البنيوية في غرفة دافئة
(١) برق غريماس
لو كان للذِّكرَى شفاه تتكلم، كل الشفاه، لانفرجت، وتَجمَّرت بلفظة الحسرة، آه! ولتلك المرابع أن تنطق لانبجس منها الخطو القديم كباقي الوشم، كعين ماء كانت هنا، وها وخز التراب ما زال بعدُ محفورًا بمجراها، لتنهدت: إيه رأيتُه يَعْبُر من هنا، أنا أعني قبل خمس دقائق من الساعة الرابعة ليوم الجمعة، المُؤرَّخ بالخامس من نوفمبر من سنة واحد وثمانين وستمائة وألف. الطقس بارد، كالعادة، وهو بلا معطف، أظنه تَحوَّط له باحتطاب كل دفء الجنوب قبل أن يبلل البوغاز بدمعتين، بعبورين: واحد إلى هذه الساحة، وآخر إليها، ياه إليها، ثانية وأبدًا.
سمعتُ خطوتي تَدقُّ بلاط ساحة الجامعة وأنا أعبر إلى السوربون العتيقة. كنتُ وَجِلًا ومُتهيِّبًا في آنٍ، في هذه العصرية، لا بسبب المكان الذي بدأتُ أتعود على رحابه، ولكن للمجلس العلمي الذي سأحضره بعد قليل، والأسماء العلمية المعتمدة فيه من العيار الثقيل، في قلبها اسم غريماس، وهو عندئذٍ يخيف بالسميوطيقا، في حلقته الدراسية الأسبوعية بمدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية، ويُفكِّك النصوص ويرسمها رسمه للمعادلات الرياضية. كان بعض شبابنا في الجنوب آنذاك إما ينخلون بقايا البنيوية التكوينية، أو يلوكون باعتزاز قُشورًا من زوادة رولان بارت، الذي حصده موت بالصدفة تاركًا علمه أضيع من الأيتام.
صعدتُ الطابق الأول مارًّا بمدرج لوي ليار الشهير، حيث سأشهدني في عام لاحق أدافع عن أطروحتي بأنفة، وحيث شهدت بعد ذلك ريجيس دوبري في محفل علمي وسياسي وهو يدافع عن أطروحته عن علم الميديولوجيا.
دفعتُ باب القاعة الصغيرة التي في عُمق الطابق الأول، جهة اليمين، وظهر لي أني وصلتُ متأخِّرًا، فقد وجدتُها غاصَّة بطلاب باحثين من جنسيات مختلفة، وأكثرهم عرب، حضروا هنا لمتابعة مُناقشة أطروحة لنيل دكتوراه الدولة أعدها طالب بعثة سوري عن شعر السَّيَّاب. طبعًا، كان الإخوة السوريون هم الأغلبية، والمشارقة، عمومًا، كما لاحظتُ مُتضامنون في كل شيء، خلافًا للمغاربة، رغم خلافاتهم السياسية التي شهدت بعضها كأنها نار حرب تُوقَد. أما هنا فقد جاءوا لمُؤازرة الأستاذ عبد الكريم (…) الذي جاء ليدافع عن أطروحته الموسومة «الموضوعية البنيوية، دراسة في شعر السَّيَّاب» ولم يكن ذلك هيِّنًا أمام لجنة مُكوَّنة من غريماس، وميكل، وغيرهما من الصناديد، الذين لا يمنحون ميزة «حسن جدًّا» كيفما اتفق.
