«اسْطيحة» راشيل وأﺣ…

مثل قط ينط السلالم درجةً درجةً، وهي من خلفه تارةً وقدامه تارةً أخرى، مثل قطة تنط درجةً درجةً. السلالم المؤدية إلى السطح ليست طويلةً، درجات معدودة ليس إلا، تصعدها لتدلف بعدها مباشرةً إلى سطح البيت، البيت السفلي ذي الحجرات الأربع مع المرأب الخارجي، فهو متوسط العلو، لهذا قلتُ لها دائمًا حين تطلب مني الحضور إلى بيتنا، والصعود خاصَّةً إلى «السطيحة» لنلعب، أن علينا أن نَنتبه كثيرًا ونحن نصعد الدرج، فهو صعيب صعيب، يا …

غالبًا ما كانت تأتي في العصر، وقت تكون فيه الدار هامدةً؛ أمي إما راقدة أو في زيارة إحدى الجارات أو الخالات، وأبي يحكم في المحكمة، والخدَّامة تصقل الأواني أو تهش بعض الذباب عن وَجْهِها بتثاؤب في الكوزينة المُعْتِمة … وأنا أبقى سيد المكان، وسيد اللعبة، أيضًا. أما هي فقد كانت حَذِرَة رغم أنها تبدو وكأنها لا تبالي، هي التي تلح في مطلب اللعب أكثر من مرة في الأسبوع، وكلما وجدنا الغفلة، إلا في يوم السبت المحرم عليها بتاتًا. أبوها الإسكافي لا يعود من حانوته إلا مع غروب الشمس، وفي العصر تبقى أُمُّها دينا مُكِبَّةً على ماكينة الخياطة لا تغادرها إلا إلى المطبخ عشيةً حين قُرْب عودة زوجها نسيم. تُغافِل البنت أمها، وخاصَّةً حين تحس بها شبه غافية وقد تهاوى رأسها على الماكينة من الإجهاد والصهد، فتتسلل على رءوس أصابعها منفلتة من الباب الخارجي للبيت نصف الموارب، فلم يكن أحد تقريبًا يغلق بابه في القصبة. الناس يعرفون بعضهم ولن يسرق أحد أحدًا، وسبيطار المهابيل وحده أبوابُه مَوصودة.

لم تكن لي ساعة إلا نبض قلبي يَدقُّ بوجيب غير طبيعي وكأنه يَتحسَّس موعد مغادرتها أو قُرب وصولها، وحين يعلو بشدة أكون واقفًا بباب بيتنا وأراها آتيةً من نهاية الزقاق رَكضًا، لا تتوقف إلا ويدها في يدي فأسْحَبُها معي عابرين السطوان الضيق، وعند نهايته مدخل السلالم، مثل قط أنط فوقها درجةً درجةً، وهي من خلفي تارةً وقدامي تارةً أخرى، مثل قطة تنط درجةً درجةً.

حين نصبح في السطيحة، يدي في يدها ولا نجرؤ أن ننظر إلى بعضنا إلا خِلْسةً، إذا تضامَّت نظراتنا تَورَّد وجْهُها وصعد قلبي إلى جوفي، والغُميضة هي لعبتنا، ومن اكتشف صاحبه قبل الآخَر فاز … فاز بقُبلة أطبعها على خَدِّها أو تطبعها على جبيني، وأنا أريد أن أضمَّها إليَّ ولا أعرف ماذا أفعل بها.

بعد أعوام … وكان نسيم ودينا قد رحلَا من القصبة مع مَن رحلوا من الدار البيضاء إلى تلك البلاد التي كانت عربيَّةً ومعهما را …

بعد عقود كنتُ أهم بدخول «الغاليري لافاييت» بشارع هوسمان الباريسي، فصادفَتْني امرأة لا أرشقَ ولا أجمل. بهرني خروجها ولا أعرف إنْ بَهرَها دخولي، لكننا معًا تَوقَّفْنا في منتصف الطريق، عيناي في عينيها في عيني، دق قلبي بذلك النبض والحمرة القانية القديمة.

خِلْتُها هي، فهل خالَتْنِي أنا هو، في منتصف الطريق بقينا واقفين في زمن كأنَّه دهر ستتلوه دهور، يدها إليها ويدي مرتعشة غير ممدودة، إلا كلمة واحدة فَلتتْ منِّي تَكَهْرَب لها جسد المرأة الأرض الأجمل.

– هل أنت راشيل …؟!

– وهل أنت أﺣ…؟

٢٤ / ٩ / ١٩٩٧م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