«يتوالدون كالأرانب!»
(١) طريق عنابة
يوم الأحد موحش عمومًا في كل مكان، لكن ما أوحشه في باريس. هذه مدينة مُتبرِّجة، غانية. تحتاج دائمًا إلى إظهار مفاتنها، واسمها يعيش بعدد مَن تَفْتِن ويترنح خلف أذيالها. فإن أنت حبسْتَها في غرفة يوم الأحد وأغلقتَ دونها المزاليج تُبْعِدها عن الوقت المنشرح، والنهار الصاخب، وبعده الليل الآسر كشعاع ترشفه من فمها بين صحو وثمل يقدحها، رأيتَها تذبل بين يديك، تَتقَوْقَع صماء مثل ضَبابٍ كالح. هو ذا القنوط، فيما أنت تحتاج إلى وَجْهِها الفرح، إلى ذراعيها تضمانك بشوق الدوام، لا يحاسب، لا يعاتب، ولا يقاضي عن أسباب الرحيل وأعذار الغياب، هذا هو الشوق وغيره ليس إلا حب الامتلاك.
غادرت الشقة هذا اليوم قُبَيل الظهيرة، كنت مضطرًا وإلا لبقيت منكفئًا في الفراش على ضجر لا يفارقني منذ أيام، ثم هناك ما يَتبقَّى من تعب الليالي العارمة التي لا تنتهي. أمانة عندي لا بُدَّ أن أحملها من صديق إلى معارف له في زنقة «فالغيير». حاولتُ في البداية أن أتخلص من هذا الطلب، لكن الصديق البيضاوي ألحَّ قائلًا طالما أنت ذاهب إلى هناك فلن يكلفك ذلك سوى انعطافة، فَهمتُ منه أنه يقدر بأني سأمرُّ بالضرورة من حَيِّي القديم في ساحة «الري» بالدائرة ١٥، وبأنني لن أتمالك نفسي شطر عنوان أو عنوانين لي في محيط الساحة. كنت موقنًا أنه لا يعرف ما يجوس في خاطري، وأنني إن نجوتُ في مرة سابقة من الهلاك بعد أن رحتُ اقتفي أثر الغابرين، فلا شيء يضمن لي النجاة والمدينة التي أينع فيها عز شبابي تَقْلِب لي ظَهْر المِجَنِّ، وهي تسلمني لأشباح تتقاذفني من وفي كل مكان. لأصل إلى مقصدي أخذتُ ما يكفي من الحَيْطَة لأتجنب المرور قريبًا من بيت الشيخ الصحراوي الراحل. «باهي» دائمًا وأبدًا. ركبتُ الحافلة في بورت «سان كلو»، ونزلت في بورت برونسيون وليس في «بورت دي فانف» المؤدي مباشرة بعد لَفَّة أو لفَّتَين إلى زنقة «لي موريون» حيث خيمته منصوبة إلى الآن. وأنا أمشي كنت ألتفت يمينًا وشمالًا وخلفًا كمَن يحاول الاهتداء إلى طريق في هذه الطريق التي تعرفني منذ أعوام. كلَّا كنتُ أتجنَّب ذلك العنوان بينما أنا ماضٍ إليه أو أحاذيه، فالهواء هنا مُشبع برائحته، وخطواتي تَدُق الرصيف مُتعثِّرة، لا واثقة كالعهد بها … أهذا حصاد العمر يا …؟
أخيرًا عبرتُ، لكن إلى أين؟ أنا متأكد من أني أوشك على الوصول إلى عنوان الأمانة، رغم أن رُفاتي خلفي يتبعني، بعد دقيقتين وأصل إلى الرقم ٢٥ «زنقة فالغيير». سأعبر الشارع إليها، أولًا. سأنتقل إلى الرصيف الآخَر، سأواصل، … هه، السي المدين، ماذا أسمع؟! هه، من أرى؟! فركتُ عيني وأنا أراه مقبلًا نحوي فرحًا، دهشًا، مُبتسمَ السِّن، قادمًا من عشر سنوات خلتْ لا يفرقه عنها سوى ظهره المنحني قليلًا إلى الأمام، وشعره الكثيف، الأسود، شَحَّ وغزاه الشيب.
