هذا الكاتب أعرفه
فكَّرْت غير مَرة في الوقوف على حالة مُؤسِفة باتَت تَستشري في وسطنا الثقافي ومحيطنا الأدبي المزعوم، وينجم عنها اختلال شديد في فَهم بناء الثقافة المغربية الحديثة، وضبط نسقها ومفاهيمهما، والتَّعرف الصحيح على روادها وبُناتها من كل وجه، فكَّرت في ذلك مرارًا، ومعي أكثر من واحد، في النسيج المهلهل لهذه الثقافة وقد امتلأ خرقًا وتقلَّصت أطرافه بين شدٍّ وجذب، وأمْحَلت وجوه صانعيه مع مرور الأعوام فكأنهم ما وُجِدوا أو كأن ما نحن عليه اليوم من خوض في أفكار وقِيَم متطورة، وما نعتبره، أيضًا، نصوصًا إبداعية مُجددة ضَمِنَت لأدبنا شأوًا لا يُستهان به بين الآداب العربية؛ كأن ذلك وسواه ظَهر من عدم أو تَفجَّر وحده ليس له ينبوع هو مصدره، وروافد غذته، ومواهب أثْرَته إلى أن أصبحنا على ما نحن الآن عليه ونطمح أن نكون.
فمن نحو، يرجع ذلك إلى جحود، وهو ما يمكن أن يُعَد وصمة أخلاقية عند بعض من يَحْسَبون أن التنكر لسابقيهم، وإزاحة أعمالهم وأسمائهم عن ساحة أمْسَوا يتحركون فيها، وفي قرارة أنفسهم يشعرون أنهم غير جُدِيرين بها، من شأنه أن يُغطِّي على هشاشة وجودهم ويجعل قاماتهم تظهر أقلَّ ضآلةً ممَّا هي عليه، وهو — والله — خطأ في خطأ، لو عَلِموا؛ لأنه ما مِن قامة تعلو في بلاد طبع خلقتها الأقزام. فإن كان عدم اقتناع بما تركه لنا الأسلاف، فلا يتم ذلك بترك الحبل على الغارب، ولا بتعليق الزمن الثقافي الماضي على مِشْجَب الإهمال والنسيان؛ إذ في ذلك خطر على الحاضر نفسه ينطبق عليه سلوك إجحاف يصبح هو مبدأ الناس ودَيْدَنهم ويُمْسِي، بعد هذا، مُتعذِّرًا إنجاز أي تاريخ حقيقي في أي مجال من المجالات. فالسكوت عن الماضي والكفُّ عن استحضار رجاله وأعمالهم هو بطريقةٍ ما قَطْع للحوار مع الحاضر الذي تولَّد عَمليًّا من سابق ومُمتَد نحو لاحِق، وبذا، فإن مَسْلكَي الجُحود والتَّناسي العَمد هما في الحقيقة مِن طبع الغفلة والعجز عن الفهم الحقيقي لجدلية الزمن، وهي حالة نحن نغرق فيها، في الوسط الثقافي المذكور، يومًا بعد يوم حتى الأذنين. إنها ليست نزعة سلفوية ما ندعو إليه، كما أنها ليست رغبة في طَمْس مَعالم الحاضر الفكري والإبداعي، كما قد يَتبادر إلى أذهان قَصِيري النظر؛ فالحاضر بمواهبه وعطائه إنْ وُجِدا بما يكفي من الغنى والإقناع يهمنا أكثر من غيره، بَيْد أن الأهمية هنا تزداد حين يقع ترتيب الأشياء في سياق، وتبدو منضوية في نسَق، ومُنخرطة بالتالي في مسلسل، وهذا بعض ما يعوز الثقافة المغربية الحديثة في مفهومها العام ومُكوِّناتها الشاملة، كما أنه استعداد أو قدرة لم يتأهَّل لها العديد من العامِلين في حقلها، سواء كانوا مُنتِجِين مباشرِين أو مُقَوَّمِين أو مِن شُرَّاح المناسبات أو أولئك الذين تُوكَل إليهم مَهام التأطير الثقافي المادي والمعنوي على السواء.
