ما أجمل «أحبك» باللغة العربية

الولد الذي عرفت في طفولتي كلما قابلته وجدته مُمدَّدًا على عشب ذكرياته يرعى فيها زهيرات ما زالت يانعة من طفولة مغرقة الآن في البعد. كبر وطاف في الأرض، وازدانت حياته بين الفتيان والقيان، ولا شيء يعمر مخيلته، كما يسكن لياليه، مثل تلك الوجوه الصبية المقمرة في سماء وإن أضحت بعيدة إلا ما أقربها إليه أكثر من حبل الوريد، وأوهجها، أبهجها تعوض ما بات في العمر يتصحر.

جميع مدن الباء مغرية وأغراها عنده برشيد، جوهرة الشاوية. في نطقه وصمته تنبت على شفتيه وردة، وفي ممشاه تسري عبيرًا. ما بالها طفولتي؟ قال لي، أشد فتكًا بي أنا المفتوك به في سائر الأيام. طين البراري خضاب يُزَرْكش أعلى الكاحل، ومن المعصم أوردة الحناء دلقة، مزغردة، أما وجهها كالندی حیاء، كالشمس آيلة للغروب، فمن هي یا ابن روحي؟ من تكون هذه الغواية، الفتاكة يا سليل طفولتي؟ صُوَرها تتتابع في الانفلات. لا يستجمعها غير الهروب المضطرد، غير تَلاحُق الأنفاس تتلو سباق الظلال. أكيد أني رأيتها، أكيد رؤيتها لي، ومُؤكَّد أن أحدًا لا يستطيع الجزم بثبوت الرؤية؛ لأنها كانت تتم خلسة، وقد تبعثرت النظرات في أحشاء البلدة وأطرافها كفرط الرُّمَّان؛ قُبلة للأرض هنا، خشعة مع الطين هناك، وحين يأتي الربيع نتسلل إلى الحقول نتغطى بقامات السنابل قبل أن يقصفها الحصاد، نحن الذين هربنا ألوان شقائق النعمان إلى أحلامنا، لم نجد لها غير هذا الفضاء حرية وفُسحة لتبقى الحمرة القانية على خدها البريق الذي اهتدى به طريقي، قال صديقي، نحو مدينة الباء الأولى، فتنتي ووبائي.

بلدتي قال: أسترجعها في لغتي، في غمغمة أولى هي مَصَّة الرضاع، طفر الحليب من صدر أمي. راري راري يا سكَّات الدراري، فينحني رأسي على وسادة حنان دافق بالكلام انحناء سوالف الضاوية الفقرية على ثدييها العامرين يندلقان في تأجج نظراتي إليهما وهي تجفف «بوس الدار»، وأنا أشتهي ولا أفهم، بينما فَمِي عامر بالكلام الصامت، الكلام القادم من تلك النوايل الخلفية في دوار أولاد امحمد، وصرير عجلات الكرويلة يقطع صمت الطريق إلى القصبة في عز الصيف. تسمع الأهازيج محمولة بين الشطيح والرديح، أقول لك: هذا ما سمعت، لا تخف على أولاد حريز، فالزهو ولقصارة عندهم شأن ومرشان، وإذا كذَّبْتَني اسأل عن أولاد برشيد!

هكذا يسهب لسانه ولا يشفي؛ لأنه يرى اليوم عجبًا: لساني جرَّ عليَّ كثيرًا من البلاء ولم أَخُنْه. حدث ذلك للمرة الأولى في تلك البلدة التي أصبحت اليوم مدينة. كنا في فجر الاستقلال وأنا في المدرسة مع أقراني. استدعاني مسيو أوبلي، المدير الفرنسي العملاق وأنا لا أفهم، بالغريزة توَجَّستُ شرًّا، لم يكن عندي أي قلق من جهة الدروس، فمعلمنا الفرنسي الآخَر كفيل بهذا الأمر. ما إن دخلت إلى مكتبه حتى عاجلني بصفعة لمحتُ على إثرها البرق في عيني وأتبعها بوابل من بصاق وهو يعلق: والآن عليك أن تكفَّ عن الكلام بالعربية في القِسْم أو أن تذهب لتسرح الغنم مع «لي زاندیجان». في صباي كانت أمي تراريني بالعربية، وفي الليل أحلم بالعربية وصراخ كوابيسي أيضًا، فكيف يفهم؟!