السي المدين، ورمى حميد الكيس الذي بيده أرضًا ليرتمي الواحد منا في حضن الآخر. واش راك يا بورب، وعلاش راك تحوس، ما زلتَ في هاد لبلاد الميرد …؟ تدفَّقَت أسئلته لا تَطلُب جوابًا وهو يدفعني إلى المقهى الوحيد المفتوح في الحي.
وأنت يا حميد، واش من أخبار؟
– الحالة هي الحالة كما تعرف.
– وعنابة، مازلت تروح في الصيف؟
– مرة، مرة، الصوالد قلال أمون فرير، راني نَستنَّى بركات تقرب لاروتریت ونروح للبلاد، وين هي فرنسا يا حسرة. وسليمان يا حميد وين راه؟
– علی بالك هو شيطان، تزوج كاورية، بصح ماراهش مليح، هي ساعة تهزو من ودنه، وهو ساعة ساعة يتفكر أولاده في تيزي وزو، ويضرب عشرين ريكار في النهار، والجماعة الكل تفرقوا من وقت مات سي محمد سنترا، وخالي يدَّر راه ما زال كما هو في قهوته «لابراكا» ما يضحك ما يبكي، واش تحب الدنيا خربت يا بورب. وأضاف بأنه انفصل عن صديقته التي كان سيتزوج؛ لأنه ما يحبش تمنييك النصارى، وأنه بدأ يفكر في الموت، وأنه في كل ليلة يعلم بأنه عند مَشارف عنابة ولا يصل، وأظن أنه سألني أخيرًا عن أخبار الشيخ الصحراوي، هو الذي اعتاد المرور كل مساء عند خالي يدَّر، وأظن أن صاحب المقهى الجزائري سمع سؤاله فأنقذني من ورطته متدخِّلًا من وراء الكونطوار:
– كيفاه، ما على بالكش؟ دنیا فانیة
(٢) طريق الأخضر
لا يكون الأحد موحشًا في باريس أو في لندن، إلا عندما تكون السماء شاحبة، رصاصية، تكاد تنفجر من غيض، أو عندنا نحن المغتربين الذين لا نعرف كيف نصطنع الأفراح العابرة ونقتات بمُتَع منظمة تُبدِّد قتامة الأيام المجهولة. أما عندما تشرق الشمس وتفيض ضحكتها على الأرصفة والحدائق والبحيرات فإن نهري السين والتاميز يزغردان وإلى ضفافهما يأوي العشاق والمتعبون من كل صنف وجنس.
نحن لا نفكر في الشمس إلا في مداراتنا الأصلية، أو بالأحرى إننا هناك نتضايق منها من شدة إفراطها، ومن كثرة إجحاف المطر في حقنا.
كنت أعلم، وقد هجم الضوء نفاذًا إلى غرفة النوم صباح الأحد هذا، أن باريس ستعيش يومها واحدًا من أعراسها المشهودة، فالشارع الشهير، النازل من قوس النصر إلى ساحة لانكونكورد، أو تلك الباحة الفسيحة في انشراح التروكاديرو، وسواها من الأماكن التي تذهل السياح ولا تعنيني شخصيًّا، سيهجم عليها الألمان واليابانيون كالغزاة بالأمس، وهو ما قد يثير فضولي بعض الوقت، لكني لا أستسلم عادة لمثل هذه الغوايات البسيطة، المبذولة لكل سائح أبله. من حسن الحظ أن عبد الله الحجراوي هنا، وهو من إخواننا القلائل الذين سَيَبْقَون هنا، ويجد في الهرولة مُتنفَّسًا لبعض هموم الغربة، وإن بَدا عمومًا منسجمًا مع وضعه ونفسه، وهو شيء حسن. قلتُ له: يا عبد الله، سنفعل وسنُنْهِك الجسد، كعادتنا، حول ملعب الخيل، لكن اعلم أن خطبي هو الغابة أولًا وأخيرًا، هواك إذن ما يزال، أجاب، في تلك الألوان.
في البداية لم يكن لي غير حُبٍّ واحد، أظنه الأبقى وإن تَعدَّد وتجدد، ومن شرفة يرتمي إلى مشارف التيه. غدًا إذا قابلته لم ينكر وجهي، سيهب نحوي ليتعرف على وجهه القديم، ومثل الراهب في طقس المناولة سيناولني كرَزة لأتأكد من رضاب شفتيه هو غيثي في هذا الجفاف الكاسح.