ورُبَّ قائل: إن أعمالًا ودراسات جامعية عديدة انصبَّتْ على دراسة كثير من مُكوِّنات ثقافتنا ورَصدَت وجوه وجهود رُوَّادها بمصداقية علمية ووفاءٍ أخلاقي، وهذا هو الأهم في كل شيء، الأهم من أي لغَط إعلامي أو دَردَشات عابرة في المُلتَقيات الثقافية أو مُناسَبات التكريم مواتية أو مُلفَّقة، عندئذٍ يكون جوابُنا بأنه لا بأس بتلك الأعمال حقًّا، وهي أجدى من غيرها، فعلًا، وأبقى، ولولا أنَّنا لا نعرف، في غالب الأحيان أي مصير تأخذ ولا في أي مَجرًى تَصُب في نهاية المطاف، ولا كيف يُتَصدَّى للبحث في موضوع، أو التمحيص الطويل في إشكالية نظرية، أو صرف أعوام من العمل في نفض الغبار عن قامة كبيرة من قامات ثقافتنا قديمها وحديثها، أقول: كيف يَحدُث ذلك كله وينهض به باحثون، سرعان ما تَتبخَّر جهودهم إما لأنهم يَتوقَّفون في منتصف الطريق، أو لأن نَيْل شهادة كان منتهى طموحهم العلمي، أو لأنَّ انشغالهم بهذا الموضوع أو تلك القضية والشخصية لم يبلغ ما تحتاج إليه من الإيمان والشَّغَف الضروريَّيْن لمواصلة تبديهها وتصريفها ضِمْن القيم والمكوِّنات الثقافية للحاضر. يقينًا أن ما نذهب إليه الآن جزء ومَظهر من إشكالية البحث العلمي والجامعي الراهن في بلادنا، والمسئولية فيه مُتعدِّدة ومُتنازِعة، وهو ما يحتاج إلى مُعالَجة مُستقِلَّة يبدو لنا عن قُرب عديد من وجوهها … إنما لا شيء يمنع من تحصيل القصور في هذا الجانب والنظر إليه بِعَين الاعتبار، ونحن نُنحِي باللائمة على المُتغافِلِين أو النَّابذِين أو المُزْدَرِين، بما يُعَد أصلًا في بناء ثقافتنا وأدبنا الحديثَين والوجوه الرائدة، المؤسسة والمُطورة أمس واليوم.
لا بأس في هذه المناسبة غير الشَّيِّقة من الإشارة إلى بعض الشُّطَّار عندنا، ممن خَبَرُوا طباع أهلهم، وراقبوا ويراقبون الزَّمَن كيف يمضي مستعجلًا، مُستخِفًّا بما ومن مضى؛ فهؤلاء يحرصون على تعداد مناقبهم في يومهم قبل فنائهم، مُكثِرين من الأتباع والمريدين، مُحصِّلين جبايات عطفهم وتأطيرهم وتَعهُّدِهم ووكالاتهم، يُدَبَّج عنهم من القراطيس ويُرْسَل في حقهم من الثناء العَطِر يريد به أصحابه بصفاقة؛ أي دون حياء، أن يكون أدخلَ في باب الفكر أو النقد أو البحث العلمي وغيرها من التسميات التي نخشى حقًّا أن تَبُور أو تُسْتَهلَك في صفقات ما أرْخَصَها وأبْأَسَها، حالَّةً مَحلَّ القِيَم الأصلية والتقدير الجدير بأصحابه الذين لا يُعَوِّلون سوى على الزَّمن إن وفَّى، وعلى ما يمكث في الأرض.
