تداعيات كاتب عمومي
(١) مكان تحت الكلمة
هل للكاتب موقع خاص يستطيع أن ينفرد به، ويتهيأ له من ثَمَّ وَضْع جدير بهذا الموقع ومشترط به؟ إلى أي حدٍّ بوسعه الاستقلال بذاتيته، تلك التي إن لم يُحَصِّنها جيدًا تَحوَّل إلى كَمٍّ غُفْل، وبدونها سيعجز عن تَحسُّس ذوات الآخَرِين؟ وكيف يتأتَّى له إفهام بل إقناع أولئك الآخَرِين بضرورة هذا الاستقلال الذي يعنيهم هم من منطق حرص مُشترَك ومتبادَل؟ ثم كيف تُنْجَز المعادلة الصعبة لهموم طرفين بما يؤدي إلى تذويب حدَّيْها في حدٍّ مُتَماهٍ ما أمكن، مُتآلف، هو ذاك الذي يتسنى فيه لواحد أن ينطق بلسانه، بشجنه الخاص وفي اللحظة ذاتها يحس أصواتًا أخرى تندلق من لسانه، وأشجانًا متماثلة تقول وجدها مع رغبتها. لا بل إنه النطق الواحد في انصهار لا يقبل التَّجزيء هو الحميمية مطلقًا.
مثل هذه الأسئلة ونظائر لها ممكنة تكتسب قدرًا أكبر من الدِّقَّة والمعقولية حين تُطْرَح بِمنأًى عن التجريد، أي وهي تستنبت في محيط معلوم بشروطه، مُتحَدِّد بخاصِّياته، نسميها على وجه الإجمال سوسيو-ثقافية، فليست أسئلة المجتمع والفكر والأدب واحدة في جميع البيئات، أو قُلْ إنها متفاوتة من حيث إمكانية تعميمها، فإن هي عُمِّمَت فلا بُدَّ من تنسيبها وإخضاعها لمحيط تَطَلُّبها، وسَيرهن محتواها ليبصمه ببصماته الخاصة. ما أكثر ما تفوتنا هذه البديهة ونحن نقرأ ثقافات وآداب أمم وشعوب أخرى حين ندرج قضايانا وأسئلتنا على مستوى التماهي معها، وعديد من مفكرينا وأدبائنا يعمدون إلى ضروب من التسوية والتطابق والاستنساخ للخطاطات والمفاهيم والتصورات والأساليب، في طراز من المُثاقَفة النظرية والشكلية الصِّرْف التي لا تُلقي بالًا لظروف التَّكوُّن وتقع في مصادرات شتَّى بغية إلحاق ما هو مُحلِّي بالأفق العالمي، وهي نظرة خاطئة أساسًا باعتبار عالمية الشيء، تستند من بين ما تستند عليه إلى ظهوره في تربة مُحدَّدة أَوجَدتْه، فضلًا عن نجاعته القابلة للامتداد والتعميم.
إن سؤال الكتابة الذي يُعَدُّ من الأسئلة المُؤرِّقة في مجال الأدب يسمح، من وجهة نظرنا وفي أفق اهتمامنا، باختبار هذا الطرح، وذلك من زوايا عدة أقربها — ولا شَكَّ — إلى دائرة الاهتمام العام عندنا مَضمون العمل الأدبي والقِيَم التي يحيل إليها الكاتب أكثر من غيرها. إننا نعلم أن مفهوم المضمون بات متجاوزًا في الأدب الغربي، فيما يتم التركيز على العلائق الداخلية والإواليات السيكولوجية بالدرجة الأولى، التي تُوجِّه المصائر الفردية في مجتمَعات تَفكَّكتْ أنسجتها القديمة وأصبح الفرد قُطْبها. وفيما كان المضمون، سابقًا، منحازًا إلى الجماعة ومصيرها المُشترَك، في إطار شروط موضوعية تُمْلِي هذا الوضع، وجدناه عقب التحولات الكبرى التي شهدتها مجتمعات الاقتصاد الرأسمالية، ونتائجها على مستويات السلوك والتفكير ونظام القيم ينقلب إلى مضمون فردي محض، وإن شئنا إلى استثمار مُفرِط لمخزون الذات التي تَتحوَّل إلى منجم تستخرج منه حتى نفادها ونهايات تلاشيها، والرواية الفرنسية منذ وقت طويل تغص بهذا التمثيل، وتعكس بإخلاص وضعية مجتمعية بات الإنسان فيها منكفئًا على عصابه، ولا يهمه أن يرى أبعد من أرنبة أنفه. أُدْرِك أن في كلامي بعض التعميم وإن كان لا يخرج في النهاية عن نَواظم لن يلبث أي انزياح عنها أن يعود سريعًا للانضباط في «الذوق العام» وهو، للمناسَبة، ذوق مُفَبْرك تصنعه جهات متخصصة إعلامية وإشهارية وأدبية تجارية بما لا يُبْقِي أحيانًا للقيمة الإبداعية سوى أدنى الحظوظ وأبخس الاعتبار.
لا تستطيع الرواية العربية، بالمقابل، أن تبوح بِأَنَا كاتَبِها أو شخصياتها إلا بكثير من الصعوبة في دورات مُعقَّدة من التَّخفِّي أو المُنعرَجات. وإن وجدناها تفعل فمَرَد ذلك إما لحدوث ضرب من المثاقَفة المباشرة على مستوى معيش صاحبها في مجتمع غربي، وهو ما تُقدِّمه لنا رواية «حب في المنفى» لبهاء طاهر بصورة جلية، أو لأن المؤلف سرعان ما يسقط في رومانسية بائسة متوهِّمًا تحقيق القيمة الفردية وخطاب الذات المكبوح. لنَقُل إن هذا الأخير ليس منعدمًا، بأنه متراوح طَردًا وعكسًا بين ما ينسرب تلقائيًّا، وما يمر عبر وسائط شخصيات كانت أو أقنعة أو مواقف. وفي المجموعة يبقى التَّرَجْرُج هو السمة الغالبة على أدبنا، على كتابتنا عمومًا من هذه الناحية. والسبب المركزي يكمن في أن المُنتَج الأدبي لدينا يجد نفسه، بل هو مُطالَب بأن يكون كاتبًا عموميًّا قبل أن يَتحقَّق له وضع الكاتب الخصوصي أو هُما معًا. غير أن وضع الكاتب العمومي، بالمعنى الواسع لهذه الصفة، هو ما يَفْرِض عليه مَجتمعٌ يُملِي مُسبقاتِه، وعنده تَصوُّر جاهز عن حامل القلم الذي ينبغي أن يكون في خدمة كذا وكيت. إن الثقافة الاجتماعية العامة لا تدخل في حسابها رصيد الثقافة النقدية والصيرورة الخصوصية للأدب، مثلًا، والمقاييس المسننة في النظريات النقدية، الشيء الذي كثيرًا ما يَعُوق انتشار الأدب الجديد أو الرصين ويسمح بَتسلُّل بضائع تحصل على دمغة الأدب زُورًا وتَلقَى رواجًا يستهلك فيه في الحقيقة غير ما تزعم أنها وُجِدَت له. على أن وضعية الكاتب العمومي ليست نقيصة، لا ولا خللًا في بيئة، المجتمع فيها سيد قبل الفَرْد الذي هو قيمة ثانية أو لاحقة، العيب فقط في أن تكتسب لتغدو المركز والأطراف وينتفي الفرق بين ما هو أدب وما هو هُرَاء مَحْض.