غزال المسك
(١) غزال المسك
«… هكذا تذهب إلى تلك اﻟ «فرنسا» وتنسى … كأن الذي بيننا شيء يُهان ويُنْسى.» وتدافعت، أم حسبت الريح تمحو، وقد عبرت إلى هناك في غفلة من نعاس عبيري؟ هكذا أنت يا الواعدني بخلود ذكرى البنفسج. وكانت جدائل الموج عند خليجها، تنفك الواحدة تليني أخرى، إثر سماع صوتها المُندَلق بين شِقَّي مروري العميق فيها، هي المخفورة في صمت بعيد.
لم أصدق، لم أكذب، فالكلمات مُنسابة وَحْدَها، لا فَمَ يرسلها ولا لسانَ بها ينطق. حين أسمعها أقبض عليها وأكتفي بها ولا تكتفي بغير العتاب؛ لأن الريح الخَفِيَّة تحت النعلين دائمًا ترج خطوتي وتطوح بي في الغياب. وماذا أملك من أمر الأجساد كالحدائق المُعلَّقة تحتي، والأعوام قد اصطفَّت كالمرايا تشعل في الشيب فتيل الكواعب، ويدي على مَلمسها مَبْسمها حنين مثل غيمة ماطِرة أو فَيء يأويني من هذا الهجير. ماذا أملك غير العبور العسير في دهاليز الأسرار، كم هو عذب سرك تحت شمس هذا البلد الفاضحة! لأمضي قُدمًا في ارتدادي إلى أُلْفَة تلك القبلة اليانعة، لم أَنَلْها، فأغدقيها، إذن، يوم الوحشة على رأسي الشاهدة.
في سديم مُزرْكَش بِعبَث الألوان، ماذا يبقى أو يعني ممَّا أنسى أو أتذكَّر؟ الريح التي نسيَتْنا هنا وتَمنَّعت على الهبوب، أم العاصفة الغاضبة ضد اتجاهها الصحيح، إلينا، أم القول المفرط في البلاهة والتَّهتُّك حد انهيار قانون الجاذبية، أم الوجوه مثقوبة الأشداق العيون فيها مَغارات الليالي الموحشة، والألسنة؟ ويْحَكم اللسان لا عظم فيه وكل ما فيه لعاب يسيل! أم المدن التي وُجِدَت للمدينة بيعت في مزاد هذا اللعاب؟ قيل، والله أعلم، من أجل مدنية جديدة يسودها القردة والدببة والفيلة وذوات الثدييات، وغدًا سيُرْجَم فيها كلُّ مَن يملك حِسَّ التذكر. يحدث هذا كله، هل تعلمين؟ وأنا لا أتقزز. أَحسُّني في خِفَّة شيء منعدم أو كان يذكو مسك الليل خلف سياجه يسهر المحبوب في سهاد الحبيبة.
أنا لا أتقزز؛ لأن سفالة العالم، وما في الأرض وهذه الأرض من قُبْح، مَرَّ من الجانب الآخر، من حيث تصدر «تلك الرائحة». فقط، سأزمجر قليلًا، إذا لم تسعفيني بتلك … وهذا كل ما في الأمر.
لا، هو بعض الأمر يا سليلة الغواني، في دمي دم لا تفنيه، رغم البعد غَنَّتْك الغانية … آه، سوف تأتي يا حبيبي … آه، سوف تجدني فتحت لك المدينة سلفًا لتدخل تحت الأبراج مُكلَّلًا بالبنفسج … آه، ولن تمضي لأني خليج الجنوب الذي جذبك من تلك اﻟ «فرنسا» كیف تنسى؟ ها نحن نطفئ جمر كل الرجال حتى لو كنت أنت المحال، وفيه الذي لا يُسمَّى كما نسميه في اللغة العارية، بين الرِّجس والرفد، شيء كما تعلم، آهِ، من حتى.
ولم تزل عيناك تنظران وتنتظران إلى أن يهل من الأفق غَزال المِسْك في وَثْبِه اللعوب كالمرتمي في فتكة زماني.
(٢) وبرشيد يداوي
ولمَّا كان الأولاد صغارًا فإنهم لم يفهموا أبدًا لماذا كانت بلدتهم تُعَيَّر بالحُمْق. هم لم يروا فيها ما يوحي بالشذوذ، لا في سلوكهم أو سلوك الكبار، أيضًا. ورغم أن أعمارهم الصغيرة، والفَتِيَّة، تسمح لهم بكثير من الرعونة والنزق إلا أن كل شيء منهم يبدو مقبولًا في حدود العمر، ولا يتنافى بتاتًا مع منطق الحياة في تلك المرحلة من أيام أولاد حريز.
