لما تَبقَّى من شرف الكلمات
كنتُ أنوي استدراج القريب، من المكان والزمن، حيث الذكري بعدُ طَرِيَّة، والعيون لمَّا يَزَل ومِيضُها في عيني، والشَّرْق الذي يُشكِّل ضفة بمفرده، هي بدء ومنتهى الضفاف.
كنت وعدتك، بعد أن أنشدنا فاتحة فتنتك، واصطلينا بنارها، ألَّا كلام أسطره بعد الرحيل المُؤقَّت عن شميمك، أحببت أن أقول الرُّضاب ولكن أخاف أن يقال، يا لتعس هؤلاء الذين حولنا، يحشرون مكبوتهم في كل شيء … حتى في رفيف قُبلة، مثلًا. دعونا من هذا الآن، أووف!، لا كلام إلا بكِ يبدأ وإليكِ يُفْضي، أنتِ مجهولة الطريق، وأنا محال المرام.
ولكنها الحاجة تلح، والقلم يتململ بين أصابعي، كأنه ليس مني، كأني سأخط رسالة حب إلى أول بُنَيَّة رمَتْني بسهامها، وأنا أعبر جسر «الرصيف» إلى حي المخفية، قريبًا من دار الحاج التهامي في «دفنا الماضي». كأني … سيطول بي الأمر لو أردت شرح تفاصيل الرغبة، وتعليل علة هذه الأصابع وهي تتململ بالقلم ليؤجل خطب شوق الحاضر الملحاح، مائلة به نحو الحاجة الأشد إلحاحًا، رغم أن المكان واحد، هو لبنان في الصيف الماضي، وبيروت القاصية–الدانية، في الصيف ما قبله.
ربما كنتُ مطالَبًا أن أفسِّر الأمر للقُرَّاء، بمعنى أن «أضعهم في الصورة» — انظروا إلى هذه العربية العظيمة لأيامنا الخرفاء!، أن أفسر وأبرر هذا «الانزياح» المتواصل عندي — فالكاتب العربي مُلزَم بأن يشرح إلى حَدَّي الفناء والخواء ما يكتب لكيلا يُخَوَّن أو يُرْجَم بحَجر البعد عن الالتزام، أن أشرح لماذا أرحل نحو ضفة أخرى بعيدًا عن هذه المياه حولنا، والكذب الأبلق الجاري أمامنا، حتى أجلب من هناك مادة حديثي، وأجد المدخل المناسب لقولٍ أظُنُّه سيعلن للمرة الأولى، وما هو إلا مُعاد من القول مَكْرُور.
حسنًا، الحكاية وما فيها أني في الصيف ما قبل الماضي اتَّفَق لي أن زُرت لبنان، وكان طقس الوقت أيامها في قَيْظَين: قيظ الصيف، وهو معلوم، حارٌّ جدًّا، رطب في بيروت ولياليه شهية رغم كل شيء. وقيظٌ آخر، لا بل هو قيظ الانتخابات البرلمانية (يسمونها هناك الاشتراعية). وقد سمعت غير مرة، وقرأت تقارير وتعليقات عن أجواء وظروف الانتخابات في عدد من البلدان العربية، ومن جانبي كنت أكف عن أي تعليق، لا لأن اللسان — كما يقال — يعجز عن التعبير، وإنما لكوني أحس وأنا أبادر إلى هذا التعبير، بأن كِمَامة أُلْصِقت بفمي من حيث لا أدري، ويهبط بصري إلى بطني فأراها منتفخة لا أفهم كیف تَورَّمَت فجأة، أنا المعتدل في أكلي وشربي، ثم ما ألبث أن أسمعها تغرغر فإذا هي أمعائي تضج بالقهقهة، فقلتُ هذا جن الانتخابات العربية سكنني — كأني لستُ مسكونًا بغيره — وهو يكيد لي نِكاية بنواياي، العياذ بالله منها.
