ضياع في Châtelet

لم تكن الأولى، لن تكون الأخيرة، التراوح المُدوِّي في صمت ارتجاجه. ستذهب وتجيء ثم تذهب إلى ما لا نهايات المسافة. الكلام يحاول فقط الالتحاق بأذيال الخطوة الراحلة، يقتفي الظل والأثر مُمعِن في الابتعاد عن حاله وما يبغي اقتفاءه. مثل القصيدة، بكل صورها المَجازية وقُزَحِيَّاتها البلاغية، لا ترسم من خيال الشاعر إلا تركيب المخيلة في اتجاهات بلا ضفاف، بلا تخوم. ولذا، مرة أخرى، فليس المعنى سوى وَهْم حصوله، التحقيق المفترض الذي يخدع بالاستجابة لطلب الراغبين في الطمأنينة. إنهم يرغبون دائمًا في الاستقرار في مكان، في شيء، في ثابت، والباقي عندهم أضغاث أحلام، وهم لا يفهمون أن الحلم هو الأبقى ما دام مطية الشاعر، الإنسان الخلاق، نحو الخلود.

ليست الأولى، ولا آخِرَ لها خطوة الترحال والفقد المترحل، لا تقنع بالكلمة، الكلمات، صهوة الضياع هو الموقع الوحيد الممكن؛ لأنه، رغم اكتنازه، رغم كثافته المجربة، المساحة الهلامية، السائحة والوحيدة، التي لا إمكان للقبض عليها. وهذا، أيضًا شيء آخَر يعجز عن الإحساس به، إن فهموه، من يُنصِّبون أنفسهم، بقرارات عسفية، ولاةً على كلام الناس وأحزان الشعراء. وبعيدًا، أيضًا، بعيدًا نحلق خارج مدارات تجار الصفقات الكلامية، الجاهزين دومًا لاستلام الكلمة في كل المناسبات وحتى ولو افتقدوها نَصبُوا لهم خيامًا في العراء وساقوا إليهم العِباد كالأغنام يحسبون أن الرُّغاء الذي يخرج من حناجرهم هو كَلؤُها ومرعاها، وهو ما يجعل المعنى البسيط يضيع، يتلاشى إلى حد ابتذال آدمية الإنسان ومسخه إلى ثُغاء، وفي أفضل الأحوال إلى صورة مُلطَّخة بجميع الألوان ولا لون، جميع الأشكال ولا شكل، كل العبارات المنمَّقة المُمَوْسَقة بلا إيقاع ولا جمال. ربما، ومن أجل استعادة بعض الإنسانية المفتقدة هذه الدعوة إلى ضياع يحدث بالاختيار.

هل نملك أن نختار حقًّا؟ في غالب الأحيان يأتي الجواب سلبًا أو منزاحًا كثيرًا أو قليلًا عمَّا نحب. على كلٍّ، وبالنسبة إليَّ فإنني أفضِّل التحرك في مساحة اللامتوقَّع وما هم بعد ذلك توفر الرغبة أو انحسارها، والرغبة، على العموم، غريزة في حالة كُمون، تحتاج إلى قدح زناد لتشتعل نارها، مثل الْتفاتَة لامرأة عابرة وفجأة يبعث عالم كامل، غزير من الذكريات.

في بداية ذلك المساء، المساء الذي يَنتصِف معه شهر أبريل، وباريس مُسربَلة في دفء نهايات يوم كان مشمسًا حقًّا، بل حارًّا بمقياس الأذرع والصدور المُندَلِقة، شبه العارية للسائحات الألمانيات والإيطاليات اللواتي كنَّ يَتسكَّعْنَ في حدائق التويلري، بعد أن احْتسَين مقدار عَطشِي من الجعة واللمونادا المثلجة، ورُحْن يَتهادَين وقد جَلَبْن الهوى من حيث أدري ولا أدري. يا لضياع الغريب ذاك الذي يفتقد غُربته الأولى وقد صارت الأماكن كلها أمامه وداخله عامرة بالذكريات، وإن شئتَ سَمِّها الوقت التالف يعتصر الحنين. ومثل العرَّافة، وقد احتسيتُ القهوة الذكية لمقهى «لوفلور» رحتُ أستطلع بعيني ثُمالة الفنجان غير مُعوِّل على شيء، ومصمِّمًا ألَّا أُعير سمعي لعجوز خرف يروي لفتاة جارة نَفدَ صبرها عن زَمَن فحولته في هذه النقطة بالذات من «السان جرمان» التي نحن فيها، وذلك قُبَيل الحرب العالمية الثانية.

