إرهابي في مطار Gatwick

المكان: مطار القاهرة الدولي، الزمن: ربيع ١٩٧٩م، الساعة الخامسة بعد الزوال، تحط بنا الطائرة التابعة لخطوط طيران الشرق الأوسط القادمة من بيروت، نشرع في النزول مُتعجِّلِين الوصول إلى المباني الإدارية والوقوف في صفوف خلف شبابيك شرطة الحدود لختم جوازاتنا، حلَّ دَوري فقدَّمتُ جوازي تَسلَّمه مني شخص بلباس مدني وشرع يَتفحَّصه مقلِّبًا النظر بينه وبيني في ريبة غير مفهومة، وبصَلف سألني: مولاي هذا، اسمك الشخصي أم لقبك، ثم اسم أبوك إيه، واسم أمك؟ أجبتُه باستكانة طالبًا السلامة ودخول مصر التي كنتُ اشتقت لتجديد العهد بها، أمرني بعدها أن أنتظر وهو يشير إلى كرسي طويل قُبالة الشباك في بهو المبنى، فذهبتُ إليه مستسلمًا وبلا قلَق يُذْكَر؛ خاصَّةً وأن آخَرين سبقوني إلى الانتظار، فكَّرْت أنها إجراءات الأمن والتدقيق الروتينية، وقد اختلستُ النظر إلى الرجل وأنا في الطابور وهو يُقلِّب الأوراق في سِجل كبير أمامه؛ أي لم يكن عنده حاسوب يُسجِّل فيه اسمك لجد جدك إلى سيدنا آدم عليه السلام. قلتُ إن هي إلا دقائق وسأسمع النداء باسمي لاستلام جوازي، سماعي لأسماء سبقتني وأصحابها يغادرون أمامي بسلام.

الدقائق تتراكم والوقت أخذ يتمطط، مرَّت ساعة ولم يطالبني أحد، أتَلفَّت يمينًا ويسارًا، فأرى البَهْو يكاد يخلو من المسافِرِين، على الأقل دفعة طائرتي من بيروت، وهالني أن الشُّبَّاك الذي قصدتُ قد أُغْلِق ولا أثر للشخص الذي كان خلفه.

ذهبتُ إلى شُبَّاك آخَر مفتوح فطمأنني صاحبه قائلًا: إن المَعنِي بالأمر سيعود، وعليَّ أن أنتظر؛ فهي مُجرَّد إجراءات وهذا كل ما في الأمر، ولأمر ما لم تعجبني نظرته الماكرة، فانتابتني الوساوس وشرع دماغي يعمل بسرعة قياسية مستعرِضًا شريطًا من الذكريات لزيارات سابقة لي إلى القاهرة لما فُهْتُ به فيها وفي غيرها من العواصم العربية، بل والغربية أيضًا. ربما قلتُ شيئًا لا يعجب عن مصر فنقله مَن يحرصون على الأمن الداخلي للأمة العربية، ولعَلِّي كتبتُ كلامًا فيه إشارة من هنا أو هناك، خاصَّة ونحن في عهد السادات، واستكثرتُ أن تصل المسألة إلى هذا الحد، فأنا لستُ كاتب افتتاحِيَّات مِصْقاعًا، وعمومًا، فأنا أشتغل بالخيال؛ ولذا قمتُ أتمشَّى لأطرد عني الأوهام، وكانت الساعة قد بلغت السابعة مساءً حين سمعتُ فجأة مَن ينادي باسمي، فهرعتُ نحوه كالمُتلَقِّف نجدةً طال وصولها، وعجبتُ أن رأيتُهما اثنين؛ واحد بيده جوازي والثاني إلى جواره يَتفحَّصُني طلوعًا وهبوطًا، وازداد عجبي أنهما بدل تسليمي حاجتي والسماح لي بمغادرة المطار، كما توقَّعتُ، أمراني أن أمشي بينهما، وبهدوء يا اسمك إيه، يا مولاي!

وجَدْتُهما يقتادانني في ممرٍّ طويل عن يمينه وشماله مَكاتب مغلقة، والإنارة خسيفة، وحين أوشكنا على نهايته، فَتَحا بابًا ودفعاني أمامهما وأمَراني بالجلوس على كرسي خَلْف مِنضدة، وغادَرا الغرفة الواسعة بصَمْت، واضح أن ريقي نشَف، واضح أن شحوبي شَحب، حتمًا أنني لا أفهم، فهذه كافكاوية واقعية، ولم يتأخَّر الدليل لِيُثبِت واقعيتها الفجَّة، بعد حوالي نصف ساعة؛ أي بعد أن تركوني أُطْبَخ قليلًا على نار هادئة اقتحم الغرفة من باب جانبي فيها شخصٌ فارع الطول، مَسلوت الوجه، وسحب كرسيًّا مباشرة ليجلس قُبالتي، وبادرني: أهلًا مولاي أحمد، هذا هو اسمك، مش كده؟! فهمتُ ولم أفهم وأجبتُ: طبعًا، ولقبي «المديني» كما ترى في الجواز، جوازي الذي تحوَّل إلى مروحة بين يديه.

