ضياع في الأوداية

(١) شموخ بابل

نحن الآن في استهلال مايو، وقد أغدقت علينا السماء قبل أيام بمطر مدرار، ثم أشرقت الشمس ملء فصاحة العرب القدامى، وبدا الربيع مجنونًا في أعطافنا، مغرِّدًا من عيون صبايانا.

هذه صورة أولى تحت شمس مغربية، عربية، لكنها مبتورة، مثل جسد بساق واحدة، أم رأيت الورد، شكل الجلنار، وللياسمين هندام لكن بلا أريج. أما النعناع في شاينا فلا يذكرنا بعبقه القديم، حين كنا نجلس طَرِبين بعروبيتنا وقت شمس العشي.

كله كان، فنحن نهمس في السر: مَن نحن؟ ندفع الآهة تلو الآه، تحت الوسادة، فيشب الحريق ولا دخان. ذلك الومض البعيد اقترب، وتجلَّى كالكشف في يد العرافة، التمسني، قال: اقبس من ضيائي يشتعل الفضاء بما خبا من حريق … الذي تفانى في الاحتراق.

كأنها بغداد، بل هي بغداد طُرًّا، شمسها إن غربت، رمادًا صار وجه البلاد. الأريج تعفف أمام انحناء سعفة مكسورة، والأرض التي تأويني لها وجهها، والفيء في صهدها محمول إلى الأصقاع الأخرى، هي بغداد لنَبلُونَّكم بحبها، فإن هَجرَتْكم لم يَبقَ في الرباط غير سرير من سهاد وندم.

الآن وقد مر «البرابرة» بقينا وقوفًا كما بالأمس، والمغول إنما شُبِّه لهم أنهم مَرُّوا من هنا، فالنهر دائمًا يجري ودمنا لؤلؤه، أزكى ما فيه. وهذا يكفي لتبقى شمس العرب التي في سمائك ساطعة، وحْدَها هي شمس العرب. أما الباقي فأصداف مجلوبة لليل فيهم بهيم، وهم يجرون أذيال الذُّل، ويَبُوسون أقدام أسيادهم … «البرابرة».

للعيون التي ما بين الرصافة والجسر، لبابل حيث لا أشمخَ مِن بابل، و«الحُلَّة» معصم سوارها «بادية» لو علمت، ومَنِ انضم إلى مَحْتد إبراهيم لا يُسام الخسف، تراه يجوع فرحًا إذ يشبع الجياع، ولسيد له قامة في إباء ما بين النهرين، توالد من عمره هذا العصف كله، دمه في الأعالي يزغرد، لا يطال، إلا على جبين الأرض، هو قبلتها والشهيد.

باعوهم، أوغلوا في عرضهم، وبقينا نحن بحر الدم نزهو، ليس لنا من مَتاع غير وجه، قبس من وجه الفيض لا تغادره الشمس إلا لتغمره المسحة القمرية، جرح على جرح والرجال وقوف، أجسادهم الدروع وقوف لتحمي صوت الله الأبقى.

حين وصلت إلى بَابِك تقدَّم مني نشيدي، خفق حنيني، سمعتُ صهيل الخيول، العرب تنصب أيامها و«البرابرة» في دهش من أمرنا، ومن سِر هذا الحب الذي لا يُضام. لن يعرفوا، لأن نشيدي ليس للبيع ولا للسفلة … هو وحده يعرف الطريق إليك، عامه هذا، مثل كل الأعوام.