تحضرني هذه الأفكار، وتغزوني هذه المشاعر، وأنا أطوي الصفحات الأخيرة من المجموعة القصصية الجديدة «هذا الوجه أعرفه» (مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ١٩٩٧م، ١٦٩ من القطع المتوسط) للروائي والقاصِّ والصحافي الرائد الأستاذ عبد الكريم غلاب، وهو رائد ومُعلِّم ومُجدِّد في هذه الحقول جميعها، أمضى نصف قرن ونَيِّف وهو يستصلحها، ويُلْقي فيها البذور، ينتزع منها الحَسَك والنَّبْت الطُّفَيلي، يَرقُبها أمامه وهي تَطُول عيدانًا مستقيمةً، ثم وقد أخصَبَها الغيثُ نَمتْ سنابل مُثمِرة؛ حتى إذا جاء أوان الحصاد والدِّراس فردَت تحت النظرة الثاقبة والإحساس المُرْهَف حبَّاتٍ ناضجة سُرعان ما يُخْتَزَن طحينها وعجينها في خُبز الحكي: ها الحكايات تتوالد منه، تتكاثر أقراصًا أقراصًا، فيها حوادث الزمن ووقائع الأيام وتجاعيد الرجال وقَسَمات النساء، وجوه المجتمع سَمحة ومُغضَّنة، أزِقَّة فاسٍ وأنفاسها المُعتَّقة، الوطن في صورة، الصورة في سريرة، بينهما تَتدافع سير الرجال ومصائر أقوام في الوقت والحياة، تتموج اللحظات الحميمة مع المُنعطَفات الحاسمة في وجوه وفضاءات دائمًا شاخصة، تُعْلِن عن حالها حدَّ الصَّخب، وتتكلَّم على أشجانها حدَّ الهَمْس.
من «سبعة أبواب» (١٩٦٥م) يَدلُف عبد الكريم غلاب إلى رِحاب العمر القصصي الأول متوسِّلًا سيرة الذات ومُنعَرَجاتها في حياة الكفاح الوطني، وطبيعي أن يتزاوج هنا قَلَق الشكل الفني مع بداية الاسترجاع لما خاضَته الأنا في مَسار الجماعة، وهو ما سيشرع في الاستقرار مع صدور المجموعة القصصية الأولى «مات قرير العين» (١٩٦٥م)؛ حيث تعلو النبرة الوطنية لمرحلة مُناهَضة الاستعمار على سواها في قَبَسات ولوحات كان لا بُدَّ مِن رسمها، ولو على عَجَل؛ ليتفرغ الكاتب لما هو أهم؛ أي لأول رواية جديرة بالتسمية في أدبنا المغربي الحديث «دفنا الماضي» (١٩٦٦م)، والتي تُعَد بحق تدشينًا للانطلاقة الناضجة لهذا الجنس الأدبي في كتابتنا.
فسواء في اسْتِيعائها الأدبي لمرحلة هامَّة من التاريخ الوطني ولشريحة اجتماعية أساس خاضَت حياتها وتبلورت مصائرها في إطاره أو في عملية النَّمذَجة الفنية لهذا العالم في عمران روائي مُتماسك، جاءت هذه الرواية مُنتِجة لرؤيتها الخاصَّة مؤهِّلَة السَّرد كي يعيد نَظْم الذات والواقع في عَقد متآلف، ومع رواية «لمعلم علي» (١٩٧١م) سيزداد هذا العقد انتظامًا وإحكامًا وصنعة ومتانة، كل ذلك لتبقى القصة القصيرة حاضرةً خيطًا موازيًا بسرديته الخصوصية، تَستقل بما هي جديرة أن تَنفَرد به إنْ في الرُّؤية والدلالة أو البناء والوَصْف، كما هو الشأن في «الأرض حبيبتي» (١٩٧١م). بَيْدَ أن غلَّاب الذي شَحَذ موهبته في عملين مَرموقين لن يستطيع هَجْر الرواية، بل إنها ستتملكه؛ لتصبح مِهماز مشروعه الإبداعي في بابها، فتَتوالى عناوينها كالتالي:
«صباح ويزحف الليل»، و«عاد الزَّوْرق إلى النَّبع»، «شروخ في المَرايا» وصولًا إلى «سفر التكوين» المُجنَّسة كرواية-سيرة ذاتية، فأعمال أخرى.