الغربة ليس أن تَحل، وحسب، في مكان وبين قوم لستَ منهم وجهًا ولسانًا، بل هي أن ينكرك، وبلامبالاة، المكان الذي تَكُون قد توهمت في لحظة ما أن وحشتك تَبدَّدت فيه، وصرتَ واحدًا منه بحكم التعايش، وكذا الألفة المفترضة. الجالسون هم أنفسهم أو تتشابه عاداتهم شبه المتوارثة، وقد كنت منهم في سنة سابقة، فيهم في جميع الأعوام التي سبقتْ، ومنضدتك أو الطاولة التي كنتَ تجلس إليها لكتابة قصصك الأخيرة نظرت إليك وأجفلت. في الطابق الأول من المقهى ما زالت قرب المقصورة المخصصة لغير المُدخِّنِين، حيث تتوافد اليابانيات وقد تَبضَّعْن من حقائب «فويتون» باهظة الثمن، ويبدأ طقس شرب الشاي وأكل الخبز المحمص مع طلاء خفيف من الزبدة ومربى الفراولة … أنت تحاول إتقان الحبكة وهُنَّ يَعْضُضْن على الفطيرة بالبَرَد (وهو قول مستعار من قول الشاعر العربي القديم «وعضَّتْ على العِنَّاب بالبَرَد»). أجفلت الطاولة وأنكرَتْك إلا نادل الباحة السفلى من الجهة اليسرى، الموشك على التقاعد، وحده لا ينكرك، بل تراه يتشبث بمعرفتك، ويلبي الطلب بسلوك الشخص الودود، العارف بقدر غربتك في زمن تولى أو يولي وهو فيه علامة، نصب قائم في عُتوِّ الأيام تعصف بالأجيال التي تمر من هنا وهي لا تخفف الوطء. حضورك أمامه، وإلحاحك في طلب قهوة يعلوها زبد فاغم يكاد يبدو له الدليل الوحيد فالقاطع على أنه عاش هنا حقًّا، طبعًا بالإضافة إلى رقمه في الضمان الاجتماعي، زيادة على تجاهله المحمود لمن يطلبون مزيدًا من السكر لقهوة نكهتها مسكرة.

التفاصيل هي بعض غنى العالم، وأنت هنا جالس تلهو بها وتتسامح إذا أحسستَ أنها هي ما يلهو بك في مثل هذه المدن التي شاخَت وتحَوَّل الزمن فيها إلى أطياف مَسكونة بأرواح مَن قَضَوا أعمارهم عاشقين لها. لا ينتظر أحدٌ أحدًا. لا ينتظر إلا نفسه إن هي لم تخالف الميعاد، وتضيع في أحد المنعطفات. الحقيقة أن موعدًا لي كان مضروبًا مع عبد الرحيم لمحمدي، أو هو بالأحرى إمكان اتفاق على لقاء في السابعة، في هذا المقهى بالذات الذي أصبح بمثابة «الزاوية» عندي، يزورني فيه مَن يشتاق إليَّ أو يريد التعرُّف على عاهاتي الجديدة.

عبد الرحيم لمحمدي لم يحضر للموعد بعد أن «اعتقله» أحمد السنوسي في شارع المونبرناس، وألزمه بالمرابطة في مقهى «السليكت»، لاستكمال تفاصيل الفرجة القادمة التي سيكون مسرحها «أربعاء بروكسيل»، و«خميس أمستردام».

