التناوب والحب أيضًا
لم أكن أعلم، أو لعلني وأنا أعلم ضمنًا، أخفي سري في صدري، أتكتم عليه، أغار عليه من أن يُمسَّ أو يُذاع في السر والعلن، معًا، أحمل الصورة، تليها الصور في النهار، تتعقبها كما تذيلها الحواشي والحكايات. أحملها وأنا ألهث في البراري أو أسوق سيارتي مثل صحن طائر، أمر بالعابرين فلا يراني أحد وأكاد أرى. ليس النهار، كما نعتقد دائمًا، فضيحة علنية، إننا نمشي في وتحت ضوئه لكننا قَلَّ أن نتساءل أين تمضي الظلال الهاربة، ولا الخطوات التي كانت قبل قليل في الأمام وصارت إلى الخلف؟ وهل الذين ينظرون إلينا يعرفون حقًّا وجوهنا، يتأكدون من ملامحنا؟ إنهم إنما يقبضون على مخايل صور رأوها في وقت سابق لوجوهنا، لقسماتنا التي تركناها خلفنا في زمن انقضى ومكان تواری.
على العكس من النهار، فإن الليل هو مجال افتضاح الأسرار، وانفتاح القمقم لتنفلت كل الرَّهْبة المكتومة في الداخل. هي ذي صوري تَعِبَت من التستر نهارًا، بين الغدو والرواح. تَعِبَت من محاولات وضع الأقنعة لوجه بلا قناع، يمشي في الشوارع، ويتيه في البلدان، المنقرضة والصاعقة، وهَمُّه أن يلملم بقايا خلقة فائتة، كانت له، ويراها لا تَفْلِت من ذكراه، إلا أن تزيد كثافة ذكرى بين تضاريس الزوال وطقوس كل ولادة عسيرة.
هكذا أنتظرُ الليل بشغف قدوم الحبيب، وفي نفسي ألف خاطر وما لا عَدَّ له من الحسرات. أهيئ له وقته، وأريكته، أعد له مشروبه و«مزمزاته». وأستدعي أول عبير يكون قد تَنفَّس من عليق الحديقة. والسماء إذا تَفتَّقت فيها أولى النجوم أضعها ثلجًا في قدحه، وأقول له: في صحة بهاء النور أيها الليل الذي أنت مُدرِكي، وأنا أداري أو أباعد الوجل المتلبسني في طيف من هي مدركتي، وإن خِلْت أن المُنْتأى عنها واسع. من ضفاف نظرتها أرى في وجهه أَلقًا، ودقائق ترتعش في مفاصله، ومن وجهه أرى وجهها تصاعد زفيرًا يلفحني، كأنه يلفح وجه القمر: ها هو ذا الآن استوى بيننا بدرًا كاملًا وتضوأ المكان، كل المكان، حتى لا رُكن، لا زاوية إلا والليل فيها جليس، ونحن نصغي في جلال لصمت بعضنا الموغل في عمقه، نَتناوَش البدء في الكلام، أقصد مراوغة بقايا اللغة الممسوحة والمسموعة، مُتشبِّثين بأهداب أصفى اللغات عراقةً في التَّكتُّم على بوحها، نریده بوحنا الذي جعلناه في حرز حريز، مثل بلاد حفظت سِرَّنا رغم تَغضُّن وجهها، وتقلبها في الأسر من حال إلى حال، أو صراخها المحبوس من أجل الافتكاك.
من شدة اللفح كان الخدر قد سرى في الجسد، والجسد المتوهج سلفًا يلقي بالحمم، وصوت من الليل أم صوتها طلبني إلى ليله. أنا لا في الصحو، لا إلى النوم ذاهب. في الزمن الواحد أقيم والأزمنة متداخلة في جلستنا المشتركة. في الزمن المتشابك لا مقام لي لكي يهاجمني زمنها الأدهى، الأبهى دومًا، والأبقى.
