وقت من رماد

«لأنني أُصدِّق عيني، لعلَّني صدَّقْتُهما. بلى، هو ما أرى حقًّا وتحقيقًا. صرتُ أميل كثيرًا إلى التشبيه. أنجر إليه انجرارًا بلا قصد، دون سابق تدبير. وحين ينتهي السبك أحاول أحيانًا أن أفهم لماذا أفعل هذا. فهل هي خاصية أسلوبية باتت لصيقة بهذه الكتابة فلا تجد عنها فكاكًا، أم إن أدوات التشبيه تنحشر بيني وبين ما أرى، ما أريد قوله ووصفه لتنهض حاجزًا دون الاستئثار الكامل بالمرئي، بواقع مُفترَض أقول زعمًا ومكابرةً إنه لي، أنا فيه، وأملك أن أستردَّه متى وحين أشاء. أم أن كل شيء فات وأمسى في محال التحصيل فلم يَعُد إليه من سبيل غير اجتراح لعبة التوهم؟ أوَليس التوهم أفضل من الفقدان الكامل؟

ذلك ما قدرت وأنا أوجه بصري إلى الطاولة الواقعة في عمق المقهى: مقهى «لي زاركاد». في العمق الأقصى، من جهة اليسار، الملاصق للزجاج السميك، المدخن قليلًا، الذي يفصل الداخل عند الباحة الخارجية، ويفصلنا حين نجلس متقابلين أو متجاورين حول الطاولة عن «الروبوان»، أي في نقطة التقاطع بين زنقة «سوفلو» التي تنتهي في أعلاها بالمبنى الشامخ للبانتيون، يظلل إلى الأبد العظماء الساجين تحت قبته، وبين شارع «سان ميشيل» من الجهة التي ينفتح فيها على المدخل الرئيس لحديقة اللوكسمبورغ، وما وراءها وبداخلها مما تراه مرة واحدة أو مرتين، وتحتاج بعد ذلك إلى أكثر من عمر؛ لتكتشف بأنك ربما تراه للمرة الأولى.

ليس غرضي الوصف، أو إنجاز أية طوبوغرافية تَذكُّرِيَّة، لا حاجة إلى ذلك في زمن تُوفِّر فيه الخرائط عنك كل هذا العناء، وتلعب الصورة دورًا حاسمًا في رسم الفضاء وتحديد المسار، والمساعدة على علوق كليهما بالذاكرة. لكنَّ للوصف دَورًا آخر، وظيفة حاسمة، حيث تنتقل من الموصوف أو المرصود لذاته، إلى المعاينة الوصفية وهي تندرج ضمن عملية التخييل في محلول واحد. هذا ما علمنا فلوبير، على الأقل، وهو ينقل المنظور الواقعي، والبلزاكي تحديدًا، إلى مرتبة أدبية تعيد تركيب الواقع والسمو به و«شعرنته» من زاوية وصفه وبلاغة نقله فيكون هو بذاته وشيئًا آخر فيه كثير من ذوات الذين يشغلونه، بل ليس إلا المُحصِّلة المادية والشعورية لما هم فيه. حين نصل إلى بروست ستكون العين الواصفة قد قَطعت أشواطًا طويلة في مراكمة جماليات البصري، كتابةً وتشكيلًا وأخطر ما في ذلك الوصول إلى تَحوُّلها إلى بوتقة ينصهر فيها الشعور باللاشعور، وهما يقومان بالاستشراف والاسترجاع، بالفعل في انتظار رد فعل مشمول من خلال «النظرة le regard»، وزاوية النظر، و«الشيء المنظور l’objet du regard»، وهو يحاور ناظره مُحرِّكًا فيه عالمًا من التداعيات شخوصًا ودفقًا من المشاعر، ووقائع صغيرة وكبيرة هي لُحمة الرواية وسداها إلى أن يصبح الشيء المنظور في ذاته هو مِهْماز الرواية وقد تَسلَّمها أكبر وريث لفلوبير، أعني الآن روب غربي، ليعيد للوصف مَجْدَه الأول وقد أركبه فوق هودج العصر الجديد لما بعد الحرب العالمية الثانية.