حين رويتُ الحادث لأبي الذي عرفتُ فيما بعد أنه من الوطنيين هوَّن عليَّ، طالبًا مني ألَّا أنسى في حياتي ما حدث وإلا نسيتُ نفسي وهو هلاكي، ثم أضاف: إنه يريد منك أن تصبح من أولاد فرنسا وهذه مُهمَّته هنا، أمَّا نحن فلنا مهام أخرى. فهمت ولم أفهم جيدًا. بعد عمر طويل وعيتُ الحادث. لم تكن عندي أي عقدة مع هذه اللغة في ذاتها، بل هي سلاحي ضدهم، ولكني بقيتُ أستغرب كيف يرطنون بلغة لم يرضعوها مع حليب أمهاتهم، وفي بلدتي سمعت عن المتعاونين مع الاستعمار والخونة، ووعيتُ بعد ذلك أن خيانة الوطن أنواع ومنها خيانة اللسان، حين أراهم اليوم، الآباء والأمهات والأبناء، وهم «يُزَقْزِقُون» بغير لسانهم أقول مَن هؤلاء؟ وأتساءل ربما هم بهلوانات تخلى عنهم صاحب السيرك كسَقَط المتاع فبَقوا هنا لا يعرفون أي وجهة يأخذون. نحن في أرضنا رغم أنف المسيو أوبلي وصنائعه.

لم يكن شجن هذا الصديق جديدًا على مسمعي ولا فريدًا من نوعه. تَلقَّيتُه مرات. أحيانًا بمرارة وأخرى بضرب من التَّعوُّد المستسلم، فالذين سرقوا ويسرقون لغتنا وهويتنا وأحلامنا مندسون بيننا، عالقون بجلدنا ويَمصُّون دمنا وكأنهم ليسوا من دمنا. نجالسهم ونعاشرهم، والدنيا هانية كما صرنا نقول، ما هي في الحقيقة بالهانية، ومن أراد الدليل، فعندي منه بالعشرات وأكثر، لكني أكتفي بواحد، واحد فقط يؤكد مرة أخرى لمن يحتاج إلى تأكيد كيف أن الغربة لا تعاش في بلدان الناس وحْدَها، بل وداخل الوطن الواحد، كيف أنك فيه لتحس غربتك أو تُعايِش بشرًا منه هم في الواقع غرباء عنك أو ربما عَدوُّك، بمنطقهم الخاص وابتزازهم لنوع من الوطنية العرجاء، غريبًا عنهم.

كم الدليل: قبل شهر استدعت القناة التلفزية الثانية، المعروفة عندنا باسم 2M الزعيم الوطني الأستاذ امحمد بوستة الأمين العام لحزب الاستقلال لإجراء حوار معه في برنامج معروف (وجه وحدث) ومساءلة الصحفيين له حول جملة من القضايا الوطنية والرهانات العاجلة، خاصَّة وأن حزب الاستقلال عضو أساس في هيكلة الكتلة التي يعلم الجميع كم هو مُعوَّل على حضورها وبرامجها للانتقال إلى مرحلة التناوب الديمقراطي المنشود. وقد أجاب القائد السياسي — الذي تبوأ المكانة اللائقة به في الحزب بعد رحيل الزعيم الوطني الكبير علال الفاسي — على ما طُرِح عليه وأمامه من أسئلة وملاحَظات بصراحة معهودة منه وسَجِيَّة في القول حدَّد فيها كثيرًا من عناصر ومُكوِّنات خطابه السياسي، وكذا ما يُسمَّى بالخطوط العريضة للبرامج الإصلاحية اللازم إنجازها غداة استكمال الاستحقاقات النيابية المرتقبة.

مرَّت الآن أسابيع على هذه المقابلة، وقد لقيَتْ صداها المناسب أو غير المناسب في ظرفها الزمني، ولكن شيئًا واحدًا، سؤالًا واحدًا جاء له الجواب الحاسم والقطعي أثار النقع منذئذٍ، ولا تزال الحركة (بتسكين الراء) قائمة بسببه إلى اليوم، وما أظنها ستتوقف ولله عاقبة الأمور!