من شدة اللفح شَبَّت النار بعدي، حولي، هَبَّ الجيران إليَّ، الطيبون، البلهاء يبغون إنقاذي من النار وأنا أستغيث منهم، أُنْكِر نجدتهم، أتوسَّل إليهم اتركوني لناري … وكان الليل الذي حين يُوغِل في سيره يقولون عنه إنه أدلج قد بَدا لي كالفرقد و … وبدءًا من بدءٍ لا عودًا على … أُبَّهَتُها وقد تَخمَّر بها التراب، قبل أن تسكر منها الدِّنَان، تلك التي … وبعد أن هوينا، بلا عشق عمد، على شفاهنا، هي الهاوية أخذتنا، جرَّتْنا، رمَتْنا خيارًا وعنوة، بين يدي هذا السلطان القاهر، سلطان النوم. كنا قد أَبْرَمْنا ميثاق شرف قديم؛ أي منذ تعس قديم كان للشرف فيه صليل، مثل داحس والغبراء، أو مثل بقائك في الغبراء وبعدها لا تحس بشيء، لا ترى عدوًّا ولا صديقًا. لا بُدَّ لك إلا بُدَّ الإقامة في الليل. حسبك أن تهجر نفسك، وتوسع في مجلس أقداح تَتولَّه بعطشها، لتبقى على سمعك يَتصنَّت لانتظار سماع الخرير ينبئ بغنج مقدمها، أو أنَّ عينًا منها طرفت أو لمحت أو هَجعَت، ماذا لو قدحت … يا لرومانسيتي الهالكة. لا بأس، فأنا قَرَّرت من زمن بعيد ألَّا أتبارى إلا من أجل هذه الكلمات، الصور الهالكة «أعباد الله غيتوني!»
ثم هجم النوم غيلةً، هي التي هجمت بشراسة مَن لا يقوى على مبارزته أحد، ولا يقبل عتبًا ولا صَفْحًا حتى من السلطان القاهر، سلطان النوم، الملاذ الوحيد لصور النهار كي تستريح، كي أتجنب — شأن أي عاقل حقيقي — الإقدام على منع مرور السيارات نهائيًّا، في شارع النصر، مثلًا، أو حول «قوس النصر»، ولتوجيه الخلائق ذات الأطراف المترامية في التسول للبكاء والتوسُّل خلف أسوار «شالَّة» مثلًا.
ثم رف طائرك يا «البعلبكية». لم يلبث بعدها أن رَفْرَف، كان قد جدَّف، وكنت قد رأيت الطير صافات، وإذا هي في رمشة عين قطوع، ماذا أبقيتَ لي يا زمني بعد قطوعها غير هذه الرمم، أراني في حلمها أم حلمي تجمعني، عبثا تجمعني، من أرصفة «الحي اللاتيني»، المزبلة اليوم، أو من سماء «حقل مارس» في الدائرة السابعة، أي على مبعدة آهات قليلة من عمارة نصعد إلى سمائها. ومنها كنا نطل، مَخفورين بالقمر والنجوم والكواكب الأخرى التي لا ترى إلا بالعين المرهفة، ونحن ننظر مشفقين إلى العابرين الذين لهم وقت لكل شيء، إلا للحب … أقصد لتلك الحقول … في مارس … آه، «وكنا إذ ذاك شبابًا».
ترانا ما نزال؟ همست «البعلبكية» من قلب الشغاف: «على رسلك، أوَتستعجل الزوال لتسلوني في رحيل لا يطال؟ … تعالَ نجدد تلك الحياة عَودًا على بدء كأنها بدء الحياة.» ما انتظرَتْ جوابي، بل تأبَّطتْ حنيني المستتر إلى أيام لَم يُعْجَم لها عود، فرأيتني وإياها نخوض باريس من مطلع شفاه النهر تاركة خلفها أطلال مدينتها الشرقية، عبثًا، فهي متهدلة من خصلات شَعْرها البعلبكي. وسِرنا، سرنا النهار والنهار، الليل فالليل، تعبر الأعوام قبل بدء مشيئتنا، هي التي راحت تفعل فعلها فتأكلنا، وتنهشنا، وتُطوِّح بنا في كل الأنحاء، مُستعذِبِين معها هذا البدد. أنا نسيت حالي والليل أخذني في مَجرَّاته، يُقلِّبُني في لياليه كما يشاء.