– اسمع يا أخينا، بدون لف ولا دوران، أنت اسمك إيه، وجنسيتك إيه؟ أدركتُ أننا سندخل في سين وجيم، فاستحضرتُ ثقافة الروايات والمسلسلات البوليسية من جميع العهود، وقلتُ تَماسك يا فلان وإلا سيوقع بك من الجولة الأولى: يا أخي أنا كما ذكرتُ وجنسِيَّتي طبعًا مغربية، نهض الرجل وهو يزمجر: أنت مُصمِّم على تضييع الوقت وعلى الكذب … الكذب، الله، نعم، أنتَ فلسطيني، أما جوازك هذا فمزَوَّر.

– فلسطيني؟ لا مانع عندي، ولكن أنا مغربي.

– وبعدين يا أخينا، كل ذا يهون، فأنت حسب معلوماتنا من جماعة أبو نضال.

–يا ذي المصيبة، أبو نضال، هكذا، دفعة واحدة، وجدتني أتكلم كمن يهذي أو يتأمل سقوطه في بئر عميق.

أظن أني بعدها أقسمتُ له بأغلظ الإيمان، وأستظهر أمامه شجرة أنسابي، ومحفوظي من الأغاني العاطفية والوطنية والمغربية، فما ازداد إلا تَشبُّثًا بفلسطينيتي وإرهابيتي. وأخيرًا قلتُ له: اسمع يا حضرة الضابط، اتصل بسفارتنا وإن شئتَ فأنا أبو نضال نفسه! وفي هذا كله لم أُرِد أن أُورِّط صديقي بهجت عثمان، رسام الكاريكاتور الشهير الذي كان ينتظرني في مخرج المطار لأُجنِّبه تهمة الجماعة المزعومة. في العاشرة ليلًا حضر ضابط كبير مرفوقًا بأتباعه تتقدمه ابتسامة عريضة وبيده جوازي، واحنا آسفين يا بيه، حصل تشابه، وسيادتك عارف الإجراءات الأمنية، ومصر نَوَّرت، هو ذا الجواز مختوم وأنت شرَّفْت. تَنفَّستُ الصعداء، كما يقال، لكني أصررت على البقاء في المطار في انتظار أول طائرة تقلع إلى باريس، معلش يا بيه، إحنا آسفين، وما حدث بعد ذلك دوَّنه بهاجيجو لاحقًا في رسوم كاريكاتورية، فائقة السخرية.