أصل الأمور أن صحفيًّا من أسبوعية اقتصادية بيضاوية هي la vie économique وجَّه للسيد بوستة سؤالًا في صيغة استنكارية عمَّا يعتبره كوارث جَرَّتْها على التعليم في بلادنا سياسة التعريب، وتحديدًا في فترة وزارة أولى تَقلَّدتْها شخصية استقلالية. ويفهم من كلامه، أيضًا، أن التعريب، وهو سيادة اللغة العربية في تعليمنا ومُؤسَّساتنا ومعاملاتنا، آفة ما أنزل الله بها من سلطان، وشذوذ في الطبيعة المغربية التي والتي …

كان السائل للوهلة الأولى يعتقد أنه سيُحاصِر وجه البرنامج بسؤاله «الخطير» و«الماكر» ذاك، أو أنه سَيبتَزَّ منه اعتذارًا يرى اللَّفِيف الذي يصدر عن لغته وثقافته أنه سيكون بمثابة العودة إلى الرُّشْد والكف عن التمادي في الباطل (العربية والتعريب باطل)، كان المُستجوِب ينتظر ذلك ويتوقَّع أكثر، ولا ضير عليه؛ فكلُّ إناء يرشح بما فيه. أما نحن النَّظَّارة المغاربة العرب (ونحن عرب وبربر وبربر وعرب ونسيج متمازج) فكنا في موقع توقُّع آخر تمامًا، وإن شئتم فهو مختلف جذريًّا عن توقُّع السائل، ومنسجم كلِّيًّا مع منطق وعقيدة واقتناع وتاريخ المُرْسَل إليه، هذا الأخير الذي حَبَّذ الالتزام بمبدأ التعريب والمُضِي به قُدمًا في كل الأطوار والميادين، ودفع كل مُساوَمة أو تنازُل من هذه الناحية.

ومضى البرنامج ككل البرامج التي تستهلكها الصحافة، ولكنه ليس المُضِي الذي يطويه النسيان أو يغيب باختفاء الصورة عن الأنظار، لا، بل هي الكارثة بدأت، ونار حرب أوقدت منذ انطفأت أضواء البرنامج المذكور. لقد قامت الدنيا عند أولئك الذين نعرف ولن تقعد. فمنذ الاستقلال — دعك من قبله — وهم يحملون السلاح، ويجلبون الذخيرة، ويضعون «الأشبال» في مواقع مَن يسقط منهم في «ساحة وَغَاهُم» ولا أحد من السذاجة بالقدر الذي يتوقع فيه أنهم سيلقون السلاح قريبًا. لا يحسبن أحد أني أخاطب أعداء أو أُلوِّح بأية لهجة «حربية» فنحن أعرف بحروبنا وإن وجب الاعتراف بأن الأعداء تَشابَهوا علينا تَشابُه البقر على أسلافنا من أبناء ديننا الحنيف واللسان العربي، وها هم يُناصبوننا العَدَاء جهارًا، وينعتوننا بالشعبويين والمُتخلِّفين عن منطق العصر (كذا)، المُتشبِّثين بماضٍ زائل (كذا)، ومن أراد الدليل أُحِيلُه إلى الإصدار الأخير للأسبوعية البيضاوية المذكورة.

ففي عددها المؤرخ ﺑ ١١ من الشهر الجاري تخصص النشرة الاقتصادية (عجبًا) ملفًّا عن موضوع «التعريب»، ولكيلا نُنعَت بالتخلف ينبغي أن نُقِرَّ بأن للصحافة أن تحرث في كل البحار، ومنه بحر التعريب اللَّجِب، وهو ما حصل بالتقديم، والمقالة والتعليق، والاستجواب، واستفتاء آراء مختلفة، وهو جميعه مما يستطيع القارئ إنْ رَغِب العودة إليه في المصدر إياه. ليست بُغْيَتنا الانخراط في ردود قد تطول أو سِجال هو المراد على ما أظن من هذا الملف. فإننا نفهم حوافزه كما «نقدر» ما جعل أصحابه ينفخون بأنفاس حارَّة في رماده أو جمراته. ليعذرنا الجميع، فنحن لن نزيد في الطين بلة. إنما لا بأس أن نطلعكم على بعض الاستخلاصات «الكبرى» لواضِعي الملف المَعنِي، إن السيد بوستة عندهم، بما قال، أي بدفاعه المستميت عن التعريب وتَبنِّيه للغة الوطنية، ليس أكثر من شخص شعبوي أو يحصد في المجال الشعبوي، وهو ما يعني الشعبي المبتذل، المُبَسَّط حدَّ السذاجة. الدهمائي إلخ … وطبعًا، وبالمقابل، فإن أصحاب الخطاب الآخَر هم الذين يفهمون الشعبية الحقيقية، ذهنيتها وروحيتها وقوامها التاريخي حتى ولو كانوا قد تَربَّوا خارج أكنافها، ولا يعرفون بأي لغة تُصْدِر الحامل أنينها وهي في المَخاض، أو أية فجائع تُردِّدها أمٌّ ثَكلت ابنها، فكيف بالأهازيج وأغاني السقي والحصاد؟!