هبطت غشاوة الليل الأولى، فإما أن أغادِر لأنال حِصَّتي من الحَساء الثقافي الفاتر، المُعَد هذه الليلة، لبرنار بيفو، أو يصطادني واحد من الكهوف السِّرِّيَّة التي ما تزال تُغري بالحياة هنا. وحسمتُ أمري بالعودة حفاظًا على صحتي وعافية جيبي، أيضًا. كان بوسعي الرجوع مشيًا لو شئت، ولكني، ولأمر ما، هبطتُ مترو السان جرمان وقد انقلبَت الخطوط في دماغي دفعة واحدة. من هنا سأتوجه إلى محطة شاتلي إذا أردتُ أن أُبدِّل نحو أي اتجاه آخَر. لكني لستُ بحاجة للتوجه إلى هذه المحطة، فضلًا عن عدم توفُّر أي قصد للتبديل. إنما وقد نزلت إلى المحطة، فقد قُضِي الأمر، وأية أهمية للتفكير في الاتجاه الصحيح ما دمتُ مقتنعًا بأني أضعتُه منذ وقت بعيد، وما أفعله الآن هو مراوحة في الذاكرة. السيدة التي جاء مقعدي إلى جانبها في الطائرة سألَتْني أن أساعدها لدى النزول، وإذا لم يكن من مانع أن أصطبحها معي في التاكسي الذي سأستقل؛ لأنها لا تعرف هذه المدينة، فأجبتُ ألَّا مانع من المساعدة، بينما سيصعب عليَّ تلبية طلبها الثاني. تساءلت: مَعذرَة، هل من مانع؟ فأجابت: آهِ، طبعًا بل هو عائق، لهذه الدرجة!

– أوه، أكثر مِمَّا تتصورين.

– كيف؟

– إن لي قريبًا صعبًا بالمرصاد ينتظرني عند النزول، وأنتِ هل تريدين العودة إلى الوراء؟

– كيف، مرة أخرى؟

– طريقي غير سالكة فأنا جئتُ لزيارة ماضيَّ، ولذا سأحلق مثل الطير. هنا فهمت السيدة أنها تخاطب شخصًا أقرب إلى الخلل منه إلى عقلها، فكفَّت عن الكلام النواح. بحركة آلية قفزت إلى أول عربة في المترو، وقفت حيث أقف عند الرصيف. فتح الباب أوتوماتيكيًّا وبعد ثوانٍ انغلق دوننا، كنا ثلاثة. بعد دقائق معدودة وصلنا إلى محطة شاتلي. هنا لم يَعُد لي مجال للتردد؛ أي لا بُدَّ أن أحسم أمري باختيار جهة مُعيَّنة أو سأبقى هنا أدور في المتاهات الشائكة لهذه المحطة الشاسعة، وَيحسَبني كل راكب أو عابر بأني ضائع، وهذه قد يَتبَعُها سين وجيم مِن صداع.

لا ليس أنا من سيتَعرَّض لهذا المصير، ففي المترو الباريسي العريق ما أكثر ما يحدث من مفاجآت! بل هو مسرح المفاجآت، قفزتُ من العربة إلى الرصيف، قفَز معي آخرون. نحن نزلنا. وبين فتح باب العربة وانسداده كان آخرون يركبون. وأنا أُدير في دماغي فكرة الاتجاه الذي سآخذ، اضطررتُ للبقاء واقفًا في مكاني أمام القاطرة، وعلى أهبة التحرك لاحظتُ أن سيدتين تقفزان إلى الداخل قفزًا … وكان هو وراء الثانية يحاول أن يقفز خلفها، لكن الباب الأوتوماتيكي انغلق فبقي هو في الخارج، بينما الحزام الذي يُطوِّق رأسَه يدُه في يَدِها التي انفلتَتْ منها وقد باتت في الداخل.

صرختُ كالملدوغ: Attention, le chien كانت صرخة مُدوِّية، مثيرة، هائجة وفزعة أيضًا. فما زالت صرختي تُدوِّي وباب العربة انغلق على الحزام والقاطرة سَتتحرَّك ت … ت … ح … ر … ك. قلتُ إن جسمه سيتطوح في الفراغ، بعد ثوانٍ سيرتطم بجدار النفق، وستستحقه العجلات. انقض مسافر ذو سحنة أجنبية على صرختي فارتمى على الباب، ارتميتُ إثره، صِرْنا كُثرًا ارتموا يجذبون الحزام جذبًا عسى أن يُسْحَب من بين ضلفتي الباب الملفوفتين بالمطاط، وحين نجحنا في مشروعنا كان المترو قد غاب في النفق وأمامنا الكانيش الذي قُدِّر له النجاة على أيدينا، لكن أي نجاة هي والمشكلة ستبدأ الآن فقط، راح الكلب يُنَهْنِه ثم ينبح ثم يبكي كطفل أضاعَتْه أمه في الزحام. كنا أربعة مُتحلِّقين حوله: فتاتان والأجنبي وأنا، بيني وبينه سيحدث صراع سِرِّي حول «بطولة» هذا الموقف: هل صَرْخَتي التي نَبَّهَت إلى الكارثة أم مبادرته العملية لتفاديها؟ أما الفتاتان، وواحدة منهما سأعرف أنها زوجته أو رفيقته، فقد كانتا تتبرعان بالأسف والحسرة على مصير الكانيش. فعلًا، لقد صِرْنا في مشكلة لا يخفف منها سوى احتمال عودة صاحبة الكلب بمجرد وصولها إلى المحطة الموالية (لي هال) لاسترداد حيوانها. قلنا جميعًا إنها حتمًا ستفعل، فوقفنا نترصد المترو القادم من الجهة الثانية. وبما أنني كنت الشخص الوحيد الذي رأى بأم عينه الفرنسية صاحبة الكلب، فإن عُنُقي صار أطول من الجميع.