المكان: مطار روما، الزمن: منتصف سبتمبر ١٩٨٥م. كنت قادمًا في رحلة طويلة من مانيلَّا، عاصمة الفلبين، وعليَّ أن أبدل الخط في روما لألتحق بباريس وأمامي أزيد من ثلاث ساعات لاستئناف الرحلة. فكَّرْت في النزول إلى المدينة للتَّجوُّل وتزجية الوقت. غادرتُ المطار بهدوء وفي العودة، حصل ما لم يكن بالحسبان، فبينما أنا في الصف لختم الجواز، تقدَّم نحوي علنًا شخص سري طالبًا منِّي أن أتبعه بعد أن أظهر لي هُويَّته. أخذ جوازي وتركني في غرفة يشغلها زميل له، وبعد وقت وجيز عاد ليسألني مباشرة: هل أنت من ثُوَّار مورو؟ أو ما علاقتك بهم؟ هذا ما فهمتُ من فرنسيته المكسرة، ضحكتُ من سؤاله؛ لأنني آنذاك كنت في الحقيقة أشبه بثوار التوباماروس، بشعر كثيف ولحية كثَّة وشباب غضٍّ وأحلام بالثورة، أيضًا. وعاد يسألني جادًّا وملامحه تبدو منقبضة كالمصاب بمَغَص: ولكن ماذا يمكن أن يفعل مغربي في الفلبِّين؟ هذا إذا كنتُ مغربيًّا حقًّا، وهنا عاد يُقلِّب صفحات الجواز وهو يَتفرَّس في وجهي مُجيلًا النظر بينه وبين صورة لم أكن فيها «مغوفلًا». وقد بدا لي سؤاله معقولًا في ذاته حين يقارن بوضع المهاجرين المغاربة إلى إيطاليا وما يشتغلون فيه من تجارة السجاد وغيرها، وعنَّ لي أن أحيره وأغيظه، فليس من شأنه أن يعرف لماذا ذهبت إلى أستراليا أو الفلبين، وفي هذه الأخيرة، قلتُ له: بأن جزيرة مورو بعيدة جدًّا عن مانيلَّا، وإن آخر همومي مناصرة الأديان كيفما كانت، فأنا مسلم بالفطرة، ولأصل إلى الكرشندو غمزتُ له بأن لي ميلًا خاصًّا إلى الفلبينِيَّات، وهذا كل ما في الأمر.
المكان: مطار رواسي – شارل ديغول، شمال باريس، الزمن: مطلع أبريل ١٩٨٨م. كنتُ أستعد لامتطاء طائرة مُتوجِّهة إلى عاصمة اسكندنافية؛ للمشارَكة في ندوة أدبية جامعية. أَبطأَ موعد الإقلاع قليلًا فَرحتُ أتلهى بالتَّفرُّج على معروضات مَتاجر المطار، فجأةً سُمِع رنين صفارات وهرع بسرعة قرابة عشرة من رجال الشرطة، والأرجح شرطة مكافحة الإرهاب، وكانت هذه الفترة عصيبة والمطارات مَحْمِيَّة في مجموع التراب الفرنسي مثل محطات القطارات والمترو، كما هي عليه اليوم، أحاطوا مركز بهو المطار بشريط طويل واقٍ، وصدر عن مكبر صوت نداء يدعو المسافرين إلى الابتعاد عن الدائرة، بدل أن أبتعد أنا وغيري، جذَبَنا الفضول لمعرفة ما يحدث. كان الجميع حقًّا يقظًا أو مضطرًّا لليقظة بسبب النداءات المتكرِّرة بعدم تَرْك أي حقيبة أو متاع مهملًا وحده، ففي ذلك مصدر خطر وسيتم إتلافُه حالًا، والسهو والفتنة من طباع المسافر وهو ما يتسبب في ضياع كثير من الأمتعة أو سرقتها، اكتمل الطَّوق وحوله كلاب بوليسية مُدرَّبة وأصبح المطار في حالة طوارئ قصوى، في مركز الطوق حقيبة متوسطة الحجم، سوداء، متروكة لم تَمسَسها يد، مهملة أو مَنْسِيَّة أو أن صاحبها غفل عنها مؤقتًا لشأن ما، وهذا ما لا تفهمه الشرطة المستنفرة التي ترى فيها طردًا ملغومًا أو محتملًا، صارت الأعصاب مشدودة حين حضر اختصاصي في المتفجرات واقترب من الحقيبة بحذر ومضى يحيطها بأسلاك ويلصق بها أخيرًا أصبع ديناميت ملفوف ثم ابتعد، ابتعد كما ابتعد كل بني آدم، فجميع الاحتمالات واردة أو مفترضة أو وهمية ويحدث انفجار يهز المطار هزًّا، فتلعن رحلتي إلى كوبنهاغن، ما بين شعور القلق ولحظات التَّرقُّب سُمِع دَوِيٌّ محدود الصدى؛ فها قد وقع الانفجار، لقد فجَّر الاختصاصي الحقيبة وتناثر جلدها أو بلاستيكها أشلاء ومزقًا.

لم تكن قنبلة، لم تكن طردًا ملغومًا من وضع إرهابي للفتك بالأرواح والتشويش على أمن الدولة الفرنسية، مع الانفجار ترامَت محتويات الحقيبة قريبًا منها، واقتربنا نحن الفضوليين، المُولَعِين بالإتلاف والمفاجأة، فماذا رأينا؟ لا شيء بتاتًا أو كل شيء، محتويات بائسة ومُحزِنة في آنٍ؛ زوج من الأحذية النسائية المستعمَلة، فستان نسائي مهلهل، كومة من المناديل البالية … ودمية، أي والله دمية، ما أجمل تقاسيم وجهها وغمَّازتَي عينيها، وقد بُتِرَت منها الأعضاء السفلى مع الانفجار، واختفى نصف شعر الرأس فبدت شبه صلعاء. عند هذه الكومة انحنت سيدة إفريقية لم تكن سَمِعَت أي نداء سوى نداء الحنين إلى الوطن، جثَتْ باكيةً أمام أشلاء حقيبتها لتنهض أخيرًا متحاملةً على نفسها بدمع سَكُوب ينهمر على خَدِّ الدمية كالرضيع بين يديها … وضاعت في الزحام.

