الديمقراطية في … يوم مشمس

(١) اقتراح الصيف

لسنا في الصيف بعدُ، وهجم الصيف. اقترحَتْ عليها الشمس أن ترفع تَنُّورَتها أعلى قليلًا فوق الرُّكبتَين، ولم يكن حياءً منها أنها لم تَرتدِ البنطلون القصير، كل ما هنالك أنها أرادت، وهي تريد فعلًا أن تُحسِن تدبير المباهج القادمة: أوَليستِ الشمس اليوم هي الغمر والدفء يتغلغل في الجسد حتى ذلك المقام؟ الوجه وضاح والصدر مُنشَرِح، والنداء مُتراوِح بين زنابق تستهوي العين، وتفلت من بين أي أصابع مَسَّتْها هي الغَوَّاية.

وفاض انشراحها، أيضًا، على ما حولها، فجاء الفَراش الأبيض الذي كان يتطاير حائرًا لِيحُطَّ على خصلات متناثرة من شعرها، وأحيانًا يعابثها وهو يرسم حولها دوائر تدخل فيها وتخرج وما تنفك تدخل، وهي تحاول ألَّا تفكر فيه، فيما حدث لها وما لم يحدث، في لا شيء تقريبًا أو هذا ما يريد. أن تكون هي ولا شيء آخَر قبلها أو بعدها أو إلى جانبها، في ضرب من الحياد المُطلَق يُوحِّدها مع جسدها ليجعله سكناها الوحيد، بلا منازع. عندئذٍ ستسترجع شَرْط وجودها الأول ككائن حيواني مَشحون بالرَّغْبة، طليق، قبل بدء تاريخ القُيود والشرائع وليس للكلام عندها من معنًى، ما دام الصمتُ لُغتها ودليلها الناطق، وهي تضرب في أرض دهشتها الخاصة، لا أحدَ قَبْلها أو بَعْدها أو إلى جانبها.

إنما لا بأس أن تُوجَد الأشجار، وحقل العشب الممتد بين شرود مُقيم ونَشوة مُتوقَّعة. هي متأكدة بحس التجربة أنها حين تفيض تَتألَّق زُرقة السماء مع زُرقة ماء هذه البحيرة، الآن، في غابة بولونيا جنوبًا غير بعيد عن الباغاتيل، فتقفز إلى الماء لتَتلَوَّى فيه سابحة كالسمكة قبل أن يقنصها شِبَاك الذِّكْرى. انتبهت فجأة أن دوائر الفراشة المرسومة أمامها بتعاقُب هي أفخاخ الذكرى، هي حَبْل السُّرَّة زَعمَت أنها قَطعَتْه من تلك الجلسة، مع الجسد الآخر، وظهيرة ذلك الصيف المُتوَقِّد حين تَوقَّف بهما الخُطوُ عند مَدخَلِها تاركًا أصابعه تغوص، وهي تحس أن جغرافية جسدها تَتمدَّد، تتسع ملء الصعود والهبوط بين الأرض والسماء.

وها هي الآن تتصبَّب من العرق، والطريق التي تمشي فيها مُمتدَّة لسانًا من فَحِيح. وأدركتُ أنه أدركها من جديد، لا فِكاك لها منه، وفي كل فصل لذكراه شكل. وفي أول صيف له بباريس تواعَدا في «بارك مونسوري»، قُبالة المدينة الجامعية، مثل مُحبَّيْن أو مُتقاعدَين. أخذَ يدها بيده كصديقين قديمين وظلَّا يمشيان، يمشيان إلى أنْ بَلَغا الباغتيل، قريبًا من البحيرة. هناك خَلَعا جسديهما وغطسَا في الماء. لا، لم يكن إلا مطلع حبهما ثم تأجَّج العمر، وهو يتدحرج. غاب عام وعام آخَر، عُمْر، وصار في سيرة الغياب. وها الصيف جاءها كما في ذلك العام، يدها في يده الغياب، والشمس تشهق في مسامها تلهث … نشوة.

(٢) محاولة فهم

حين استيقظ الأحد (٢٥ مايو ١٩٩٧م) ألْفَى نفسه مُمدَّدًا في فِراشه القديم؛ أي على السرير ذاته الذي لم يرغب في تغييره منذ عشر سنوات على الأقل. بدَّل بلدانًا وعناوين ووجوهًا لم تعد تصلح لوجهها، خرائط انضغطت فيه وخلفه، المسافات انطوت، والأعوام تلاحقت ينهك سيرها بعضها البعض، وتَعتَصِر العمر اعتصارًا، وإن بقي الشغف هو، هو، وصورة أول عام في حياة المرء مثل صورة أول مكان جدير بالاسم لا تَتبدَّل. لم يشأ اختلاس النظر إلى الساعة وعاد ينحشر تحت اللِّحاف. لم يكن ذلك كسلًا منه ولا رغبة في جَلْب نوم لم يشبع منه أبدًا، وإنما كان شيئًا مُستعصيًا مثل الهبوط إلى قاع بئر أو الدخول إلى سرداب عميق للتَّنفُّس في حلم طفولة هاربة، مزيج من وجه مُدوَّر كبرتقالة، ونَمَش أصهب، وحَقْل قمح خَلْف السكويلة منتشر قبل الحصاد.