هل الربيع الذي ألاقي الآن هو الربيع أم إن الفصل تَغيَّر؟ مطلع شهر أبريل هو بداية أبجدية الشهوة أم إني الذي تَغيَّر؟ أمر جائز، واللون هو الحاسم. سأُتَّهم حتمًا باختلال العقل لو علم أحد أني أُحلِّق في سموات وتحت بحار من أَجْل لون لألقاه، أو كأنه هو الذي يريد لقائي لتعيد له النظرة طراوة وجوده.
من جهة «بورت دوفين» وجدته في استقبالي حاملًا لوحة، كما في المطارات أو محطات القطار، كتب عليها «الأخضر ابن الأخضر»، لوَّحْتُ له فلَوَّح لي: وإذن، أنت هو؟ وإذن، هو أنت، قلنا معًا عبارة واحدة، ولم نفكر أيُّ واحد منا هو الآخر؟ اقتادني نظيري المنتظر في الممشى الأول المؤدِّي للغابة كالعارف بطقوس تجوالي. هو دليل سياحي غير اعتيادي مختص بالألوان، ولم أكن سائحًا، أَسْخَر دائمًا من جميع السياح، يظهرون لي بُلَهاء بعض الشيء. أيام البساطة العتيقة كنا نجلس في إفريز مقهى الأكسلسيور بباب لكبير (ساحة محمد الخامس حاليًّا بالدار البيضاء، وهذه معلومة للنازحين) فتمرُّ أمامنا حافلات كبيرة يطل منها كهول وعجائز، أحيانًا يلتقطون لنا من نوافذهم صورًا كأننا كائنات أثرية أو يذهبون إلى مراكش ليشاهدوا ثُعبانًا يرقص، وقردًا يقلد مغربيًّا، أو الجِمال في باب الخميس قبل أن تُقْتَاد للذبح (مثل إلياس كانيتي، المسكين). في زمن آخَر تمر حافلات ضخمة في هندسة السبوتنيك بشارع جورج الخامس بباريس ويطل من نوافذها أمريكيون في نهاية مَطاف العمر، وهم يلحسون بأعينهم آخِر قطرات الحياة، بلا جدوى، فالحياة عَبَرت أيها البلهاء. قبل أيام، أيضًا، قمتُ بالسياحة على طريقتي: كان لي وَطَر أقضيه في شارع كليبر؛ أي قرب قوس النصر. وقفتُ عند قاعدة القوس الشامخ وأمامي عشرات اليابانيين، إنهم يتكاثرون هنا كالأرانب، هم ينظرون إلى القوس من أسفل إلى الوسط فالأعلى وأجسادهم تَتبدَّل حركاتها كالكراكيز، وأنا أنظر إليهم ينظرون ويخزنون المكان في عدساتهم ليروه ربَّما للمرة الأولى بعد مائة عام. ولاحقْتُهم أنظر إليهم ينظرون وهم يَستدلُّون على أماكن وجدهم بخرائط مُعقَّدة، إلى أن انتبه لي أحدهم فهبَّ غاضبًا نحو شرطي قريب، ففضَّلتُ أن أنسحب بشرف من هذه المهزلة السياحية.
أما اللون، قُل الألوان، فدليل لها ذاكرتي. كنا اثنين ونحن نمشي نحوها، نحونا، نحن الخريطة تنظر إلى منعرجاتها وخطوطها. وقفنا عند الشجرة الخضراء الأولى فشهقنا: هذا أخضر خجول. عند الثانية: هذا أخضر ناعم الملمس. عند الثالثة: هذا أخضر عاشق، عند الرابعة هذا أخضر شبق. بينها انبثق البنفسج كالفجاءة وتلألأ تحت الشمس، أيضًا، كالسراب، وخلافًا لليابانيين رحتُ أشحن العين بالاخضرار لأخضر به ساعتي وليس بعد ذبول العمر. أكمل عبد الله الحجراوي الكلم العاشر في هرولته وتوقَّف لاهثًا عندي، وقُبالة تلك الشجرة، رفع إليها بصره فندَّ منه تأوُّه مُستغرَب، سمعته كالمتكلم من داخلي: هذه حتمًا تعشقك، مضى عليَّ زمن لم أرَها على هذه الخضرة الغزيرة، أمس، فقط كانت شاحبة، أم إنك سَحرْتَها؟ قلتُ له: يا عبد الله، لماذا تنكأ الجرح، بل هي ساحرتي ترعى رفاتي، فعلك تفهم الآن سر هذا الولع.
