خلاءٌ باريس بعدك … باهي
إذا نزلت باريس، فالزيارة واجبة للأحباب والأصحاب، وفي نهايات الشهر الرمضاني خاصة. إنما كيف، وعرَب الزمن القديم شَحُّوا، وأقوى الديناصورات مِمَّن بَقُوا هم في طريقهم إلى الاضمحلال؟ الذين يحملون نياشين وأوزار الإقامة القديمة لا يعيشون إلا بالمكابَرة أو بعناد أنهم باقون هنا رغم كل شيء، هؤلاء المثقفون والصحفيون والفنانون وأشباههم إنما يُراوِحون مَكانهم أو يتراجعون إلى مَرابع الحنين الأولى انطفأ جمرها، وها هم يَتَلفَّعون بصَمْت مَقرُور يفضحه كلام ضاجٌّ بلا معنًى عن عثرات الأوطان والانطواء في المَنافي. الملاذ إلى لا مكان وهو ما لا تُغيِّره في شيء سخرية فايز الذي يُسمِّي العائدين إلى أوطانهم بالمهاجرين، وقد قدَّرْت أنه يقول الكلمة على مضض، في ضرب من التَّشفي البارد يعي أنه لا يؤذيه إلا هو؛ لأنه لا ينفك يحس بأن العالم حوله يواصل الهجرة، وهجره؛ ولذا فإن عينيه دائمًا حزينتان مُراوغًا الآخرين عن حزنه بابتسامة الشامي القديم الذي كان فرحًا ذات يوم.
ذات يوم بعيد حين وصل إلى مدينة كانت فاتنة بأحلام الثورة، ثم ذهبَت كل الثورات وبقي هو في نقطة لا هي الذهاب ولا الإياب، أو حين كان الباهي هنا حوله، حولنا، معنا يُجَلْجِل بضحكة صاخبة ملء امتداد الصحراء وغنج الكثبان، تعدينا ضحكته فتَصْطَفِق الأكفُّ، ولا غرابة أن يَلتفِت «النصارى» قُرْبَنا مُستَريبين أو مُستَغْرِبين من أين لهؤلاء العرب بكل هذا المرح والسعادة؟ أما الجيران والمارَّة ورؤساء تحرير كبريات الصحف وكبار السياسِيِّين والمسئولين في تلك الأجهزة، مع مُخبِريهم وحَشْد آخَر ممن يقتفي نبض القلوب، هؤلاء جميعًا وسواهم يعرفون أنه شيخ قبيلة نحن أفرادها ولها فروع وأغصان مديدة، وما جَلْجَلة الضحكة إلا قصاص صغير من فضيحة الحياة الكبرى والهول هو القادم.
وقد اشتد علينا في ذلك العام من حرب الخليج، فانقطعَت بنا السُّبل ونحن في ديارهم، ديار الغربة غرب، والسباب يسوط تاريخنا وشعوبنا غرب، والنظرات قبل الكلام تَنفثُ حقدًا غرب، ومؤسَّسات التَّوجُّس تطلبنا واحدًا واحدًا؛ لأننا لا نستطيع أن نكون غير هؤلاء العرب غرب، وظل يقول الهول هو القادم. ووصل الدم حتى الركب في الجزائر، كما توقَّع، وما زال يصعد، وحين أراد أن ينزل أخيرًا إلى الجنوب ليخفف من غَلواء الشمال ويلحق بالمجرى من منبعه زهقت روحه.
من يومها نَفقَت روحها باريس، وبِتْنا نهيم فيها على وجوهنا، نمشي على غير هدًى، لا نعرف أَنَبْحَث عن شوارعها، أم عن أطرافنا المبتورة فيها، أم عن بقية صدًى في ركن من أركانها الضحكة المُجلجِلة؟
هي ذي خلاء كما لم تكُ من قبل، فزَّاعة تطرد سحنات الغرباء عن ظلال الموتى المقهورين، مزروعين بين مقبرة المونبرناس وبيير لاشيز ومقابر للشهداء ضمَّت أجداثهم بلا استئذان في الرحيل.
باريس بعدَك خلاء، وهي لم تَخُنك؛ فنحن الذين نهجرها من شِدَّة تسلُّطها علينا وغرامنا بها لنذهب رأسًا بعيون شبه مُفتَّحة إلى طعنات الخيانة، فوالله ما انسلَّ النَّصل والدم فوَّار ما يزال، وحيثما ألقيتُ ببصري، أرى وجهك منفلتًا بين الوجوه ولا أرى أحدًا.