والحق أنك لا تملك نفسك من العجب حين تجد المناهضين لسيادة اللغة الوطنية اليوم يَسوقون الحجج والاعتراضات ذاتها التي كان اللسان الفرنسي يُفرقِعُها أمس لتفكيك الأواصر التاريخية للمجتمع المغربي، وشَرْذَمَته لغويًّا وثقافيًّا لإحكام السيطرة عليه. ونحن لسنا في حاجة إلى «الكشوفات العجائبية» الخارقة للعادة، أليس كذلك(!)، بتعددية نسيجنا العرقي واللغوي والثقافي والعقائدي (عرب، بربر، زنوج، يهود) لكي نفهم ونعي ذاتنا الوطنية المُركَّبة، ولكي نقر طواعية أو على مَضض بأن الأصل والصواب لَيْسا هما التعريب ولا التمسك بالعربية، كمظهر من مظاهر الهوية الوطنية والقومية، بل هي التعددية اللغوية أي أبعد من الازدواجية.

إنه في الحقيقة خطاب يريد اليوم، شأن الأمس، أن ينفينا خارج لغتنا، فضلًا عمَّا يطبعه من نبرة استعلائية تتهمنا بالجهل وعدم فهم منافع اكتساب لغات وثقافات أخرى، خاصَّة، أجَلْ خاصة وعصر العولمة يَدقُّ بعنف كل الأبواب. فهل لغة القرآن الكريم، والمتنبي، والجاحظ، وأبي حيان التوحيدي، وابن خلدون، وابن رشد، وطه حسين، وأحمد المجاطي، تصلح في شيء لجلب المستثمرين والصمود في عصر العولمة، أو لغة صَحيفَتَي «يديعوت أحرونوت»، و«معاريف» الإسرائيلية هي الأقوى والأجدر بهذا العصر من اللغة «المنقرضة» التي تصدر بها صحيفتا «العلم»، و«الاتحاد الاشتراكي»؟!

هل تعلمون بعدَ هذا وذاك أن الغيورين الجدد على إصلاح التعليم في المغرب، ومستقبل مجتمعه واقتصاده، يعتبرون التشبث بالعربية (قل العروبة في الحقيقة) ضربًا من السَّلفِيَّة والحنين إلى الماضي الذهبي، ماضي العرب «الزائل» وعنادًا في التعلق بالفكرة القومية، هذه التي يرون أنها أثبتت فشَلَها في كل البلدان العربية. أخشى أن يقولوا إن المغرب ليس واحدًا منها، وهم يريدون بتر لسانه العربي.

سأكتفي بهذا القدر؛ إذ رغم أن الحرب عوان، فالعرب الأصلاء لا يُحارِبون الأشباه والأشباح والمُستنسَخِين أو المُسْتَنبَتِين على طريقة نعجة (دُولِّي)، فحربهم الحقيقية على الأنداد لا مع «صوت معلمه»، والأصوات المستعارة شِنْشَنة نعرفها من أَخْزَم، وإلى أن يتوصلوا لفهم هذه العبارة التي تنتمي إلى ذلك الماضي «الزائل» أسألهم سؤالًا واحدًا، بسيطًا، عميقًا وجميلًا في آنٍ: هل جرَّبْتم مرة واحدة أن تقولوا «أحبك» باللغة العربية؟

١٩ / ٥ / ١٩٩٧م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