(٣) طريق الأرانب
حبستُ الحرقة في نفسي ومضيتُ لا ألوي على شبع مما رأيت. زكيت الأمر بأننا نحن العرب كائنات عاطفية، هَشَّة، هُلاميَّة، رِخْوة، نَسِيميَّة، قَمرية، غَزَلية، رِثائية، غِنائية، شَجَنية، ليلية، عَيْنية، هذا كله ونظيره، غير أني إلى اللحظة، قبلها بقليل لم يخطر لي ببالٍ أننا يمكن أن نكون أرانب؛ أي إننا ببساطة مثل كل الأرانب، وإذا احتج أحد وأنكر كيف يجوز هذا وقد كرَّمَنا الله بخلقة آدمية، لا أعدم مَن يتصدى للإنكار مُخفِّفًا من غلواء قولي بأن المسألة هي من باب التشبيه لا أكثر، وأن عليه أن يتريث فلعل في الأمر سرًّا سيفطن له أولو الألباب.
والحقيقة أن وضعنا، نحن العرب، أرانب أو كالأرانب ليست له ضرورة علاقة وطيدة بالزعيم الصهيوني الجديد بنيامين نتانياهو أو أسلافه «الكرام»، فجنوده ومستوطنوه، الذين يساوي كل واحد منهم ألفًا أو مائة ألف رأس منا، لا ضَيْر عليهم أن يختلط عليهم الشكل العربي، فهو في هذه الأيام خاصَّةً، شكل هجين. مرة يظهر في صورة شاةٍ وفي صورة قِرد وفي صورة بهلوان، وفي شكل أرنب أيضًا. ولذا فأشقاء نتانياهو تَتحرَّك أصابعهم بسرعة لتضغط على القُرص وتقتل وتجرح وتقتل في كل اتجاه، وبرصاص حقيقي: إنها أرانب فلسطينية، مُجرَّد أرانب عربية، ويستطيع بعدها الزعيم الصهيوني الجديد أن ينام سريعًا، وبأحلام لذيذة دون أن يُقضَّ مضجعه أي إنذار، بريجيت باردو، تلك الحسناء الشمطاء، نفسها لن تقيم الدنيا تحت أقدام اليهود لفتكهم بذلك الحيوان البريء، الأليف. فهي مشغولة، وستبقى مشغولة إلى آخِر تجعيدة إضافية في وجهها الجُثماني ﺑ «الجرائم العربية» النكراء ضد الأكباش المسكينة، خرفان عيد الأضحى.
والحقيقة كذلك أن وضعنا، نحن أبناء المغاربة خاصَّة، أرانب أو كالأرانب، لا يعني ضرورةً السيد جان ماري لوبين زعيم حزب الجبهة الوطنية، اليميني المُتطرِّف في فرنسا، فالأرنب بالنسبة له ولأنصاره لحمه طيب، ولذيذ جدًّا إذا صنعت له مرقة منقوعة بخمر مُعتَّق. أما لحمنا عنده فهو كالجيفة لا يستحق إلا الردم والرَّمْي: ملايين المهاجرين، رَحَّلوهم بالبواخر والقطارات على عَجَل وننفض يدنا من تلك الرائحة!
إذن، من يعني الأمر تحديدًا؟ أوه، قد يعني هؤلاء ولكنه يعني تحديدًا اليمين الفرنسي الديغولي بدوره، حزب التجمُّع من أجل الجمهورية، الحاكم اليوم في فرنسا، والذي اجتمع فرعه الشمالي مؤخرًا ليقيم نتائج المؤتمر الأخير الذي عقده حزب لوبين في مدينة استراسبورغ وتأثيرها في الناخبين، وأبرز ما ركَّز عليه اجتماع فرع الشمال لحزب شيراك هو بالطبع موضوع الهجرة والمهاجرين، مِحور استقطاب التطرف الفرنسي.
والحاصل أن الاجتماع بعد دراسة جديدة ومتأنية للموضوع المثير للجدل خلص إلى ما يلي: حقًّا إن للمهاجرين المغاربيين أدوارًا لا يُستهان بها في الحياة الفرنسية، وبدونهم ستكون كثير من مناطق فرنسا مُقْفِرة. وصحيح أنهم لا يأكلون لحم الخنزير، ولكنهم يُشْبِهون الخنازير … انظر إنهم «يتوالدون كالخنازير».