أسمع حميد سعيد شاعرًا وإنسانًا يهمس في أذني: المدن أصدقائي؛ أي لا معنى ولا وجود للمدن بلا أصدقائي، فأكرر قوله المأثور، وأنا أبحث عنك، صدقتَ أبا بادية، وإن أردتَ مصداقًا جديدًا لنبوءتك فتعالَ إلى هذه المدينة لترى بهاءها، بهاؤنا زال بعد أن رحل، رحَلْنا، وها نحن في السَّديم.
وتذكرت في فجوة من زمن مُترجْرِج أن بوعلام الجيلالي ما يزال هنا، وأن الزيارة واجبة للأحباب والأصحاب، وفي العشر الأواخر من رمضان خاصَّةً، لن يغفرها لي إذا علم بمروري وهو الذي لا يكف عن السؤال رغم صَمْتي الطويل في الكلام عنه، وسيفرح إذ يقابل مَن يفش عليه قلبه، وقلبه عامر مثل كل الغرباء، أعرف أنه يقسو على نفسه في شهر رمضان، يصوم أقوى من أي مسلم في الدنيا، يُخيَّل إليَّ أحيانًا أن المهاجرين هم أقوى المسلمين صيامًا وأتقاهم فيه، بل إني أراهم كذلك حين أرى ظروف عيشهم، وأسلوب حياتهم، وانشدادهم إلى ما يؤكد هُوِيَّتهم ويشعرهم بحقيقة الانتماء إلى نفوسهم. الدين عقيدة وثقافة وهو عندهم جوهر الانتماء، وكلما تفاقمت حملات الرفض للأجنبي، وقرارات العزل والتحسيس العنصري، والتشنيع على العربي، ترى هؤلاء المهاجرين أحرص على التشبث بكل ما يعلن هويتهم ويمنحهم طمأنينة الوجود في حيِّز من القيم تخصهم؛ لأن ضرورة الاندماج التي يقرعون بها رءوسهم صباح مساء، ويتعيش بدرسها، وبحث إمكانياتها وتلميع ظواهرها الباحثون الغامضون في تلك المعاهد الاستراتيجية، ذلك الاندماج لا يعني شيئًا سوى أن تَتخلَّى عن عقيدتك وثقافتك، بَلْه وأن تَنبتَّ الصلة تمامًا بينك وبين ما كُنتَه، لكنك مهما فعلتَ، مهما تنازلت وتَخلَّيت فلن تصبح في وَضْع الآخر الذي يطلب منك أن تلغي أناك؛ وما ذلك ببساطة إلا لأن الاندماج استحالة، بلاغة سياسية، صرعة موسمية، شيء من هذا القبيل؛ إذ ليس للآخَر حيِّز يتَّسع لغير أناه، ولو احتاج لأنا أخرى أو تسامَح مع وجودها إلى جانبه فلكي يسخرها، ليسيطر عليها، ليسحقها كعقب سيجارة متى شاء، أو يرمي ببندقية صيد فتًى تتأكله الوحدة في ليلٍ مُوحِش، وهو يُدندِن أمام مدخل العمارة بأغنية شجِيَّة مطلعها «أبطا علي وقتاش نشوفك …» واليهودي وحده فَهِم اللعبة؛ ليقلبها لصالحه مطالبًا بأن يصبح هو مجال الاندماج الوحيد إذا أراد العالَم الغربي أن يُكَفِّر عن جرائم النازية في حَقِّه، ومستخدمًا قانون القوة والمال والإعلام وكل وسائل السيطرة، ويسقط على العالم كله مفهوم «الغيتو» كفضاء مادِّي ونفْسي وثقافي، لا ينبغي أن يبقى عارُه وحْدَه، ومحتفظًا لذاته، في الآن عينه، بالحيِّز الذي ليس مسموحًا لأحد اقتحامه.
