سبب آخَر للحنين

ابْرِ قَلمَك، وعُدْ إلى القلم. الصفحة البيضاء كأنها لم تعرف أبيض قبله. فَكَّرت في بعده وأردت أن تستريح قليلًا من حركة الحروف خيلًا وثَّابةً، والصهيل منها مُرَجَّع بين «قوس النصر»، و«طوق الحمامة». عبثًا تدحرجت، فوق منحدرات السكينة الهاربة، وحين أوشكت على الوصول إلى السفح صعدت إليك ذاكرتُك تُذكِّرُك بفوات أوان النزول، وتُخبرك أن القِمَم التي في الأعالي، مثل صنين أو نظرتها الماخرة عُبَاب المتوسط إلى أطلس قلبك، ما زالت بيضاء رغم الصيف، مُكلَّلَة بثلج غامر من زَبَد الشفتين، بضوء من ليل هو سهاد العينين. عُدْ إلينا، عُدْ إليها قالت الصفحة وهي تشير إلى مَن أسدلت على وجهها الوشاح الأبيض، الشفاف، في انتظار خطوتك القادمة سواء كنت الموعود بها أو في صدفة العبور. الوشاح المُخَرَّم، المُطرَّز بحروف حسبتها، ولم تكن رأيتها، انسكاب الليل فوق غرفتها أو رقصة للحاجبين. وسواء تخطتك أو تخطيتها، الحروف بينكما ظلَّت مشرعة بالسؤال عن الكلام المرتعش في اليد، وهي تعيد الوشاح يغطي خفقان الوجه في لحظة شاردة وباليد الأخرى أمسكت يدك وهي بَعْدُ تبري القلم، وعلى صفحة السماء خطَّتْ حرفا ثم آخَر ثم اسمك ثم غابت، بعد لأي وأنتَ تلهث، كَتبَت: سأبحث عن اسمك حتى لا نهايات الأسماء!

إنني في حاجة إلى هذا المَجاز، وإن استحال المَجاز لأعْبُر من ضفة إلى ضفة، ومن الغياب إلى استحضار غيابي، ومن الصَّمْت الملغوم مثل أنين مكتوم إلى الكلام الذي لا أكتبه إلا وهو يكتب أمامي. أي أنين أفعل ما لم أنوِ أو أقصد. وليس من عادتي أن أقصد شيئًا محددًا بالذات أو ربما تَوهَّمْت أني أفعل، وحين أشرع في تنفيذ التوهم تُخْرِج لي الكلمات لسانها، وقد ثَقبَت طوق الغرض وامتطَت أسرع مركبة فضائية مُغادِرَة نحو أبعد تُخوم لا أعرفها، باتجاه المجهول الذي يدهلزه المجاز، وتتناسل فيه كائنات تمتنع عن ارتداء السراويل والقمصان قصيرة الكُم، ولا يغريها وضْع طاقية الإخفاء؛ لأنها هي في الأصل خَفاء، مثل همس المعنى، وتسريحة شعر الغَسَق، أو تلك الشُّخوص الغامضة مثل ديناصورات هائلة اعتلَت قُبَّة السماء، تراها في الأفق رابضةً غيومًا كثيفة بين الجبال، لن تمطر إلا تكوين جبال أخرى ليست للصعود بتاتًا. هي فقط للنظر، شأن هذا المجاز الذي لا يُجاز. شأن ما أَبْغِيه من قول ويُفلِت مني إلى نقيضه أو ليُطِلَّ من شرفات الصدر على الشوارع الداخلية حيث تلك الكائنات أدارت ظهرها للزحام، انظروا لكل هذا الزحام اللامُجْدِي! وهي تتناسل لإكثار سُلالة نَقْض المعنى المبذول والكلام المُرَتَّق حدَّ لباس الدراويش. هذا هو الشيء الوحيد، الواضح أمامي الآن مقدار إمكان انغلاقه على غيري، والسبب بسيط ومُعقَّد في آنٍ، فالكلام في حاجة لأن يغلق على نفسه — وهذا سر الانغلاق — ليبتعد عن الابتذال، عن الشمس المُفرِطَة في الشروق والغروب، عن الأشكال المدوخة من القَماءة والدُّونِيَّة، وابتغاء صَون السِّرِّ الذي يسكن إليه، يَلُوذ به، وقدِ افتَضحَت كل المعاني، ليتم العبور من وإلى المجاز، إلى وجهها المَخْفِي، المنسدل عليه الحرف تلو الحرف، خلف ذاك الوشاح.