ليس غرضي التنظير للوصف، أو استدعاء أي ثقافة نقدية لا تجلب إلا عكرة المزاج، وخاصَّةً إن أنت استخدمتها في قراءة رواية عربية ما، غالبًا ما تعود عليك بالندم، وتبعدك عن الطريق السَّوِي، من الذي رغبت في خوضه منذ البادية. منذ اقتربت من تلك الطاولة وألقيت بها ببصرك، وكأنك تصدق. لعلك صدقت. بلى، لقد صدقت وإلا لم تَوجَّهْت نحوها هي بالذات، تسبقك الابتسامة المنشرحة للأيام الخوالي، فاتحًا حضنك، مادًّا ذراعيك كالعائد من سفر سيستقبل صديقًا قادمًا لاستقبالك هو الآخر بالأحضان:

– ياه، ماجدالينا، أنت هنا؟! … ياه، كأنك ما غادرت هذه الطاولة أبدًا كل السنوات التي مضت!

حضر النادل فأضاف قَدْرًا من البلبلة ما أظن أننا كنا بحاجة إليه: وإذن، أيها الشباب سابقًا، مثلي، أُحْضِر لك أنت شايك الساخن كما تحبين، لك أنت قدحًا من ذلك المشروب المعلوم الذي تهوى، يعني كسائر العشيات.

ومضى مِرِحًا يدندن بلحن العشيات، شجي لجاك بريل، هكذا هو، «أرمان»، يحب الناس دفعة واحدة أو يمقتهم إلى الأبد. حين عرفته قبل حوالي عشرين عامًا، وأنا أطرق محاضرات السوربون الأولى، عاملني، في البداية، بلامبالاة، لا، بل إن عينيه كانَتا تُلْقِيان صوبي، خلسة، نظرات حذرة، وحين لاحظ أن وجهي غاطس دائمًا في كتاب مَيَّزت اطمئنانه إليَّ دون أن أفهم سببًا لتحوله المفاجئ، إلى أن وضع ذات عشية فوق طاولتي مشروبًا. قال إنه يتبرع به، فأنا على الأقل، في نظره، لستُ من العرب الذين يعيشون على مطاردة العجائز. في مرة أخرى، وقد أصبحت ماجدالينا لَصْقي، أو أجلس قُبالتها بيننا بُخار شاي أو حبب جعة، همس في أذني كمن يقدم النصح: أنت أيضًا ستقع في تلك البلوى، ستحبها وتحبك، وتذهب ثم تندم، آهِ، لا أحد يرعوي في هذا العالم! كنت أَعبُّ الفصول عَبًّا من خلال الزجاج المدخن، وحديقة اللوكسمبورغ تهب لنا مفاتنها ونحن نمشي فيها. أكون محمومًا بجسدي الناحل وأذهب إليها. مثل طفلين نتراشق بندف الثلج، ونحن بعدُ طلاب لا نملك تلك المَعاطف السميكة. لا أهمية لذلك؛ فقلوبنا مَجامِر ملتهبة. وما أن يقرصنا برد يناير اللاسع، إلا ويجدنا قد تقدمنا بخطوات لاهثة لنغشى غُرفتي القدسية في زنقة موفتار، جالبين معنا الطعام والشراب بالدين. إلا الحب فقد كان مبذولًا بسخاء، وبلا حساب، لم تطلب مني ماجدالينا أن أتزوجها أبدًا، صنيع كل العربيات، ولم يخطر ببالي أننا قد نفترق، إذ أمسى الذي بيننا أقدس من الزواج وأمْتَن من عُراه.

ياه، كنا إذ ذاك شبابًا، نحب ونحلم بغزارة، مثل مطر باريس المؤلهة، مثل المطر الحقيقي. مثل الاشتراكية التي تدفقت في عروق المدينة، ونحن نندفع في تيارها الجارف إلى أن ارتمينا شمالًا عند أعتاب البانتيون، تندلق على مسامعنا تاسعة بتهوفن. قبالتنا، مثل إله إغريقي، ميتران وصحبه يُلوِّحون بالوردة، حمراء كانت الوردة مثل ذلك النشيد البعيد الذي يغرغر في مسمعي قادمًا من حفلة الجراميز في كشفية برشيد، غداة الاستقلال، وهم ينشدون، والشعب جميعًا ينشد:

الراية الحمراء تزهو
والحمد لله رب العالمين
 الراية الحمراء تزهو
ولعنة الله على الخائنين

ياه، ماذا أصابك يا رايتي الحمراء، هل أنتِ التي شَحبتِ أم أنا الذي تَضبَّبت في عيني الرؤية؟ أما ماجدالينا فقد كانت ترى الأحمر في كل شيء، وهي تفكر في بلدها الأمريكي-اللاتيني. كانت تحكي دائمًا عن أولئك الجنرالات الذين يحكمون البلاد بالدبابات والاختطافات. عن الطغمة العسكرية التي تكاد تفني الشعب. وقصورها ومضاجعها هي والطبقة النَّهَّابة التي صنعت، تقوم على الجثث والجماجم وأكباد الأمهات. وبينما يشربون الأنخاب يسمع في الليل عويل لموتى مُكدَّسِين في الأنفاق يطلبون قبورًا علنية لموتهم السِّرِّي، ماجدالينا تَهَبُ لي جسدها كله لتبقى رُوحُها مُعلَّقة مع الأرواح الخلفية. قالت وتاسعة بتهوفن تجري دموعًا على خديها: لا بُدَّ من العودة إلى هناك، فربما فعلتُ شيئًا يجعلنا نستحق الوصول إلى هنا من جديد. فهمتُ، نصل إلى هذه المدينة بحجة الدراسة، نحن طلاب وباحثو العالم الثالث، ونحن في الحقيقة إنما نهرب من أنفسنا، من بلدان بائرة بحثًا عن آمال مُحتمَلة، وإن بدت لنا بعيدة. هؤلاء القوم شوارعهم وشرفاتهم مزينة بآلاف الورود، فمتى تَيْنَع عندنا نحن وردة واحدة؟

لا أذكر متى غادرت ماجدالينا، ولا كيف قرَّرتْ أن أغادر بدوري. لم تكن دراستها للحصول على شهادة علم الأحياء إلا تَعِلَّة، هي المسكونة بالموتى في مدينة مُتخَمة بالحياة. ولم يكن وصولي إلى هنا للحصول على شهادة عليا إلا زعمًا أُناور به للبقاء في مكان تستطيع أن ترى فيه الفصول تتوالى بانتظام، وبأمِّ عينك ترى الخريف وتجمع أوراقه وهي تتناثر أمامك، كما يقول الشاعر «كتَناثُر العَبَرات». ولا يستطيع فيه أي حاكم، مهما أوتي من سُلطة وشرعية، أن يُؤجِّل وصول الربيع.

في مكان تستطيع أن تطلق فيه حنجرتك بالصراخ. أن تحتل أي ساحة تشاء، مثل ناجي في رواية «أسنان الطوبوغرافي» لفؤاد العروي، وتصرخ وحدك. مثل مجنون، مثل عاقل، مثل إنسان يكتشف دفعة واحدة أنه يسترجع صوته بعد طول فقدان. أن الصراخ حق طبيعي من حقوق الإنسان، لا يعاقب بالزرواطة أو الإحالة على المعزل. في مكان كنتما فيه. بقيتما عددًا من السنين، ولم تَفْهَما أنكما تَغرَّبْتما إلا بعد أن شَددتُما الرِّحال عودًا على بدء إلى مَسقط الرأس حيث تَسقط الرءوس تباعًا. وما حسبتماه قادرًا على أن يفيض، رغم كل شيء بنبع الأمل … بلا أمل.

•••

– یاه، ماجدالينا، أنت هنا؟!

– ياه، وأنت هنا، أيضًا؟!

– هي ذي باريس، إذن، عادة سيئة، لا نستطيع التخلص منها أم إنني مخطئ؟

– كلَّا، أوطاننا، أو ما حسبناه أوطانًا لنا هي التي تزمن في عاداتها السيئة، ولا تعرف كيف تحتفظ بأبنائها.

– وهل بقي من العمر ما يكفي لنستأنف التِّيه من جديد، أقصد ذلك الجمر المُتوهِّج؟

– أوه، ما زلتَ تُصِر على الكلام بالشعر، لا بأس، سأجاريك، لا أهمية لأي شيء، بعد كل الذي مضى، والوقت الآن كما ترى، وقْتُنا من رماد.»

١٥ / ١١ / ١٩٩٧م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