في صيف العام قبل الماضي وجدتُني محشورًا للمرة الأولى في قلب انتخابات عربية بالمناسبة، فإن ذاكرتي ممحوة بالنسبة لنظيرتها المغربية، ربما بسبب طول اغترابي، والله أعلم، هو ذا لبنان في قلب الصيف، يعني في نهايات شهر أغسطس يتطلع حكومةً وأحزابًا وطوائف ومذاهب وحماة وشخصيات سياسية وفكرية لانتخاب برلمان جديد، وطبعًا من أجل إرساء وترسيخ دعائم الديمقراطية (كذا). لم أكن طرفًا في هذا الموضوع من قريب أو بعيد، رغم هيامي التاريخي بحبيبتي الديمقراطية التي انتظرتُها طويلًا، عبثًا، نظیر انتظاري طيلة سنوات الطفولة لسيدنا قدَر، في تلك الليلة التي هي «خير من ألف شهر». وفيما أجول في الشوارع من منطقة «الحمراء» إلى «جونيه» وأنتهى مع السفح عند «الدامور» صعدًا في جبل الشوف الدُّرزي، أحيانًا أخاصر الساحل فأصعد شمالًا إلى طرابلس أو أنزل جنوبًا إلى صَيْدا وصور.
ولا تفوتني مَعاقل «حزب الله» ولا أحزاب الجان … حيثما ذهبت، ومن أيما جهة أُبْت أراني قد عَبَرتُ كلمترات من المُلصقات واللافتات، موكبي مَحفوف بلغة الضاد متبرجة في أبهى حللها وزينتها، ووعود الديمقراطية والخير العميم تَرفُل في ثوب قَشيب. أظن أني فكَّرتُ وقتها مع عدد من المصروعين مثلي، من الذين فاتَهم رَكْب هذه الحبيبة، ويجلسون كل مساء ينفخون النرجيلة في مقهى «الروضة» قُبالة «الروشة» تَحسُّرًا على زين الشباب «أبو فراس» الذي لم «يُمتَّع» بالديمقراطية. والحاصل أننا، وقد انسطلنا بمباهج اللغة الانتخابية، فكَّرْنا في وضع قاموس عربي جديد. وللوهلة الأولى حسبنا مهمتنا يسيرة، وإذا بنا، ونحن في عز «الانسطال»، اكتشفنا، ومعنا جهابذة من تلامذة الشيخ عبد الله العلايلي، أن بضاعتنا اللغوية الجديدة — أقصد بضاعة النواب المرشحين الأفضل — تَرْبُو عمَّا في «لسان العرب»، و«تاج العروس» فتَهيَّبْنا الأمر، وفكَّرْنا من جديد أن من الأفضل بَذْل هذا الجهد فيما يمكن أن يعود على ذواتنا النرجسية بما لذَّ وطاب، وهذا سبب استمرار «انسطالنا» إلى … ربما يوم الدين!
رأيت وقتها أعمدة الكهرباء، والجدران، ونوافذ السيارات وواجهات المقاهي، وشاشات التلفزيون، لعَلِّي رأيتُ البحر والأنهار رؤيتي لصفحة السماء في النهار وضياء القمر في الليل. كما ظفائر غابات الأرز والصنوبر، وسحنات الماشين في الأسواق من أَجْل الرِّزق أو على غير هدى مِثلي، وصولًا إلى الأرصفة والإسفلت المطليين؛ رأيت كل هذا وأولئك وذاك تنوء بحملها وهي تبدو منتفخة الأوداج، مُتكَرِّشة البطون، لغتنا العربية الفخمة تزهو، وهذا بعض ما قرأتُ أورده اعتباطًا، وبلا ترتيب: «الشرف/العدل/المساواة/الكرامة/نصرة الحق/الدفاع عن المحرومين/تطهير المجاري/إنصاف المهجَّرين/حافلة لكل مواطن/عمر بن الخطاب الجديد/من أجل استئصال شوكة الفساد/إبادة مافيا الرشوة من الكبار خاصة/ظهر الحق وسيفوز نائبنا عبد الحق/النائب عبد الباقي هو درعنا الواقي/القضاء على الأمية بالرغيف والبندقية/نحنا أولاد البلد، نعاهدك يا عبد الصمد، نائبنا إلى الأبد/عالبطاطا، البطاطا، يا زعيمنا بلَّاطه/الشجاعة. مثال الفروسة/الإقدام/ البسالة/المرشح الهِزَبْر/المغوار/فريق الشدائد، معكم في الشارد والوارد/نائب ضيعتنا أبو الجد، نحن أعطيناك العهد، من المهد إلى اللحد/واق واق يا رفاق، يا بطل الانعتاق/البطولة /المروءة/حل جميع المشاكل/عروسة حلوة لكل عازب/زوج فَحْل لكل عانس/بيني وبينك. كل شيء إلكْ/لا صهيونية، لا استعمار، مرشحنا، بن ضيعتنا عبد الجبار، هو هو ابن الدار/كلنا ضد الكفار والنصر بكره للثوار/صوتك هو الحق، وأنت عبد الحق، فليسقط البق/…/بق/… بق».