ومن نحو آخر، يعلم المتتبعون لتاريخ الأدب والنقد المغربيين الحديثين أن الأستاذ عبد الكريم غلاب سجَّل نظرات فاحصة وكَتَب فصولًا نَيِّرة في هذا المضمار؛ وجاء ذلك تعزيزًا للمشروع الإبداعي من جهة، وإضاءة لمفاهيم أدبية ونظرية حديثة، وكذا فكرية وتربوية من جهة أخرى، وهي تتبلور منذ أوائل العقد الستيني في محيطنا الثقافي، وفي حاجة لمن يضع لها تعريفات دقيقة، ويرسخ معانيها في الأذهان، وهو ما يبرز الموقف الثقافي لصاحبها وتصوراته النظرية في عدد من القضايا الأجناسية والفكرية، كما يمكن الوقوف على ذلك في كتبه-المعالم: «في الثقافة والأدب» (١٩٦٤م)، «دفاع عن فن القول» (١٩٧٢م)، «مع الأدب والأدباء» (١٩٧٤م)، ناهيك عن مؤلَّفات عديدة أخرى تاريخية وتثقيفية وتسجيلية ترفع من صرح إنجاز كاتب نرى أن أعمالها تتصاعد متماسكة ومتفاعلة من عقد إلى عقد بلا كلل أو ملل بما يؤكد بلا جدال أن الكتابة لديه مشروع حياة ورهانها معا. وهل نحن في حاجة بعد هذا إلى تبيان الدور الفاعل والحاسم للقلم الصحافي في إعلاء هذا الصرح، وهو القلم المغموس في المداد السياسي والاجتماعي والثقافي يقول بالكلم الواضح، المباشر، اقتناعات صاحبه سواء وهو يتبوأ موقعه في صدارة حزب الاستقلال بمنبره الإعلامي الأول جريدة «العلم» التاريخية، أو إزاء المواقف الوطنية العامة، انطلاقًا من هذا المنبر ومواقع أخرى غيره. وهو ما نعرف أنه يمتد في الزمن، أيضًا، أزيد من نصف قرن لم يُلقِ فيها الرجل سلاحه يومًا ولا فلَّ حتى وهو وراء القضبان.
هكذا نكون مع غلاب لا أمام سيرة واحدة، بل سير متعددة ومتفاعلة تبرز تعدد اهتمامات صاحبها واتساع آفاقه وطول باعه في عدة ميادين قل أن ينهض بها رجل واحد إلا ثُلَّة من رواد التنوير والأدب الحديث، كما عرفتهم مصر، هم الذين شكلوا المدرسة الأولى التي تتلمذ فيها كاتبنا. غير أن الكتابة مهما تَعدَّدت مساراتها وأنماطها، فإنها عند غلاب دائمًا فعل إبداع، وموقع، وموقف وعي والتزام.
أعود فأقول بأنه حضرتني تلك الأفكار والمشاعر وعناصر الطرح أعلاه، وقد فرغت من قراءة مجموعة، «هذا الوجه أعرفه» فوجدت كيف أن الكاتب يعاوده الحنين إلى روضة القصة القصيرة؛ فيستخدم شكلها المدروس والمُقنَّن لرسم ملامح وجوه تبدو كأنها لآخرين فيما هي له، وحكايات لأناس حكايته هو في قلبها متراوحة بين طفولة وفتوة ورجولة. ووجدتُ أيضًا كيف أن القصة يمكن أن تتحول إلى مضمار تساؤل وبَوْح وسَرْد للذات دون أن تخرج كذلك عن المقتضيات التي يريدها لها الفن ومنهج صاحبها فيه الذي يعي جيدًا أن لكل مقام مقالًا، وهو المطلوب.
وقد تَعلَّم جيل حمَلَة الأقلام لهذه الأيام كثيرًا من هذا المقال، وباستطاعته أن يتعلم أكثر من دأب ومثابرة وإخلاص صاحبه لما وقف عليه حياته ويواصل … أما أنا فأقول أخيرًا، وليس آخرًا: هذا الكاتب أعرفه، هو أستاذ وأنا تلميذ، نجتمع اليوم حول ما يحب أو كما يقول هو «على حافة قلم يكتب.»