(٢) لحن الخلود

لم أكن مُسرفًا، غير أن ذكراها مُمِضَّة، وابتلائي بها جاء بعد فوات الأوان. هكذا يحدث عادةً للخاسرين مثلي، يجدلون بقاياهم أنينًا خائبًا، والصور تنسدل على جانبي الأيام مثل سوالف «الأشجار البَكَّاءة». التفت العنق منك إليها شبه مُودِّع، كالمتحسر، أشجارك هذه كيف تتركها وترحل، ولياليك البيضاء مُخضَرَّة بأوراقها، لا تَسَل عن الحمراء. أنت تستبطئ المعنى هنا كما تَستبطئ الرحيل، والمعنى ما هو غير ارتجاج الكلام في الجوف، ارتطامه بصخر الحلق لينسرب في ألياف الصمت، الصمت الذي اختارني قبل أن أختاره، وبعد اصطفاف الخلق ينتظرون خروجه في حلة قشيبة، المعنى الذي مر أمامهم، عاد إلى بدايات خلقه وهم لا يبصرون؛ لذا ستبقى، ولستَ وحْدَك، عاجزًا عن فهمي، تطلب الوضوح لما لا يتضح أو تطلب تفسير نظام القمر في ليلة مقمرة، خذ بعينيك القمر أولًا قبل أن تهتم بِعَدِّ النجوم. تعلم أن تضم إليك الجسد المعطاء، أن تشم فاغم أحراش إبطيه مثل رائحة الغابة ملفوفة في قماط الضباب، حين يكون المطر قد ولَّى أو غبَّ فواته، والشمس مَخاضها خيوط تعارك للنفوذ فوق الوبر، كي تكشف عورة النهار، والنهار انفلت. كان الليل قد زفَّ انبلاجه، جرَّه إلى خباء عينيه. أَوْلَم له، أسكره وأرتعه، وحين أطلقه فاضت روحه في سديم المعنى-الغابة. أنت لن تفهمني، ولست وحدك، فالنصوص لا تضيئها الأقمار، بل استغراق الذات في الفناء وهي في زعم الأحياء.

بل أنا مُسرِف إذ أتذكرها، وهي تنزل كل مساء من طابق وغرفة لا أعرف لهما رقمًا، في فندق تلك المدينة المشرقية التي زُرتها يومًا وغِبْت عنها دهرًا، ثم عدتُ إليها بلا هدف صيفَ العام الماضي، كأني أنتظر هبوط الملاك فيها ليحملني بين جناحيه نحو الوجه المفقود. يفتح باب المصعد على البهو الفسيح فتخرج هي منه كَهَبَّة نسيم، هكذا أحس بها في صهد تلك المدينة رغم جهاز التكييف. لا تلتفت يمينًا ولا شمالًا، فقط تترك وجهها السمح يسبقها كأنه يفتح الطريق لخطوات تمر أمامك كالهمس، لتستقر أخيرًا في المكان المعهود لها، خلف البيانو الضخم تقتعد كرسيًّا وثيرًا. وقبل أن تفتح أول كُرَّاس للشروع في قراءة النوتة تُخلِّل أصابع يديها بشعرها المضموم إلى الوراء … وبحَّة صغيرة، هي البحَّة الوحيدة، تصدر منها ربما لتُنبِّه بعض الجالسين المبعثرين على الكنبات في البهو، ومثلهم حول طاولات البار الداخلي، وهم يقرقعون كئوسهم ويقشرون الفستق.

كان واضحًا تمامًا أنها من خارج هذا الجو، هذه المرأة الأقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة، برشاقتها المستدقة، وشُقْرتها المرقطة بحبيبات بنية خفيفة، وعينيها اللتين تنظران إلى الجميع ولا أحدَ في الآنِ عينه. انْجررتُ في البداية إلى لعبة تخمين ساذجة أريد منها تحديد جنسية العازفة، ثم لجمتُ نفسي مباشرة حين أدركتُ أن صنيعي هذا هدفه الأول والأخير تحويل المرأة التي تجلس أمامي للعزف كل مساء إلى طريدة للإيقاع بها في أقرب وقت. بل إني وبَّختُ نفسي بشِدَّة لإحساسي بأني رغم كل تجاربي ومزاعمي ما زال تفكيري ينطلق من أوهام «الفحولة العربية»، وكانت هي نمساوية، كما علمتُ فيما بعدُ، وشتَّان. يتدفق عزفها في مدخل المساء رقيقًا، ساجيًا، تناوش به معزوفات يفترض أنها معروفة عند زبناء الفندق، وإن كان منهم عدد بين رجال ونساء وأطفال أحجامهم أسطوانية، ويرتدون ملابس فضفاضة كالخيام، وتحسب أن النساء منهم من جنس العميان، وهم يُحْدِثون جلبة هائلة بين الدخول والخروج، بل هم يَعودُون دائمًا بأكياس من الأرغفة والطعام يَشرعون في ازدرادها من دخولهم إلى المصعد وصولًا إلى غرفهم التي حوَّلوا أَسِرَّتها إلى قُدور. هذا كله وعازفة البيانو لا تكترث، كأن العربان الذين نحن، بجَلَبَتِنا وازدرادنا وقَرقعة كئوسنا والكَبْت المَحرور على شفاهنا لا يعنيها في شيء، بل أستطيع أو أؤكد بعد جلسات طويلة قُبالتها للاستماع إلى عزفها أنه لا يعنيها في شيء.