وفي الليل سطيحة لا يصعد إليها إلا الجن والأطفال العفاريت، والأصابع تجس الباكور النابت على الصدر فيما يَد أخرى تَمتدُّ إلى نجمة كأنها دانية لتقطفها وتهديها إليها مثل زُمرُّدة لم تَرَها من قبل، ولا تَلمَّسَت الطريق خارج هذه الطريق الوحيدة تعبر القصبة عربات كارو وسيارات نقل مَعدُودة، ذاهبة كلها على ما تسمع إلى المدينة. ما المدينة (ما) البشر المزدحم فيها، ما البحر، ما الباخرة تمخر عبابه، من أنت وقد خضت البر والبحر مسيرة عقود، وألقيتَ بنفسك إلى التهلكة؟

قفزت من الفراش مذعورًا على إثر يد تجس جسمك تحت اللحاف، رَمَيْته فزعًا، مُنتفِضًا، صارخًا: ماذا؟ مَن هنا؟ كانت هي، امرأة شقراء لم تألف لونها ولا رائحتها. تراجعت عقب صراخك فزعة ومُحْتجَّة باستغراب: ولكنني أنا، «كلير Claire» لا أحد غيري، أم إنك نسيتَ؟ بعد هذا العمر الطويل وتنكرني! ولم تكن قد نسيتُها أو أنكرتُها وَحْدَها. فأنتَ تنكر نفسك ولا تفهم ماذا تفعل هنا. متى جئتَ إلى هنا للمرة الأولى، ولا كيف غادرت ذلك الحقل خلف السكويلة أو تلك السطيحة تحت النجوم. وقالت إنك لستَ محمومًا فما مصدر هذيانك، ولا هو الحنين إلى الوطن لأنك عدتَ منه قبل أيام فقط، وقلتُ إنه تلاشى تقريبًا في بعض الحسابات والجيوب، وذكرت لي بأن واحدًا من أصحابك، ممن لم يُبدِّلوا وجوههم بعدُ، نصحك بعدم العودة؛ لأن جميع الأماكن محجوزة. ومِن بعيد جاءك صوت آخَر، من بيتها، من رائحتها السمراء، من لحمها: أنا فِراشك ولحافك، أَشهَقُك وأَشمُّك، تجيء، تَرُوح، أنت لي، لن يأويك أي مكان غيري … وقالت كلير آمِرةً: كفاكَ نومًا يا حبيبي، فوراءنا غداء عند «لي مونيي» في «فونتين بلو» ماذا؟ أي نعم … ولم أفهم!

(٣) لغة الشمس

باريس متبرجة يومها هذا كما لم يعرفها من قبل. يكفي أن تشرق الشمس ليزدان العالم، أما إن ضحكَت فهاك الوجوه الطافحة بالبشر، والأجساد تنطق عندها بعري فصيح، وجميع اللغات تَتوحَّد في استرخاء لذيذ لا يبغي إلا باحةَ مَقهًى أو مطعم مع أقداح باردة وشرائح نكهة. الشمس هنا تحدث، فإذا حدثت، فهي مثل المُظاهرة تجعل الشوارع، والحدائق، والساحات تمتلئ، مُظاهرة ضخمة ليست من تنظيم أي نقابة عُمَّالية أو بإيعاز من أي حزب سياسي، بل الغريزة الكامنة تحت طبقات السُّحُب الرمادية، المنضغطة بالأرض شهورًا طويلة، هي التي تُنظِّمها لتَتفجَّر برغبة البهجة وبهجة الرغاب. أما شعاراتها، فهي الحسناوات يَمشين متهاديات، واهبات أنوثتهن لرغبة الشمس المفرطة.

ورغم أنه قَدم من بلاد الشمس فيها تَفيض أشعتها وحرارتها عن الحاجة، فإنه وَجَد نفسه مع توالي الأعوام يَتعلَّم هنا مَواسمها، ومزاجها ولغتها، لو جازَ له أن يقول ذلك، فلها كلام هو الدفء، ونَبذ القنوط ومغادرة الداخل ذاتًا أو فضاء بيت أو عمل إلى الخارج الذي يفقد تدريجيًّا التقنين المفروض عليه لتصبح كثير من المحظورات المُتَّفق عليها كذلك مُباحة، والحق أنها قليلة تواضَع على صنعها الناس وهم قادِرُون على كسر هذا التواضع بإرادة يَملكونها، وليستْ مفروضة عليهم بأي حال. فإذا أَشرقَت الشمس وسَرى الدفء في الأبدان راقَ المزاج وأصبح كل شيء ممكنًا. لم يكن هو يفهم في البداية، كلما عاد من هناك أو قال إنه ذاهب إلى هناك، كيف يَغبطونه؟ على أي شيء، يا ترى؟ على الشمس طبعًا cher monsieur تقول حارسة العمارة أو نادل المقهى، أو يا collegue يقول زميل الجامعة الذي يحلم بالفكاك من أدب العصر الوسيط ليرتمي بقية العمر على تلك الرمال الذهبية.

