بهلوانيات في بلاد لا شيء
(١) طريق النهر
بين نهرين امتد جسدي، دفعته كالنُّقلة في الماء ليطفو أبيض مثل هذه الزهيرات في الأحواض المائية على شِفاه الطريق، بين الرباط وتيفلت، هي لآلئ لو علمت، شُهب لو صُعقت تنبس بِبنْت ضوء في كل ليلٍ قادم أمامنا، هو الليل، وشطح خيالي، كما يحلو له لِيَفلِت من فجاجة الوقت الآسن إثر همود النار تحت رماد العمر.
بين نهرين: السين هنا، والتاميز هناك، بل هنا، أيضًا. كان للماء صليل أسمعه في الأزِقَّة الخلفية من باريس الغافية، وحدي أطرقها وأشباح العابرين انسحبت إلى مغارات النوم. ارتعدتُ كالمُصاب بالنِّقرِس أنا المُبتَلى بشدة الاحترار، النهر يجري على مقاس عُمري أو بأني اقتفي ماءه في المحطات التي أرسلت فيها لهفتها، هي الراقدة اليوم كجدتي في مُعتَّق الذكريات، أظن أن «السين» لما شاهدها للمرة الأولى — هي المشهد الباهر — ارتمى عند قدميها ليسبح حولهما، تحتهما، واستدعى مجاريه البعيدة وينابيع انسكابه وقد تَورَّد خَدُّه. داهمَتْه بالضحكة الماجنة، كدَأْبها كل عطش، فارتعشَت ضَفَّتاه قبل أن يفرش لها أحضانه طريق عبور-أحضاني.
سأتتبع النهر أمس، اليوم مثل أمس ولم يَدُر بخَلَدي قطُّ أنه اليوم لاحتراق الأوهام، سأتتبعه من حيث وضعتُ حقيبة المهاجِر الأول عند مدخل زقاق «الكاردينال لوموان» في مطلع الآهة الأولى لضفة السان برنار، في تلك الليلة أذكر أن الليل كان صقيعًا، الأرض مُبلَّطة بثلج خالص، مِعْطَفي يَتهدَّل من نُدَفه، فكأنها المرة الأولى عيد الميلاد يحل وقتها بعد أن احتسيتُ صَهْدها الفاغم، وتَعَشَّينا وإياها بشهوتنا، كنا سمعنا نداء جسر السان جاك فلَبَّيناه فورًا لاحتساء ما تحته شهرًا، ثم دهرًا عدمناه إلى أن اقتادتني خطوتي الثانية قبلها شهقت، يا لشهقتها العارمة!
في الخطوة الثالثة بلغتُ جسر الكونكورد، حيث رأيتُ قامتي منعكسة في النهر تخاصر ظلها، هي البعلبكية مِن وَلَه أضاعَت ظِلَّها، وكان ذلك قبل أعوام من ضياعي في رياض البنفسج، سواء تدلَّى من أسوار سمَّارك يا مراكش أو أرْداني بالنظرة القاضية في خليج أغاديري، ما باله عذب اللَّمى لم أذُق كَرَمه يسعى إلى ضِفافي المحرقة، توالت الجسور في الخطوات التالية، بين جسر الإسكندر الأول، مرورًا بميرابو، عبورًا بزمن مختلس تسكَّع بنا في شوارع كشطت أعمارنا وأسبَلَت هي جفنيها وهي تحلم بنا إلى الأبد في حدائق اللوكسمبورغ … وصولًا، وليس أخيرًا إلى نهر التاميز، خرَجْنا منه معًا حين أدركنا المجرى مُبْتَلين بحرقة ما فاتنا حين لم ندركه فعَوَّلْنا على الاحتجاج قليلًا أو الضراعة أمام الرَّب في حديقة الهايدبارك اللندنية. اكتشفنا أننا وصلنا مُتأخِّرِين، أن كل الثروات رَحلَت من هنا، دوائر الصراخ فارغة والخيَّالة لا يحرسون إلا من لصوص مُحتمَلِين وليس من فتنة ماحقة، ولم يبقَ في ساحة السِّجال إلا دراويش أديان بالية يُقارعون بصراخ مَبحوح، والمارَّة من حولهم يَعْبُرون مندهشين من حال هؤلاء المُعلِّقين ثم ينصرفون عنهم في كل اتجاه وهم لا يلوون على شيء، كأني دخلتُ في نظرتهم وها أنا ذا في الخطوة الباقية لا ألوي على شيء.