المكان: مطار … «غاتويك» بضاحية لندن، الزمن: ٤ فبراير ١٩٩٧م. بعد أيام في العاصمة البريطانية حانَ وقت مغادرتي إلى باريس، وكنتُ أرغب في العودة مع الزوال من مطار «هيثرو» القريب نسبيًّا، فلم يسعفني الحجز إلا في طائرة الثامنة مساء بتوقيت جرينتش، من محطة كسينغتون، القريبة من فندقي إلى محطة فيكتوريا الكبرى لركوب القطار الذي سيقطع مسافة الوصول إلى المطار في نصف ساعة، بعد دوخة رأس في فيكتوريا لا أول لها ولا آخر، ومن حُسن الحظ أن متاعي كان خفيفًا عبارة عن حقيبة جِلْدية أحملها على كتفي، مِعطفي السميك؛ اتِّقاء البرد أثقل منها.

تهتُ قليلًا في «غاتويك»؛ لأنني لم أكن أتصوَّر أنه ينبغي لي للوصول إلى الموقف الشمالي ركوب مترو سريع بداخله؛ أي دون أن تغادر المطار، قصدتُ أولًا كونطوار الحجز للحصول على بطاقتي بعد أن دفعتُ وَصْلَ مُقابِلِها في وكالة صغيرة بالريجنت ستريت، ثم قصدتُ ثانيًا كونطوار التسجيل لركاب الطائرة المغادِرة، وبيدي قسيمة السفر يَمَّمتُ شطر باب المغادرة وحقيبتي على كتفي، كان أغلب المسافرين مثلي، فالرحلة بين لندن وباريس، ذهابًا وإيابًا، لا تحتمل أمتعة كبيرة. أوشكتُ على الدخول حين استوقفني شخص من مستخدمي المطار يرتدي بذلة زرقاء، تَفحَّص أوراقي وطلب منِّي أن أسلمه حقيبتي، فأمسكها بيد، وقال: إن وزنها ثقيل ولا بُدَّ من إرسالها مع الأمتعة، قلتُ له: إن وزنها أقل من عشرة كيلوغرامات، ولكنه أصر فحملناها إلى الميزان الذي أنصفني، ولكنه أصر. ذهَبْنا إلى الكونطوار، فقلتُ له: انظر، كل هؤلاء يحملون أكثر وأثقل ممَّا أحمل، فلماذا أنا بالضبط؟ كانت المضيفة تتفاهم مع الإنجليزي الخبيث بنظرات خبيثة، وبدل أن تسجل حقيبتي طلبتَ شخصًا بالهاتف هو الذي حضر بعد دقائق وحمَلَها، ولم يبدُ أنه يَنوء بحملها، تَبعتُه فدخلنا إلى قاعة جانبية بها جهاز ضخم وضع فيه الحمل فسطع ضوء وانطفأ آخَر ثم سحب حاجتي ولف قرنيها ببطاقة سحبها من جيبه كتبَ عليها: … «سكيوريتي»، وفيما ظننتُ أننا سنعود من جديد إلى كونطوار المضيفة حيث إرسال الأمتعة خاطبني الرجل: بإمكانك أن تنصرف الآن، بدوتُ أمامه لا أفهم فأردفَ ببرود إنجليزي: حقيبتك أنت ستُنْقَل وحْدَها، اطمئن، وحْدَها، حاولتُ أن أحتج: ولكن، لماذا أتعرض من دون الجميع لهذه المعامَلة؟ فردَّ ببرود أشد: الأمر لا يعنيني، هذه هي التعليمات، ثم كَمَن يتفضَّل عليَّ بمعلومة نادرة: حاول أن تفهم، أليس كذلك؟!

وفعلًا حاولتُ الفهم عندما اجتزتُ جميع إجراءات الفحص والختم وصرتُ في قاعة الانتظار قُبَيل الإقلاع وأنا أسمع النداء المِلْحاح يُنبِّه من مغبة ترك أي حقيبة مهملة، ويحذر من جميع الاحتمالات، وحاولتُ الفهم عندما ركبتُ الطائرة فوجدْتُني العربي الوحيد فيها وعدد المسافرين قليل وأنا وحدي قد عُزِلتُ عنهم.

وحاولتُ الفهم وقد وصلنا مطار شارل ديغول فهرعتُ لسحب حقيبتي التي لم تخرج من السجاد الدائر، بل وجدتُ شخصا ينتظرني ويطلبُ مني مرافقته لاستلامها من مكان خاص … وأخيرًا، وإلى هذه الساعة ما زلت أحاول أن أفهم ولا …

 ١/ ٣ / ١٩٩٧م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