والليل يَتقدَّم يُخيَّل إليك كأن مِزاجها بدأ يُعَكَّر وما هو بالعَكِر. إن هي إلا أصابعها تنتقل إلى عزف ذي نبرات حادَّة وتوقيع مثير. تتخلَّى عن كُرَّاس النوتة وتُوغِل في العزف وحدها، لا أحد سواها الآن وهي تنقر. الموسيقى لها، ولها الليل والمكان ووجوهنا كلها بالرغم منا تَنشَدُّ إليها شئنا أم أَبَيْنا. ويكون عرب الأكياس قد انخرطوا في الشخير، وعرب الفستق ما زالوا يُوشْوِشُون أو يُقايِضُون صُوَيحِبات ساعة زمان، وعَرب آخرون من الخائبين مثلنا أحداقُهم مُعلَّقة بنبرات تبدأ في الانكسار شيئًا فشيئًا، ثم تَتندَّى في سقف البهو لتقطر الموسيقى موسيقى على وجوهنا، ونحن في غفلة عن الزمان والمكان والليل، إذ يجنح نحو ليل آخَر.

إلا هو، فلم يكن بتاتًا ولا لحظة في غفلة عن أي شيء مما يدور حوله. لم أَنتَبِه لحضوره إلا في وقتٍ متأخر؛ أي حين انتبهْتُ لحركة شخص لا يريد التوقف عن الذهاب والإياب في بهو الفندق، وعيناه تطرفان مرَّة مرة باتجاه لم أستطع ضبطه. لاحظتُ أن العازفة، بدورها، راحت تَطرق بعينيها في الاتجاه الذي لم أستطع ضبطه. أخذتُ أتفحَّص وجوه الحاضرين أمامي، وقد صاروا قِلَّة، عَلَّنِي أضبط موقع تقاطُع النظر فلم أظفر بنتيجة. تساءلتُ هل هي واحدة من أنواع اللَّعِب الكثير التي تُمارَس في هذا البلد السري، الجدير بأشكال التصرف السِّرِّيَّة؟

قلتُ ربما، غير أني خِلتُه لعبًا لم يتوقف. رفعتُ بصري تدريجيًّا من الوجوه إلى مَساند الأرائك، إلى الجدران المنجدة، إلى السقف من حيث تتدلَّى الثُّريَّات، فلم أفُز، أيضًا، بشيء. قررتُ أخيرًا أن ألعب بدوري، وما المانع، فالرجال هم في النهاية أطفال كبار. قلتُ سأنتقل إلى الأريكة المحاذية تمامًا لكرسي العازفة، ومن مجلسي هناك سأراقبها بوقاحة إن اقتضى الأمر، وفعلتُ.

أخيرًا اكتشفناه، بل اكتشفتُ موقعه. تزحزح الجدار الذي يحمل صورته. صورته المُعلَّقة داخل برواز كبير، ومنها ينتأ وجهه نتوء اللحم البشري، فَلَتكادُ تقول إنه سيطفر خارجها وهو حي لا صورة فوتوغرافية. على كل، فأنا لستُ متأكدًا من شيء، اللهم من أن نظراته شرسة، ماكرة، تلاحقك حيثما التفتت، وتجس جسدك موضعًا موضعًا، وتحنطك إن شاءت فتخمد نفسك. فهمتُ لماذا كانت أنفاس العازفة تتلاحق بسرعة مرة ثم تَخفتُ وئيدًا كمَن انتابه فجأة إعياء شديد. انتقلَت العدوى إليَّ فتلاحقتْ أنفاسي. وفي جولات متقطعة في بعض شوارع تلك المدينة وساحاتها كنتُ لاحظتُ سلوكًا مماثلًا ولم أبحث عن العلاقة بينه والصورة الهائلة المُعلَّقة. أظن أني سألتُ أحد المارة إن كنا في يوم عيد هنا، فنظر إليَّ بتجَهُّم نافخًا باستنكار:

«أولا تعلم أن أيامنا كلها عيد؟!» وكانت الصورة تَترَى حيثما تنتقل، بأشكال وأحجام وألوان وبراويز مختلفة. وإذا اتفق أن جدارًا أو بابًا أو أي فراغ منتصب ظهر خاليًا منها وجدتُني مدفوعًا لأملأه من مخيلتي بملامحها واحدة، واحدة، إلى أن تصبح كاملة الحضور. نهضَت العازفة النمساوية أخيرًا، أو إن الصورة هي التي أنهضَتْها حين أمرَت العينان الشرستان، الماكرتان، بإيقاف العَزْف وطلبَتْ منها أن تَتْبَعانِها، وبعد ثوانٍ كان المصعد قد غيَّبهُما. بعد ثوانٍ، أيضًا، انطفأت أضواء البهو. انطفأت مصابيح الشارع، قدَّرْت أن كل ضوء في المدينة انطفأ أو هو في الطريق، فقد ساد الظلام، وأنا على أريكتي دائمًا بالبهو المُعتِم لا أعرف كيف أجد طريقي. ربما كانوا بالمئات لا يجدون طريقهم مثلي. وحين قرَّرتُ أن أتحسَّس الطريق كالأعمى بحدسي انفتح السقف كستارة كثيفة كانت مُسْدَلة وانزاحت دفعة واحدة، وظهرت لي السماء مشعشعة بالنجوم مُحوِّلة الدجُنَّة إلى مهرجان من الضوء. وحين أمعنتُ في التحديق كدتُ أسقط على وجهي من فرط دهشتي. لم تكن نجومًا بل هي عشرات، مئات الصور، لا يَحدُّها أو يَعدُّها البصر. وصور بألوان وأشكال وأحجام وقيافات وبراويز مختلفة، وملامحه هو، رغم المساحيق التي تُغطِّي تجاعيد وجهه عنادًا، هي ذاتها بقسوتها المعهودة. تُهيمِن عليها العينان ذواتَا النظرة الشرسة، الماكرة.

في المشهد الأخير تشرع الصور في النزول من عليائها، أراها تنزل كمطر غزير علينا جميعًا، نحن الذين صِرنا حشودًا في البهو والشوارع وساحات المدينة وجميع الطرقات المؤدية من وإلى. أراها تنزل لتقع على وجوهنا وأيادٍ خِفيَّة تُمْعِن في كَشْطِ جلدنا القديم ليخلفها جلده هو، صورته هو، وجهه هو. لم نعرف مَن أحضر آلاف المرايا، رأينا وجوهنا فيها وجهه فينا، رأتْه العازفة التي خرجَت للتَّوِّ من المصعد فشهقَت، رأيتُه في وجهها فشهقتُ وتبعتُها جهة البيانو، حيث جلسَت على الكرسي خلفه واقترب منها شخص تَدلَّى رأسه من السقف، ملامحه هي ملامحي أقصد ملامح وجهه، وهمس لها بشيء على إثره طوَّحَت بدفاتر النوتة أمامها، وأعلنَت أمام الملأ في انفعال وحماس لم يَسبِق لهما نظير، بأنها من الآن فصاعدًا، واعترافًا منها لِمَا للصورة من أيادٍ بيضاء عليها وعلى الخلق أجمعين، قررت أن تُسَبِّح بوجهه، وحمده، وتعزف له اليوم وغدًا وأبدًا لحن الخلود. هنا ضج البهو بالتصفيق، وفي الخارج تعالى الهتاف والدعوة لمُلاحَقة جميع الذين لا يحملون وجهه. ومن ناحيتي قصدتُ أول مرأة مقابلة لأتأكد أنني ما زلتُ أحمل وجهه، ولأحمد الله وقد تأكدتُ بأن كل شيء على ما يرام.

٣ / ٥ / ١٩٩٧م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