن في غرفة أخرى، في شقة غير هذه التي تَلطَّف ميشيل فأعارنيها لأنزل فيها بضعة أيام، هنا في الدائرة الباريسية الخامسة بدل تلك الأخرى، المهجورة اليوم في «نويي سورسين» عند الضفة الشمالية من نهر السين. قال إنه ذاهب لقضاء عطلة الشتاء في التزلج على الجليد، وفي شقته التي لا يعرف أحد أني سأنزل بها سأرتاح، وسيتوَفَّر لي الوقت الكافي لتأمُّل بعض ما فات، وإنجاز حساب ولو سريعًا للربح والخسارة عن تبعات قرار الجمع بين ضفتين أو التراوح بينهما، وربما، قبل إدراك فداحة العواقب، بخسارتهما معًا فيما يشبه لعبة بوكر يمارسها مقامِر محترف يراهن دفعة واحدة على كل شيء أو لا شيء.
صار الرنين مِلحاحًا ويدي كالمشلولة مُتهيِّبة رَفْعَ السماعة ما دام يقيني أن الأمر لا يعنيني، وإذا كان الأمر يخص واحدة من صُوَيحِبات مشيل فلا يعنيني أن أرد عليها لأُسَرِّي عنها أو تستدرجني لمعرفة مكانه الآن تحديدًا، هو الذي اختار مثلي أن يَخْتَلي بنفسه لبعض الوقت، أو تَوهَّم، في هامش من الغياب.
فكَّرت فجأة أن بإمكاني ألَّا أُوجد بتاتًا، أني انعدمتُ بمجرد إدارة مفتاح الباب بإحكام من الداخل، وعندي ما يكفي من المَئُونة لأسمح للدم بأن يجري في عروقي وللقلب أن يصدر دقاته على هواه، لا، بل قلتُ إني فعلًا غير موجود، كما هو الشأن هناك، هنا تحت شمالي هذا حين انحدرتُ إلى الجنوب لا طلبًا للشمس، وإنما لإنسان الجذور، إنسان الوطن الذي افتقدته وحسبتُ وأنا أرتمي في أحضانه بلهفة حارقة أني واجده، فيما كان هو قد فارق ذاته أو فارقَتْه وراحت تتدحرج في التلف. هنا ألفيتُ صورتي، قامتي، تتخايل أمامي. أراها تستيقظ في الصباح وتقصد المرآة تَوًّا لتتأكد أن نصفها لم يُشْطر منها في النوم إثر انقضاض كابوسٍ ما أنا موقن أني أعيشه، ولا أريد أن أعترف به أكثر من حلم عابر في الكرى. ثم تذهب القامة إلى غابة هرمة أدْمَنَتْها لتهرول بعناد لإنهاك الجسد والتَّصدِّي، عبثًا ربما، لزمن اسمه اللاشيء، بعدها تَئُوب فتفطر، وتَحْلِق، وتَستَحِم، وتنصرف إلى أعمالها المنظَّمة أو الطارئة برنين في أذنٍ أن هذا كله لن يُجْدِي في شيء؛ لأن الزمن هنا، وقد يكون في مواقع أخرى، شاردًا في لا مكان. أما التنقل عبر شوارع مأهولة بالسأم والظلال المنحسرة، والجلوس في مقاهٍ يتناسل فيها الخمول والتأفُّف، ثم اقتناء باقة ورد لحبيبة مُحتمَلة قد تَترامَقان في مُنعطف خلسة من العيون المفترسة والنظرات الحاقدة، وأنت تهديها باقتها هامسًا لها بأنك تنتظر هذه اللحظة منذ وصلت، والحياة لأجل هذا تستحق أن تُعاش، والآن اذهبي، فالحزن على فراقك سَيهْمِي عليَّ أبدًا حيثما حَللتُ … هذا كله، أَهْوَل منه وأرَقُّ لن يزيد البَدد إلا بَددًا، والروح وقد عَنْكَبَت فيها، الْتَوَتْ بها شجرة أنساب الذِّكرى كالتِّنِّين، لم تَعُد تنفع مأوًى لها، ملاذًا لهذا الرميم الذي يمشي على قدمين أمام العيون المفترسة وهو رميم؛ ولذا فأنت موجود فقط من حيث الشعور المُكْرَه غَصبًا بأنك موجود والكلمات، إذ تعاند في الإصرار على حضور الوعي، تمارس ضِدَّك خيانة قُصوى لتأجيل إشهار كل هذا العدم.
لا مناصَ من حَمْل السماعة أخيرًا، فالشخص الذي في وجهة أخرى لا أعرفها صامد في الخط إلى أن يلتقط صوتًا أو صوتي: ألو، ألو، مَن في الخط أنا … هذا بيت مشيل لانغلوا، لكنه غير موجود، ولا أظن أنه … لا يهم، فأنا لا أريده، بل ولا أعرفه وأطلب آخَر، أقصد … لا أفهم وما دام غير موجود، فإني لا أستطيع أن أفعل شيئًا من أَجْلِك … بلی، بلى … لا أعتقد، وبإمكانك إن شئتَ أن تترك اسمك ورقم هاتفك أو رسالة ما إليه، وأَعِدُك بأني سأنقل إليه هذا كله حين عودته … إنك تفهمني خطأ؛ إذ لا معرفة لي بهذا الذي اسمه، اسمه. السيد لانغلوا … كما ذكرت، أريدُك أنت بالضبط.