لكن المضي في هذا السبيل، وعلى هذا النحو سيوصلنا — إذا وصلنا — لا محالة إلى سوء تفاهُم، إلى فِراق لا قدَّر الله ونحن نبغي استمرار الاتصال، بل الوصال لو وجدنا إليه سبيلًا، وسأشرح الأمر بطريقة مختلفة: سماحة وجهها، لون بشرتها، هلال حاجبيها، ليلُ شعرها، الآه المزموم بين الشفتين، وصولًا إلى الدغل الخبيء. هناك طالَعني الوجه مرَّة واحدة، وفي مُنحَنى النظر امتدَّ القوام فأحسَسْنا بشغف باكر، أحمر اللون لو تعلمون، فكان علامة على أن المُديَة ستُشْحذ طويلًا قبل أن يسيل دمي، حتى في الأشهر الحرم، على صوت حرون يعزف إيقاع دوام غيابها مُلوِّحًا، تارةً بمنديل الجنوب وأخرى ألوان الغجريات اللواتي احتَرَفْن سَبْي الرِّجال وحَمْل حَطَب الهوى إلى مَضاجعهم، وإشعال النار فإذكاء الحريق بصوت الغياب، ثم يَشْقُقْن منهن الصدر، ويَتعَرَّيْن واهبات مَفاتن الجسد للبحر حين يَجزر وحين يحسسن بالمَدِّ يلهث في أحشائهن يَستبِدُّ بِهن الوَلَه فيرفعن الأذْرُع لاحتضان الرجال، وعندئذٍ لا يصلهن سوى ملح البحر يشوي أجسادهن، ومكان الحطب الذي وضعن في البكاء، والندم، لِيُعاودن الكَرَّة مرَّات بَعزْف إيقاع دوام الغياب. لم أكن في ذلك الرماد، وحَريقي سابق على النار وما احتْطَبَت سيدة الشَّغَف الأحمر، وكل الغجريات أو الغانيات، سواء تَغَنَّجْن بعطش الجنوب أو كَرَعْنَ لإطفاء عطشي كُلَّ أقداح الشمال، عبثا أسترجع، لا أذكر من الوجه إلا الصوت، ومن اللون الظل، ومن القامة الطريق الذي لا يصل إليها، ومن المعنى ضده، والشكل سعيره، ومنك بقاياك، ما أَتوهَّمه أنتِ ولستِ أنتِ، ولن تكوني من الآن إلا ما أَصنَعُكِ، ما أُبدعكِ بهذا المَجاز، وأنتِ لا داخل ولا خارج المَجاز.

أنا ما ضَيَّعتُك بل نفسك ضيعت، وعندي شغَف أَغْزَر يمطر حولي وعليَّ أسئلة وعتابًا ومحبة ورغابًا واستفسارًا وفُضولًا مُحبَّبًا: لماذا تَوقَّفت؟ متى ستعود؟ انتظرناك ولم تظهر، أم اختلطت عندك الفصول؟! لا تَقُل إنك تَعِبتَ وتريد أن تُلقيَ السلاح (أي سلاح؟) لو سكتُّم جميعًا لن نسمع إلا العواء والنباح، وهل يرضيك أن يغرق خيالنا في الجرائم خارج الحدود ونسكت عن الجرائم التي تُقْتَرَف ضِدَّنا كل يوم هنا؟ حذارِ أن تأسرك غوايات الضفة الأخرى وتنسى ضفتك الأصلية، ترابها فَناسها وأهوالها، حيث عِشتَ وتَمَرْمَدتَ في وحلها مثلنا جميعًا. هو التزام منك لا تستطيع أن تنقضه إلا بنقض ثقتنا فيك، وهو ما لن تقبله أو تضيع.