والآن، دقائق، أي ما يكفي من الوقت لالتحاق الصاحبة ووصلتْ أول قاطرة من اتجاه (لي هال)، نزل الركاب ولم تنزل هي … قلنا ربما القاطرة الثانية، وأكيد أنها في حالة يُرثَى لها، فلنتريث ولنخفف على الكانيش الذي يواصل البكاء هولَ ما نزل … ووصلت القاطرة الثانية ولم تصل هي فعانقت الفتاة الأولى الكانيش وهي توشوش له بدفء: يا حبيبي، وقلتُ أنا أيضًا، هكذا في الهواء: يا حبيبي، ولم أكن أعرف حقًّا مَن أخاطب، توالى وصول القاطرات والسيدة البيضاء لم تظهر ونحن كنا جميعًا سُمرًا والكلب أشهب، والكلب استكان إلينا أخيرًا، ونحن نقول إننا لا نعرف ماذا نفعل به، وقلت من جانبي: إن كنيشي الأسود «الدكتور طانغو» لا يقبل الشريك، وهو سيد في حديقته، وقالت الفتاة الأخرى القمحية، ذات اللكنة البرتغالية، بأن سَكَنها ضيق، وقطتها، شريكة حياتها، صعبة المِراس … وفكَّرْنا أن المسكين ضاع وقد أضاع أمه وأنهكه النباح فبدأ يبكي بصمتٍ، وعادت: يا حبيبي، يا حبيبي … وقلنا: هذا الكلب صاحبته لن تعود، ونحن نعرف أن الفرنسيين يتخلون عن كلابهم بأي طريقة قبل العطلة، لكننا لم نَستسِغ بتاتًا أن تَتخلَّى عنه تحت عجلات المترو، فنالت منا هي وسلالتها والفرنجة كلهم جميع شتائم الأرض … وقرَّرْنا أخيرًا أن نحمل الكنيش إلى إدارة مترو محطة شاتلي، فأخذنا نتنافس في حمله ونحن في الطريق وأُسْقِط في يدنا أن المكتب مُغلق، فالساعة العاشرة ليلًا، ياه هكذا مر الوقت … وظهر كالملاك حارس رَسمي بالمحطة وبيده الطولكي وولكي، فالتففنا حوله: هاه، عندنا مشكلة، هاه، هذا الكلب صاحبته … هاه، وجدتم الكلب إذن، إن صاحبته اتصلت بنا من محطة (لي هال) قبل قليل تسأل عن مصيره … ربما قبل أن يُغمَى عليها.

في واحد من مخارج محطة شاتلي تَوادَعنا فرحين، مبتهجين بهذه النهاية السعيدة. في نقطة الصعود من القاع إلى الشارع رأيتُ أمامي حشدًا وسمعتُ جَلَبة. كان رجال الشرطة يصنعون حاجزًا وهم يطلبون الأوراق من الخارجين. اثنان منهم يمسكان بإفريقي يفركل بينهما وهو لا يكف عن الصراخ: ولكنها ضاعت، أوراقي ضاعت، وهما يجيبانه: وأنت، أيضًا، ضعتَ. هنا صحوتُ تمامًا ودفعتُ يدي إلى جيبي لإثبات هويتي، وأنا أخشى أن تكون قد ضاعت حقًّا … وللضياع بقايا.

١٠ مايو ١٩٩٧م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