أكثر ما دهشت له رؤيتي للربيع منسدلًا على شرفتنا بستائر من نجوم، وجميع موسيقى نافورات باريس دفاقة تحت سريرنا، لمست الماء بيدي، هو ذا الماء يسري، أوشكت على الصياح من الولع، بلي يا … ح. انقطع الصوت فجأة، انجلى ليل لا الليل، وألفيتُني أُزِيح عنِّي الغطاء دافعًا نومًا لم أطلبه. نهضتُ واقفًا أتحرَّك كمن ضربه حمار الليل، وكان ذلك الربيع قد أصبح أثرًا بعد عين.
أي إني في الرباط، يوم الأربعاء ٢٥ مارس من العام الجاري، وحين غادرت البيت نازلًا إلى شارع محمد الخامس لم يكن أحد يعرف سِرِّي، يعرف بيتي وحلمي. في تلك البلدان الديكتاتورية الغريبة وحْدَها كان رجال المخابرات يَتجسَّسون على أحلام الناس، أما اليوم فالعالم كله يلهج بالديمقراطية، أليس كذلك؟! المهم أني بعد نزولي ببضع خطوات صادفت صديقًا «زيلاشيًّا»، أي من بلدة أصيلة، وَدُودًا باغتني بفرح طفولي قلَّ في زماننا المقعر هذا، قائلًا: «هل تعلم أني قضيتُ ليلة البارحة معك، أقصد وأنا أقرأ ذلك النص الذي كتبتَه سنة كذا عن «البعلبكية»، زوجتي وأنا أُعْجِبنا به أيَّمَا إعجاب، يالل …» عِوَض أن أنتفخ كديك لهذا الإعجاب أُسْقِط في يدي. لقد ذاعَ سِرِّي، وافتضح بَوحي، أنا المُؤْتَمن على أسرار العشق، وكيف يتأتَّى لغيري أن يغشى أحلامي؟
راح الزيلاشي الودود يقرأ بعدها مقطعًا كاملًا، ومن فيه حسبتُ الصوت يتشكل، بل يتشخصن. لقد تشخصن الصوت، أصبح جسدًا وذاتًا. توسَّط بيننا، فهَبَّت نحوه أولًا تطبع قبلة على جبينه معلنة بامتنان: لقد أنقذتني وأحييتني وأَعَدْتني إلى الهواء، إلى هذه الشمس. بلغ الكلام إلى الشمس فأرسلت وقْدًا إضافيًّا إلينا، نحن الذين نتهيج هذه الأيام من الاحترار.
أما أنت، قالت وهي تلتفت إليه، فلن تحبسني بعد اليوم في كلماتك. ليست اللغة سجنًا بل الحُرِّيَّة مطلقًا، مطلقًا. لك شِعْرُك ولي الجسد والشِّعْر معا، فَهَيْتَ لك!
أردت أن أفضي لها ببعض أسرار الغياب، فوجدتُها تسبق خاطري، وبنبرة معاتبة تذكرني أننا لم نفترق إلا قبل ساعة، ليلة أمس، أوَنسيتَ؟! أردتُ أن أقول لها فقط إن ربيع هذا العام استثنائي، ربما كان استثنائيًّا.
فسبقت الخاطر مرة أخرى: لا شك أنك تقصد التناوب، لك ذلك، لكم ذلك، إنما من أجلنا جميعًا لنقل ما رأيك يا حبيبي؟ نحن نعيش التناوب والحب أيضًا، وتَبدَّدتْ، ولم يَنبِس الكلام ببنت شَفة … يا حبيبي.