وقد كان عسيرًا عليه أن يُفْهِمَهم بأن الشمس هناك لوثة، آفَة، مَبعث للاسترخاء والكسل، مثل الوقت المَيِّت الذي يمر بلا حساب، ولا يُلْقِي له جُلُّ الناس بالًا كأنه ليس لهم، منهم، يسرق من حياتهم الذاهبة هباء. وفرة من الشمس إذن، من الوقت الفائض، من اللاشيء.

لكن هذا الأحد يوم استثنائي، إنه يوم الانتخابات التشريعية. وقد حسب أن المواطنين — إنهم مواطنون citoyens سيتسابقون من ساعات الصباح الأولى إلى مراكز الاقتراع. وكان قد ظنَّ في وقت من الأوقات، صار بعيدًا الآن، بأنهم مُضْطرُّون لذلك، كما كان يتوهم بأنه يرى رجالًا يَدقُّون أبواب البيوت يُوزِّعون الهدايا أو الوعود، أو يرى أمام عدد من المنازل ومداخل العمارات في حي سكناه طوابير لبشر مَدعُو لولائم روائحها فائحة. ولم يكن مِن ذلك شيء؛ لأن الصباح يمضي هادئًا، وأسواق الأحد المُخصَّصة لبيع السمك والخضروات والفواكه تَنتظم تقليديًّا، كالعادة، فيقتني الناس حاجتهم دون أن يتحدث أحد عن ذلك الموعد أو يكاد، فهو شأن فردي رغم أنه الشأن الجماعي. ولم يكن هو مَعنِيًّا بالتصويت في أي انتخابات هنا، لكن فضوله لم يمنعه من محاولة معرفة هذا الواقع عن كثب. وحين عاين مكاتب الاقتراع حسب أن المواطنين جاءوا للنزهة أو لحضور عرض فني وهم في كامل قيافتهم، ولا أحد من أي جانب يعترض طريقهم أو يهمس لهم بكلمة، أو يَتجسَّس على نواياتهم، أو ينظر إليهم نظرة تحذير أو ترهيب فهي أصواتهم وهم أحرار فيها، يُعطُونها لمن يشاءون، وبمن هم مقتنعون، عن خطأ أو صواب. المهم أنها غير خاضعة للمُساوَمة والابتزاز.

يوم الأحد هذا جميل أكثر من العادة. الطقس في نهاية شهر مايو مزاجي في باريس وضواحيها، وكذا في مطلع يونيو. قبل أيام فقط، كانت السماء مُلبَّدة بكثيف السحب، وبَرْد غادِر يُناوِشُك في الصباح من حيث لا تدري، مع ريح تترنح لها أعالي الأغصان. وقد عُدْنا نرتدي القطيفة، ويهرع الموظفون إلى أقرب حانة ليحقنوا أبدانهم بجرعات دافئة طردًا لبرد غاشم أو مُتوَهَّم. أما اليوم فطَقْسُه بديع، مُشمِس حدَّ الفرَح، وهو ما يدفع إلى التبرج والنزهة والاسترخاء في باحات المقاهي، ويشجع أيضًا على قُبَل وعِناق بالأحضان، يَطولان في الهواء الطلق.

وكان يومها وحيدًا، شارد اللُّب، لا يجد أحدًا يعانقه. وكان هؤلاء الناس حوله يأكلون ويشربون ويمرحون، وقد أدْلَوا بأصواتهم أو سيُدْلُون بها طَليقِين، أحرارًا، بلا حدود ولا قيود. هذا ما يحدث هنا عادة، فهم طليقون وأحرار.

أدلوا بأصواتهم وهم يخافون عليها، وانتشروا بعد ذلك في الأرض يأكلون ويشربون ويمرحون. أراد في لحظة أن يطلق العنان لخياله غير أنه سرعان ما ارتَدَّ ولجم هذه الرغبة. فلو فعل سيندم، ويَحْسُن به ألَّا يقول بأننا لم نُخْلَق لهذا، فهو لهم وَحْدَهم، هذا ترَف، سيزداد حزنه، سيبكي أكثر من البكاء التاريخي لأمته، سيندم، ويحسن به ألَّا يقول بأننا لم نخلق لهذا، فهو لهم وحدهم، هذا ترَف بالنسبة لنا، وتكفينا الشمس، أما ذلك الغيث الذي جاءه في مُنتصف ليلة الأحد فهو الغيث، وإليه الرُّجْعى غدًا في بقية من كلام. إذا سمح الحزن، ومُوزِّعُو حصص الكتابة والكلام ببقية.

 ٧ / ٦ / ١٩٩٧م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