الأولاد يذهبون في النهار إلى السكويلة الوحيدة في القصبة. يَتعلَّمون في الصباح الفرنسية وبعد الظهر العربية. يفطرون بضرب مسطرة الحديد على أيديهم من يد النصراني حقًّا أو باطلًا، ومع العصر يَتثاءبون حين يعتلي الفقيه المعروفي منضدة الفصل لا تفوته صلاة العصر. وفي الليل اجري عليَّ نجري عليك، وسواها من ألعاب العفاريت. من المؤكد أن سكانها ضرَبَهم، الله يستر، الجنون وأصبحوا لا يفقهون وراحوا يَعبثون. لو حصل شيء من ذلك مثلًا لخرج إليهم الباشا الذي لا يستطيع الذبَّان أن يقترب من سوره العتيد، ويكفي أن ترى لمَخازنية واقفين، والكلاطة مُعلَّقة على الكتف، ليعود لأي «عروبي» رشده، يكون قد فَقَدَه في «سوق الاثنين»؛ لأنه دفع ضريبة «الترتيب» مثلًا، ولم يَبقَ له ما يشتري به لُحَيْمات للكسكس الفَوَّار. ورغم أن الدراري شاهدوا غير مرة لمخازنية يسوقون رجالًا مَجْرُورين من أيديهم بالحبال، يقال عنهم، بالحق أو بالباطل، إنهم تَرامَوا على أرض الغير، وقد نُقِلوا إلى القصبة من القرى والدواوير التابعة لها. رغم أنهم رأوا ذلك وأكثر، فإنهم احتفظوا بتوازنهم جيِّدًا وهم يسمعون المسويطة تسلخ ظهورهم إلى أن يسيل دمهم وهم «ينحطون» احنا متايبين لله، عُمرنا ما انعاودوا أسيد.
وكان من حق الدراري أن يطير عقلهم ويتقبلوا بعد ذلك بدون انزعاج أن تُعيَّر بلدتهم بالحُمق، وهم يرون وقد أُطْلِق سراحهم من السكويلة، وراحوا يمرحون في الحقول التي خلفها، تطول عيدان السنابل الصفراء المثمرة قاماتهم وقد أَتَوا على ما تَخلَّلها من كرنبوش وبلعمان، وبدا العام واعدًا بصابة زينة، والمطامر غادية تعمر، وأولاد حريز عن قريب ستقوم قيامتهم؛ فها هم في أيام معدودة، بعد الحصاد والدراس، سيحصدون غَلَّة العام في المأكول والشراب، والزَّهو ولقصارة، فهم أهل نخوة، ومدبرها حكيم لما تَبقَّى من شهور العام. وكان الدراري يتهامسون فيما بينهم بأن هذه ربما إحدى لوثات آبائهم الذين يفيئون في أيام الشُّحِّ إلى ظلال الماضي القريب، يسترجعون تباريح الشيخات فيما أسطح البيوت لا ينقطع منها ترجيع الطعاريج. وهم أيضًا فقهاء وَرِعون، يُقْبِلون على الدنيا والآخرة في وقت واحد. وترى فيهم من لا يَجِد غضاضة في الجمع بين المتناقضات، وما ذلك إلا لغلبة الفطرة على سلوكهم، وبُعْدهم عن التَّكلُّف ونبذهم للتطرف … إلا في محبة الحياة، وفي ذلك كان هلاك كثير من أولاد حريز، الذين سارت بذكرهم الرُّكْبان، وهي لوثة جميلة في سِجِل أيامهم.
كل ذلك، ولم يُعْرَف عنهم أنهم من «زبناء» السبيطار. فالدراري كانوا يسمعون، وبطريقة ما يعرفون أن سبيطار لمهابيل موجود في برشيد … هناك جنوب البلدة. هناك خلف «سوق الاثنين» وشرق «ضاية دويس» في مفترق الطرق الذاهبة شمالًا إلى «فيني» وقصبة بن أحمد، ويمينًا إلى سيد العايدي، وسطات التي سمعوا أنها تسطي، تجنن مثل كثير من مدن البلاد التي ترسل مهابيلها إلى عاصمة أولاد حريز، تعيد إليهم، بعون الله، عقولهم الطائرة.
وقد كبر السبيطار فيما بعد، واستشرى الجنون في البلاد وبين العباد، بينما ظَلُّوا هم قابضين على رءوسهم حارسين لعقولهم، ينظرون دَهِشِين لتبدُّل الأحوال، ولا ينكسر فيهم عود الرجال. وقد كبر الدراري، وتَفرَّقوا في الأرض، ولكن أرواحهم وحبهم لبلدتهم ظل سترًا لها وصونًا من صروف الدهر وعبث أولاد الحرام، وهم كثر، والعياذ بالله، في هذه الأيام. يفسدون في الأرض ولا يصلحون … إلا في برشيد، فقد كانت وستبقى لهم بالمرصاد، وصدق من قال: «سطات يسطي وبرشيد يداوي»! ربما.