لم أكن في حاجة لترديد هذه الأفكار على سمع بوعلام؛ فهو يعيشها وغيرها بحِس فطري يوميًّا، يُكابدها يُبدِّدها في الشرود الذي بدأ يلازمه، وهذا المساء بالذات، لم يكن بحاجة لأكثر من احتضاني والاحتفاء بي حول مائدة إفطار أَعَد لها فعلًا أطاييب الطعام، وأمضى، كما قال، نصف يوم في تحضيرها، وأَقْسَم أن أشرب الزَّلَّافة الثانية من حريرته التي يحمل نصفها كل مساء إلى مدام لاكونسيرج عساها ترضى عنه؛ فتتسامَح مع مَغاربِيَّته المتشرِّدة في بلاد الناس. وما كان إفطار عبد الرحيم المحمدي ذا معنًى إلا إذا ركب المترو من محطة تولبياك في الدائرة ١٣ ليتوجَّه عند أحد معارفه في الدائرة ١٨ البعيد حقًّا من أجل الفوز بزَلَّافة من الحريرة تنسيه هموم إعداد تلك الدكتوراه الوطنية، لا بل إنه كان يَمتطي القطار لمسافة خمسين كلم إلى «بوفي» شمال غربي باريس ليفطر، بعد صيام المجاهدين، مع أولاد عمه المزابيين، ردَّ الله غربتهم أجمعين. والآن ماذا عن أخبار البليدة؟ سألني بوعلام وهو ينفث دخان أول سيجارة بعد الحمد لله والشكر لله، أجبتُه بغير حماس من خلال دخان غليوني: البلاد كما تركتها عدَا أنها شَبِعَت ماء وهي اليوم غارقة في حريرتها!
المهم ما أخبارك أنت؟ وهل تفكر دائمًا في الرجوع؟ أوه، هذه حكاية طويلة لا تنتهي، تمشي وترجع، مثلك أنت تمامًا مشيتَ وترجع، وستفعل ربما إلى ما نهاية، هذه بلوی، لا كرامة هنا، لا كرامة هناك، هنا العيش وهناك لا عيش على الإطلاق، إلا أن أنخرط في عرارم المُتسوِّلين، وهنا، أيضًا، يغمزوننا بالشَّحاذِين ونَفَر الهَمَج، وعليك اليوم أن تُحصي نجوم السماء قبل أن تُجدِّد أوراقك.
وغدًا، بعد عام، بعد عشرة، ربما جمعونا كالجَرْبى، وشحنُونا، بالأوراق أو بدونها، وأعادونا إلى ذلك الخلاء، بالأوراق أو بدونها، من حيث أتينا، هل تعلم أنهم خصموا أسبوعًا من راتبي الشهر الماضي؛ لأني لكمتُ زميلًا فرنسيًّا في المعمل رماني أمام الجميع بتلك الشتيمة الشهيرة، فلم أتمالك أعصابي أنا «العربي القذر». وأعود أقول: كل هذا يهون يا بوعلام، خُبْزة حارَّة ولكنها على الأقل مضمونة، وإذا جمعتَ حقيبتك، فَأين ستذهب وفي بلادك جيش من العاطلين؟ وربما لن تعرف كيف تمشي في الشارع، إذا وجدتَ شارعًا تمشي فيه … والآن ما رأيك في طرح من الروندة، فربما غلبتك وحققت أول انتصار عربي في فرنسا، هه …!
غمرني، فجأة، احتجاج عارم على حشد من المسمَّيات والمفرَدات المُفخَّمة والعبارات المتطاوسة وهي ترفل في بهاء الشعارات المُصطنَعة، يُردِّدها المتاجرون في كل شيء، وفي الحنين أيضًا. أردت أن أصرخ في وجه لفيف من المتكلمين والمتأدبين الذين يلغطون بما لا يعون، ويصفون ما لا يرون، ويَهذُون بما لا يفهمون أو يحسون، أردتُ أن أُجْلِسهم أمامي واحدًا واحدًا، وأطلب منهم الإجابة عن سؤال واحد وحيد: ما شكل الغريب؟ وفكَّرتُ أن صفاقَتهم التي أمْسَت جزءًا من تكوينهم ومِراسهم المُلفَّق لن تمنعهم من إقامة مناحات إنشائية عن الغربة والغرباء … أوه، في هذا العالم! … أوه، في هذه الأرض الخراب …!