تريدني أنا؟ أجبتُه مُستفهِمًا، شبه مُستنكِر، وقد احتبس ريقي في حلقي.
– أجزم أنك قلق وخائف، ولكنكَ أنتَ مَن أقصد.
– اعلم أولًا، أني لستُ خائفًا، ثم إني لا أعرف أحدًا في هذه المدينة، أقصد أني لم أعد أعرف.
– هكذا إذن، بهذه البساطة تنسى أصدقاءك!
– هذا لا يعنيك في شيء، وستجدني مُضطرًّا …
– إذا أغلقت الخط فَستَنْدَم؛ لأنك ستبحث عني، ستستوحش كثيرًا وتَقلِب الدنيا؛ بحثًا عني، وعندئذٍ لن تجدني، ويا لندمك حين لا …
وتباعد الصوت والخطو قليلًا. خِفْتُ أن ينقطع، وتذكرتني أعدو في شوارع مهجورة، وأخرى مُحتشِدة بوجوده لم أعرفها أبدًا. قبل يومين فقط، توزَّع جسدي على خريطة المدينة، في العام الفلاني سقطت مِنِّي قطعة هنا. في عام كذا بُتِر مني عضو هنا، في ذلك العام أشعلنا ساحة حرائق وأعارت النجوم ضوءها للورد، في الأعوام التالية، توالى البتر. ولما تبدَّد منا اللحم والعظم فتحنا رءوسنا لنطوح بها كي تلحق بذلك المغربي الذي طوحت بجثته في نهر السين يدٌ عابثة، فاجرة، هي اليد نفسها التي زحزحتني في كُرسِيِّ وأنا جالس قُبالة ذكرى القتل الفائت، المغربي لم يعش أبدًا إلا في غربة حياته ولم يترك لأحد فرصة العيش في مَنْفى وطنه … جالس قُبالة وجهي المندهش بالنظر إلى صَلَف عنادي لمواصلة المجيء إلى هنا رغم كل الذي حدَث هنا. فقلتُ له إنه لا مناصَ لي من العيش في المرارة، ثم إني وعدتُه سِرًّا وجهرًا بأنه لن يبحر في النفق وحده، وأنَّني/أننا سنقتفي أثره إلى أن نبلغ سويًّا النَّبع أو عين الدمع، أو ستظل هذه المدينة المدبوغة على أطرافي المبتورة فيها خلاء ما خلا منها وجهه المتصف بشمائل الصحراء وخصال الرياح العاتية.
– هَه، هل عرفتني أخيرًا أم أنتَ مُصِرٌّ على الصمم؟
– أظن، بلى، خالي موح، أنت وحدك من يستطيع اقتحام خلوتي وبيتي، كيف ومتى ومع من تشاء، وحتى في هذه الوحشة القاتلة.
– وأنت كذلك أم قد نسيت؟!
– كلا بتاتًا.
– لكن كيف عرفتَ أني أبحثُ عنك، وكيف وصلتَ إلى هذا العنوان وأنت هناك في ذلك السفر الطويل؟
– أوه، هذا سر من أسراري لن أكشفه لأستمر قادرًا على قض المضاجع.
– الآن وقد عرفتُك وأكاد أراك شاخصًا أمامي، فهل من أمل في اللقاء بك؟
– هذا ما كنتُ سأقترحه عليك من أول المكالمة، طبعًا إذا لم تَجِد في الأمر غضاضة، أو تحس بأي خوف من لقاء الأشباح، أو من أن أطلب منك البقاء معي وقتًا قد يطول عساك تُؤنِس وحدتي القاسية في النفق الموحش الذي أنا فيه الآن.
– بتاتًا، كأن ثقتك بي تزعزعت. لا بأس عليك، حدِّد لي المكان وبأسرع وقت ستجدني عند السمع والطاعة ولهفتي منذ الآن شديدة …
– أعرف أنك تُفضِّل جلستك الأثيرة في الكافي دوفلور، اليوم قبل الغد في السابعة مساءً، نرتشف قهوة مُزَّة، ويكون لنا بعد ذلك أمر.
أُغْلِق الخط لتنفتح أمامي بُعَيْدَها كل الخطوط والآفاق، أو هكذا تَصوَّرْت، أنا الذي ينبغي أن يكف عن التصور.