في زمن آخر، في بلد آخر، استيقظتُ وفي رأسي دُوَار أو إحساس بفقدان الجاذبية، ضرب من المجاز، ليس إلا، وكنت قد نسيت جميع الأسماء واللغات والكلمات والشعارات. الحق أن البَقَّ لم يُبْقِ لي وقتًا لقُدْرَة التَّذكُّر، فقد هجم عليَّ يهرش جلدي هرشًا، ويمصُّ دمى مصًّا.
كنت في زمن آخَر، في بلد آخر، ويدي لا تطول صدري لتَهرُشَه فكيف بظهري، يدي المبتورة مني مثل صوتي — هل الكتابة صوت لمن لا يسمع؟ له اليقين دائمًا، مثلما لي يقين مُطلَق بأنه، أبدًا، لن يسمع — يدي لا تطول شيئًا للهرش، فقد تكاثر عليَّ، وحولي، يا للمفارقة، برق، بق جميل، منير، فوَّاح، صدَّاح، نَوَّاح، بَوَّاح، ثم صَيَّاح: «المغرب لنا، المقعد لنا، المجلس لنا، الغرفة لنا، البورصة لنا، اليخوت، الشوارع، مواقيت العبور من وإلى، وحديث ينبغي أن يتم الحشد والحشو، ومنه ترتيب صفقة دخولكم إلى خدر حبيبتكم المغناج، تلك، نحن غنجناها حتى حاشاكم، حتى عهرناها لتفتنكم، ولتبلونكم، أيكم أحسن … طبعًا، طبعًا، هذا كله منا وأنتم إلينا. المغ لنا، المق، المج لنا، والغر مثلكم مثلنا، طبعًا لنا، يا أنا، يا أنا، فقط أنا».
في صيف بيروت ذلك العام، رغم القيظ ورطوبة جو سرعان ما يُذِيب، من حسن الحظ، مساحيق الكلمات، كان صوت فيروز — وأنا أحسو صوتها، نشوانًا، في تلال «بیت الدین» تقتنصني نَشوانًا — يمسح عن المتكلمين والمترشحين والمتوشحين، دعك من المُتوحِّشِين كلهم، خطاياهم، مؤقتًا لا غير … يا صوتها.
في هذا المكان، وهذا زمن الخريف ولا لون للخريف، لم أخْشَ على أحد، على شيء مثلما أخشاه الآن في وقت انعدام الجاذبية القريب — نحن نفهم بعضنا يا أولي الألباب ويا أصحاب الألقاب! — ما أخشاه هو على زادنا نحن الذين لم نَصطَف في «الصف» لأننا لا نعرف إلا صف الكلمة، آهِ، لو عادت تلك البَحَّة منك يا نعيمة سميح آه، لو صوتها فيروز … هنا لَنِمْت وتركتكم، قرير العين، مُستريحًا ألَّا أحد غدًا سيخدش ما تبقى …