أي نعم، ما شكل الغريب؟ لو عنيت، مثلًا، شخصًا من طرازي لا يتسع له مكان، وها هو يجوب في شوارع المدن قاصيها ودانيها، وإذ يتهيأ لعبور جسر «لوبون نوف» باتجاه سامريتان، ومنها إلى الممرات الخبيئة في «البالي رويال»، تقاطعت نظراتي مع قامة إسماعيل كداري القادمة من الاتجاه الآخر، ألتقي به دائمًا صُدفة وعيناه خلف نظارَتَيه تَبرُقان بسرعة كأنهما تبحثان عن كائن ضاع منهما والخَطْو عنده عَجِل، أقول: إن مدينته تیرانا تطارده بأوزار حكامها وهو يبحث عنها عبثًا في ضياع مستديم أحب أن تكون لي فيه هُنيهة؛ لأرى شكل الغريب، وأرى آخر يمشي مع الحائط، وهو لم يسمع عن جائزة نوبل، يده فوق قلبه، فوق ورقة إقامة توشك على انتهاء صلاحيتها يدُق فتهتز كلما رأى شرطيًّا واقفًا في الناصية مُحدِّدًا ذاتًا وقد تَعْنيه هو على الأرجح، بسُمْرَته الداكنة القريبة من لون التراب الحُمْري المتروكة هناك في تلك البلدة المُغيَّبة عنه قَسْرًا وهو حاضر هنا قَسْرًا. تتقلب فوق السمرة ألوان لا أعرف كم تَتبدَّل في الدقيقة الواحدة، من أثر نظرة صادمة في المترو، في الحافلة، في طابور المخبزة، وطبعًا في مبنى التضامن الاجتماعي.
نظرات صادمة، عيون مُتوجِّسَة، قامات متكاتفة بعنف، ربما كان له شكل في قبطة النعنع يدفعها داخل البَرَّاد بحُنَوٍّ وهو يُمَصْمِص شفتيه سلفًا بعذوبة الكأس القادم، له رِقْدة المنكفئ على حلم يمتصه كعرقسوس لا يريده أن ينفد فلا يجده. له الطريق، الرصيف يخطر فوقه متعثِّرًا يَتجنَّبه مَن يمر قُربه خشيةَ أن يُعْدِيه، له شكل يوم أَحد طويل، فارغ تمامًا إلا من «حزن في الرأس وفي القلب»، تَتجدَّد الفصول حوله وهو بارِك فيه كالجمل لا يعرف أين يمضي به، له الأحلام المنكسرة، الأوهام المُتدفِّقة، المشاريع المشتعلة بين أطراف الغُدُو وآناء الثَّمَل، الأظافر المقضومة والسحنة المُتلبِّدة إن قاربت سعادة تقَلَّبت بين حافة الألم وحدود الندم، وله مصير أن يصبح مخبرًا لِيطيبَ خاطر حكومة السيد جوبي، فيبلغ بوعلام، مثلًا، عنِّي إن بتُّ عنده ليلة أو ليلتين وانصرفتُ إلى أقرب مركز للشرطة فيقول لهم إن ذلك الشخص الغريب الذي زارني وقطن عندي ليلتين مضى إلى حال سبيله، وأنا بالله والشرع منه، والله ينصر رئيسكم، وفرنسا ما معها مزاح، وتحيا حقوق الإنسان!
وأنت يا سيدي رحلتَ وأنت لا تعلم أن لباريس الآن سِيما غربتك وشَكْل غيابك، تبدَّدت المراثي المُزبِدة بكلام مُحترِفي المَناحات، بينما بَقِيَت السماء الرمادية الوطيئة تغطي مَماشينا القديمة، نوافذ بيتك اليوم مُغلَقة، ونوافذ قلبي مُشْرَعة ببكاء كَتُوم على سآمة العين لا يندلق، للغربة شَكْل الموت، موتك، هذه حقيقة مُطلَقة وإن أنكرها حضورك المُطلَق، المَوثوق به في أنك تَكلَّمت أو ستتكلم، ضحكتَ أو ستفعل، مررتَ مِن هنا أو سَتمُر لا محالة أو ستُتَلْفِن لتقول أنا قادم عندك مع رهط من صعاليك عرب باريس إلى البيت العامر ماؤه ومرعاه، كما هو حُسن الظن بالشرفاء أم تُراك ستعتذر عن الحضور؛ لأنك إن حضرتَ قد يَشي أحد بعودة موتك المهاجر إلى التراب الفرنسي وقد لا تُحْمَد العاقبة، ولا أستطيع مِن أجلك شيئًا، لا أستطيع لنفسي أنا الذي ما عاد يملك سوى فرط الحنين إلى الراحلين، وفرط بكاء صَمُوت، فمن ينقذني؟ مَن؟