يزداد الطَّرْق والطَّلَب والسؤال مِلحاحًا ولا أحار جوابًا كما لا يرتاح مَن حولي إلى سكوتي. تحرجني هذه الحفاوة التلقائية الصادرة عن أناس طيبين حقًّا، أي غير خُبثاء، حاذقين، ومَصَّاصي دماء الأسماء، أي غير مُحْترِفين، مُتقادِمِين في صولات الكلام ولا نصر. يحرجني الاستفسار الوَدُود الذي قد يَفْرِش لِسِواي أَسِرَّة الغُرور والتنطُّع، ويُحوِّلُني إلى شبه مُتلبِّس بجرم لم أرتكبه، فلا أعرف كيف أدافع عن نفسي، أو أنزع عن عنقي ما يسميه البعض طوق الفَخَار، ولا فَخَار.

سأكتشف أن سكوتي سيريح البعض، سيزيح عن كاهلهم عبء بقائي الذي لا يدَ لي فيه إلا بإصراري على الإفلات من شَرَك المكيدة ولإيماني بغيرهم، الأنقياء الأصفياء، البسطاء. سأكتشف أن سكوتي، ولو لحين مُؤقَّت، سيُروِّع المتربصين بصمت المتألمين، لا يعرفون مُكابدة العاكف على نفسه، الرحالة في أصقاع العالم والوحدة ورحاب كلماته وسِعَ كل الرحاب وأكثر، ويَتصوَّرون أن طول العكوف على الذات هو لِحُبِّك مؤامرة كبرى للإطاحة بأمجادهم الوهمية. أتلَذَّذ بهذين الاكتشافين معًا. هنا أزهو وأرقص فرحًا، أقول هنا طاح الريال. ثم أنْتَبِه أني أبطأتُ، وسأتأخر كثيرًا إن استسلمتُ لهذا اللجاج، لهذه المُماحَكة، فثَمَّة ما هو أهم، لحِسُن الحظ، ما هو أجمل وأبقى؛ أن أستحضر بإلحاح أن الالتزام مع الآخَرِين ومِن أَجْل الآخَرِين مسئولية وخُلُق لا يَصِح العَبَث بهما، وما ينبغي أن يُصْبِحا حالةَ مزاجٍ أو موضِعَ أخْذٍ ورَد.

لأجل هذا، يستحسن أن يبقى مَطويًّا، ودافئًا بين الضلوع، أعود لأَبْرِي قلمي، ومعه أحس أن يدي ترتعش، يا لي ويا لهولي، كأنني سأفعلها للمرة الأولى، كأن أبواب الإيمان واليقين سُدَّت في وجهي، وها أنا ذا مُتَبتِّل أرجو الشفاعة. الدُّنو من الكلمات كالدُّنُو من النار، واللَّفْحُ يسري من الآن في وجهي، لو كنت مُحبًّا لعُذِرْت، ما أحوجني إلى الحُب. غير أني، وفي انتظار أن تأتي النار على ما تَبقَّى مِنِّي، لن أترك أي وصية، ولن أَعِد أحدًا بشيء كما لن أُقرِّر إلا الاحتمال الوحيد، الممكن، وهو أنني لا أَمسِك بأي حقيقة مُطلقًا، ولن أُخاطب أحدًا بعينه، ولا أَتحمَّل أن يخاطبني أحد في شئون اليُسر والعُسر. واهم، بل جاهل مَن يتصور وُجود كاتب لجميع الناس، وأسلوب للخليقة كلها. وكلاهما إعجاز عندي؛ مَطْلَب بائعة الدجاج مِنِّي، أو الحوات الذي غدَر به البحر صيف هذا العام فلم يَجِد سمكًا يبيعه، ومُنادِم النجوم الذي أجهز الغيمُ على سمائه فجأةً فبكى طالبًا قصيدة أهديها لمحبوبته. ولَنْتَّفِق على شيء أخير، فاللَّفْح احْتَدَّ والنار ستذكو: من لم يكتب عن ذاته، من ذاته، لن يكتب عن الآخَرِين، للآخَرِين. تراه يَحتال، يُلَفِّق، يَستَنْسِخ المكتوب، ويُتاجر بِنَفْسِه والجميع، وهيهات أن تَمَسَّه النار التي تَطُوح بالغجر بَيْن الضِّفاف، تُصبِح فيها حَنين احتراقها عسى أن … وهذا سببٌ آخَر للحنين.

٤ / ١٠ / ١٩٩٧م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