بيت الأرواح القلقة

(بخصوص معرض للحريري ورحول)

قبل أن أركب السحاب إلى بيت الغربة الأليفة أخذَني كل من الصديقين الفنانين عبد الله الحريري، وعبد الرحمن رحول، إلى بيتيهما وأطلعانَنِي على نماذج من أعمالهما التشكيلية المُعدَّة لمعرضهما المنتظم حاليًّا بفضاء الواسطي بالدار البيضاء، وهذا فضلًا عن أعمال أخرى لهما أقْتَنِي بعضها، وطلبَا منِّي حينها أن أُعَبِّر عن رأْيٍ أو انطباع، وطلبتُ بدوري مهلة للتأمُّل أمام كونهما الشاسع، ثم كتبتُ قائلًا:

أعترف بدايةً أنَّ لغة الأدب لا يمكن بأي حال أن تَعْدِل لغة التشكيل أو أن تنطق فعلًا بقولها … لِتَكُنْ، إذن، وسيطًا مُحتمَلًا ومجازفًا يقتحم بفضولٍ عالَمًا يملك سَلفًا لغته، تكوينه، مجازه وأَمْداءه، دَعْك من اللون فهو النُّسغ والشجرة.

وبالفعل، فإن عبد الله الحريري يصوغ للوحته، لأعماله، لغةً بأبجدية جديدة هي نتاج تَعالُق وزواجِ أبجديَّات ولُغات مُتعدِّدة، وحين يغمرها باللون، أو تَستحِمُّ هي تحت دَفْق الألوان تَكتسِب كينونة الرَّمْز الذي يُحِيلُ بدوره إلى البحث في بدء التكوين بأدوات الحرف والحفر والتحريف التي تَخلُق كل شيء تقريبًا من عدم، من غياب. وفي مكانٍ ما شمسُ الإبداع، الوجود، لا مُشرِقة، لا غارِبَة، هذه روح الفنان المرتعشة قبل اللوحة وبَعْدَها. وفي انتظار ما قبل الولادة وما بعد الزوال يَزفُّنا الحريري إلى عرائس ألوانه الزاهية تحت سمع وأنظار قُبَّة خلق جديد.

عبد الرحمن رحول يضرب في الأرض لِيصعَد إلى السماء، يعجن التراب، الطين والنار والرماد؛ ليصنع آدم الفنَّان الخاص، ويصوغ تجربة آدم الخَزَفي؛ لِيُجسِّد الكينونة في شموخها، قَلقها وشَغَف بحثها عن كمال الإنسان المستحيل عن إعادة خلق التشكُّل بالتشكيل. لا يكون الفنان إلا بالخلق، هذا رهانه أو لا يكون.

في لوحاته، يبقى رحول لصيق شاغله الأم، فِعْل الخلق والكينونة، إنه يصنع، يبني سكنًا لكائناته، والمُفارَقة أنه لا يَصلُح لسكناها؛ فهذا السكن، هذه اللوحة مشغولة سلفًا؛ لأنها ببساطة بيتُ الأرواح القلقة، والمأوى المُعَد للظلال الهاربة، هكذا ترى ألوان رحول شبحية، باحثة عن لونها، الأزرق والبني والأخضر يُؤسِّس السيرة اللونية للأزرق، الأخضر والقاني. والخط فوق الخط تحته، علوه، مُنْحَناه، أُفقِيُّه، عَمودِيُّه، هو انضمام لمُغامَرة الفن في إعادة التكوين الكلية التي بها يُوجَد أو لا يُوجَد.

تجربة الحريري ورحول واضحة الاختلاف، ظاهرة التَّمايُز لكل ذي عين فَنِّية وحسٍّ تشكيلي مُجرَّب، لكننا نستطيع أن نزعم أنه ذلك الوضع المختلف، القادر على بلورة نسق مُؤتَلِف إذا بدتْ فيه موادُّ العمل وطرائق الأداء متغايرة؛ فإن رؤية التكوين ورؤيا نَحْت الوجود من جِبِلَّة الغياب تُثْبِت فيه جوهرًا ومرتكزًا؛ ولذا فإن هذه الشراكة في معرض واحد ليست بتاتًا اعتباطية بل يَفرضها، يُؤنِسها انشداد فردانية إلى جاذبيتها وتجربة جيل متلاقح في سياق الفضاء التاريخي والثقافي والإنساني، تقولها لغة التشكيل وزغاريد الألوان فيما لغة الأدب تظل مجرَّد تَطفُّل عليها، حَيْرى بين الغياب الدائم والحلم القادم.

باريس في ١٤/ ١٢/ ١٩٩٤م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