في السابعة إلا خمس دقائق وجدتُ بصعوبة طاولة منزوية في الباحة المغطاة لمقهى لوفلور. لمحني النادل الموشك على التقاعد فذهب وحده يجلب طلبًا اعتاد على سماعه منذ سنوات. حرصتُ على حجز أول كرسي فرغ أمامي، كوَّمتُ فوقه معطفي وجرائد لا طاقة لي بقراءتها أشتريها بحكم العادة، بخلاف مجيئي اللحظة لهذا المكان الذي أريده أن يكون خارقًا للعادة. وصل الطلب وبدأتُ أرشف على مهل، فوالله لمثل هذه القهوة تُشَد الرحال، عين إلى الساعة وعين إلى القامات الإناث الذكور، للصحافيين الفنانين الكُتَّاب، وأنا متأكد أن جان إيدرناليي لن يحتسي جعاته هذا المساء هنا ولن يدفع آخِر فلس ليس معه في مطعم «الكلوزري دي ليلا» ليلتنا هذه، وذلك ببساطة لأن قلبه خانه في دوفيل فمات غير بعيد عن الكورنيش الذي كانت مرغريت دوراس تَسكر وتَنتَحِب فيه بصمت مذهل.
الوقت يمر ولا يمر، السابعة تتمطط حتى الربع، تزداد تمطُّطًا حتى النصف، فما بالك يا صاحبي تأخَّرتَ أم إن الزمن عندك لا تختزنه ذاكرة الرمال، أم إنك تقصد تعذيبي لتختبر صدق لهفتي أم …؟
هاتِها ثانيةً يا جوليان، فليس مثلها رفيقًا مؤنسًا في الانتظار. غادر زبائن وجاء آخرون وأنا في الانتظار أجيل النظر حولي وفي وجه الداخل والخارج ولا أحد يأتي ممَّن أعرف. هي باريس لفظت عرَبها الذين «هاجروا» إلى ذكرى أوطانهم أو ما تبقَّى في الخرائط والصدور من أوهام، هو بالذات لم يأتِ، هو الذي طلب الموعد وحدَّده، ولا علاقة مطلقًا للأمر بحكاية غودو الرثة، وعمومًا، فنحن أيضًا لدينا أكثر من غودو انتظرناه، انتظرناه طويلًا لحد الملل واليأس. وحين نفضنا اليد من حضوره جلسنا في انتظارنا، أثَّثناه وزيَّنَّاه وصار غاية وقد أردناه وسيلة، نمشي فيه طويلًا، فإن تَعبنا اقتعَدْنا حاشية منه ونحن لا نُعوِّل على شيء، هكذا نحن اليوم لا نعول سوى على استئناف سَيْرنا نحو لا شيء، لا نحزن، لا نفرح، لا نندم وقد غادرنا البكاء إلى الأبد واستعَضْنا عنه بأسارير تنفرج عن ضحكات بلهاء شعار البلاهة الكبرى التي وقعنا فيها.
حين نسيتُ أني أنتظره، وقد زحفَت الساعة نحو التاسعة، سمعتُ مكبر الصوت في المقهى يصدر منه صوت المضيفة يدعوني باسمي لتلقي مكالمة، ثم تردَّد النداء بإلحاح، ففهمتُ أن الدعوة موجَّهة إليَّ حقًّا وأنني لا أحلم أو أهلوس، فحملتُ بعض بقيتي وذهبتُ مستنفرًا إلى الهاتف منهكًا بنبرة المعتذر: لم أتمكن من الحضور لموعدنا، فالنفق طويل وموحش، وقد تعذَّر عليَّ الخروج منه الليلة للوصول إليك. أنت لا تستطيع أن تُقدِّر أي عالم هنا. حسنًا أنك حضرت فهذا دليل على أن هناك من يَذكُرني، إنما دعني أسألك، هل جئتَ من أَجْلِي أم من أجلك أم …؟ وانقطع الخط، فصرتُ أصرخ: ألو، ألو، أم ماذا؟ أكمل رجاء، ألو … صرختُ وأنا أكاد أنتحِبُ. وهنا نبهتني المضيفة بأن الخط كان قد انقطع منذ وقت، وأنها لم تفهم إصراري على الكلام وهي التي رأت الإشارة الخضراء في صدر الهاتف منطفئة. صرختُ في وجهها مستنكرًا: هل تقصدين أنني لم أكن أكلم أحدًا؟! ردَّتْ على الفور: طبعًا، وأنتَ تُكلم نفسك دائمًا، وهذا ما تَعوَّده الجميع منك هنا أيها السيد سين، وأحب أن أضيف بأن المكالمة كانت مُوجَّهة لشخص آخَر غيرك لم يحضر لتَلَقِّيها؛ لأنه ببساطة غير موجود، هه، هل فهمت؟! غادرتُ المقهى وأنا أجر أذيال الغموض، وعِوَض التَّوجُّه إلى الشقة القريبة في الدائرة الخامسة، وجدتُني أنزل في نفق محطة السان جرمان.
بمجرَّد وصولي إلى الرصيف، سمعتُ مكبر الصوت يُردِّد: النداء الأخير للالتحاق، آخر نداء، المترو يزفر ويوشك أن ينطلق، ولم يكن بالمحطة كلها أحد سواي. قفزتُ كالمدفوع من الخلف … وأنا الآن ذاهب في النفق.