(٢) رَجُل المرحلة
اقتنيتُ أمس، وكالعادة، ثلاثَ صحف أو أربعة، ولم أكن أُعوِّل حقًّا على وجود تَنوُّع أو الوقوع على خبر خارق هنا أو هناك، لم أَعُد أنتظر الكثير مثل غيري، لا عن يأس وإنَّما عن طواعية، وبحكم العادة، أيضًا، سبق لي أن سمعتُ الإشاعات وخاصَّةً حين تَتحوَّل حياة الناس نفسها إلى إشاعة أو كذبة كبرى، غير أن ما رحتُ أكتشفه بالتدريج، أَقنعَني بأن الأمر جد في جد، ولا بأس إذا انْخَرطت قليلًا في اللعبة الدائرة، ولو بالنظر، فردْتُ الصحيفة الأولى أمامي، فامتَدَّت في صدارتها مقالة له تَعتَلِيها صورته، وكانت نارِيَّة تضرب بالمنجنيق، فَردْتُ الصحيفة الثانية فقفزَتْ في صفحتها الرابعة مقالة له تتوسَّطها صورته، فبدَت مُشكِّكة، متسائِلة، مُناوِرة وتَقْدَح، أيضًا، بالغضب. وفي الصحيفة الثالثة، كان دائمًا هو، لكن ما أرَقَّه، وألْيَن مطلبه وأقرب مرماه، من عينيه في الصورة تَشع حَسرة وندم، ربما على كل ما ضاع من مغانم الأيام. في الصحيفة الرابعة لم أحسَّ بحاجة للبحث عن كلامه أو ضبط ملامحه، ولم يَعُد يعنيني أن أجد مكتوبه مُذيَّلًا بتوقيعه، ما دام التوقيع بات أرخص شيء، والمُشَبَّه أولى من المُشبَّه به، أما وجه الشَّبَه ففي حكم سَقَط المتاع، لم أكن أعرف الشخص حقًّا، ما سمح لي بإطلاق العنان لخيالي فتَصوَّرتُه يختار لكل مقالة سيكتبها بذلة يرتديها قبل الجلوس، ويَتخيَّر لها ما بين الربطة والجوارب المُفرَدات والاستعارات المناسبة، فضلًا عن ذاك أو تلك الأسماء المستعارَة.
فتحتُ جهاز الراديو لسماع موجز أخبار السادسة، فسمعتُ بعدها صوتًا يَرطُن بكلام، قلتُ في نفسي إني قرأتُه لا أدري أين، وقد وجدتُه هنا لا يناسب اسم المتكلم الذي قرأتُ له قبل قليل غير ما أسمع، ولأخرج من حيرتي عزوتُ ذلك إلى سهو أو نسيان يربكني، غير أن الحيرة اللعينة خرجَت أمامي عاصفة كالجِنِّ من القمقم، وأنا أزداد ضجرًا بمشاهدة برامج التلفزيون الوطني مساء اليوم نفسه، فظهر لي هو ذاته آخر تمامًا يختلف عن ذاك الذي تَصوَّرت لحظة أني بدأتُ أعرف. وأذكر أني فركتُ عيني جيدًا ومثلهما أُذني لأطرد أي تلاعُب خيالي يعتري بصري، أو أي وسواس خنَّاس، وبَقِيَت في النهاية صورته وصوته ملء السمع والبصر، ولما تكرَّر أمامي الشيء ونقيضه اليوم وغدًا، وأَضحَت الصور والأسماء والتوقيعات، ودَعْك من الاستعارات والتسعيرة، تتناظر وتتعارض حتى ملأتْ عليَّ في وقت من الأوقات صَحوي ومنامي، خِفتُ أن تكون صِلتي بما حولي قد انقطعَت أو أن فَهمي قَصُر إلى حد الغَباء. عندئذٍ قرَّرتُ أن أقصد أحد معارفي، ما زلت أتوَسَّم فيه خيرًا وأراه مُنزَّهًا عن الشبهات، فَراعَني، وأنا أفتح باب المصعد أن أرى صاحبي أمام باب شقته يُودِّع بحرارة الشخص إيَّاه، أظنه وقد صرف ضيفه لاحَظ ارتباكي قأقبل عليَّ رابِتًا ومرحِّبًا، ومن وجهه تطفر ابتسامة تَشِي بمعنًى خَفِي.
هه ماذا يُحيِّرك؟ بادرني بالسؤال. أجبتُه وارتباكي — إن لم أقل غضبي — نافِرٌ من وجهي: لا شيء، أو لا شيء تقريبًا.
– بمعنى؟
– أنا كنتُ قادمًا لتفكَّ لي لُغزًا فَصِرتُ أمام لُغْزَين.
– ماذا تقصد؟
– لا شيء، إنما ذلك الشخص، هل تفهمني؟!
– ألا تعرفه، أقصد ولو من بعيد، ألَمْ تسمع به؟ كيف؟! أجبت بأني، وبطريقة ما، كدتُ أعرفه ولكن التبس عليَّ الأمر مرة أخرى وأنا أراه يخرج من بيتك أنت بالذات، فما كان من صاحبي إلا أن قَهْقه عاليًا ثم راح بعدها ينظر إليَّ بشبه إشفاق، أظنُّني سمعتُه يقول: أنت مُصِر على التعجب. أظنني أجبت: أنا مُصِر فقط على معرفة ما يحدث، وعلى معرفة من أي طينة ذلك الشخص؟ وأظنه أجاب بارتخاء، وكأنه ينفض يديه من موضوع مُمِلٍّ: أوف، إنه رجل المرحلة!