قدم الباحث عرضه التقليدي أمام اللجنة بثقة، وبصوت جهوري، ثم افتتحت المناقشة. وجدتُني مشدودًا إلى منصة الأساتذة أنتظر، وأتوقع خاصَّة متى سيحين تَدخُّل غريماس، وماذا سيقول هذا السيميوطيقي المخيف، أمَّا أندري ميكل فصِرتُ آلف محاضراته في الكوليج دي فرانس. هو ومشيل فوكو الذي كان خارج دروسه الصارمة، صموتًا، ويَخْجَل من ظله. مرَّت ساعة وأنا مستند إلى الجدار وقوفًا، فقد شغل «الشعب» السوري جُلَّ المقاعد. كنتُ في عز شبابي وقتها لا أحس بالعياء إلا نادرًا، فصَمدتُ ساعة ثانية. وكالبرق التمعت نظرتها. أصبحنا في الليل، والقاعة مُضاءة، ولم يكن من مطر في الخارج، فهل سيدوي الرَّعد، بعد قليل، إثر هذا البرق، ويهطل المطر خيطًا من السماء أو هو مُجرَّد برق خلب؟ اخترقتني نظرتها للمرة الثانية، فهي جالسة في الصف ما قبل الأخير جهة اليمين، ولا تكفُّ عن تشبيك أصابع يدها بِغابة شَعْرها، فأضاءت القاعة مَرَّتَين بتأثير هذا البرق الذي تقاطع في جنباتها طولًا وعرضًا، ياه، وفي شغافي، أيضًا.
كانوا ستة خلف منضدة المنصة، وجاء دور كوهين، أستاذ اللسانيات وسَمِعْته «يشرح ويملح» في تطبيقات السيد عبد الكريم في هذا الشأن، وأنا أقول يا ويلي من هؤلاء يوم سأدافع عن أطروحتي، مُتمنِّيًا أن لا أتعرض ﻟ «البهدلة» أمام الحضور، وعندئذٍ لن تشفع «حسن جدًّا» في شيء. ولكن ما بال عينك يكاد منها الماء ينسكب … لا، هذا خدر، من رَجْع ذِكْرى ربما. لا، هذا شهد يصعد إلى العينين قبل احتساء تينك الشفتين.
انشطرت القاعة نصفين: واحدة لبنيوية عبد الكريم، والثانية لهذه البنيوية الجديدة التي لا اسم لها بعدُ وهي على أهبة الانفراج بين الشفاه. أظن أن غريماس كان في السبعين بوجه صلب ومُتغَضِّن، وقامة احتفظت بمتانة الماضي، والكلمة، الآن، له وكأن على الرءوس الطير. وعلى عكس تَوقُّعنا فوجئنا أنه قال أو لَم يَقُل كثيرًا أو لم نفهم قوله، إلا بعد لَأْيٍ، وأن تململ الحضور، وعلى الوجوه خيال ابتسامة مريرة، ويصح أن أقول ساخرة منه هو سخرية العالم. قال غريماس بإيجاز شديد، وقد وضع كوعيه على المنضدة، مُسنِدًا وجهه لراحتيه، وهو ينظر إلى السقف، وكأنه يبحث مثلي عن برق ضائع، والكلام مُوجَّه إلى الباحث المُرشَّح: قرأتُ أطروحتك وحسب تجربتي المتواضعة في البحث العلمي، فإني اكتشفتُ أنا الذي كنتُ أظن أني أفهم في البنيوية، بِنْيويَّة جديدة، ما رأيُك لو سميناها «البنيوية الكريمية» نسبة إلى اسم المُناقَش، ثم انصرف لبعض التفاصيل الصغيرة في دقائق معدودة، وظلَّ صامتًا ما تَبقَّى من جلسة المناقشة كأبي الهول.
بعد ساعة زمان انفض المجلس، وقد دافع المرشَّح عن نفسه باستماتة، ونال استحقاقَه العلمي وأَجْر مَن اجتهد، ولم أسمع، بعد ذلك، أو لا أعرف ماذا جرى لبنيويته، فيما قادتني «بنيوية» عينيها، مُذ جَلْسَتِنا تلك، إلى التهلكة، فقد خرجت وأنا أتبعها ككلب وَفِي، وصعدنا معًا أعلى شارع السان ميشال، ثم انعطفنا يسارًا إلى زنقة كلود برنار «وعدَوْنا فسبَقْنا ظِلَّنا» منحدرين، إلى أن انعطفنا في نهاية المنحدر، يمينًا إلى زنقة بروكا. وفي مصعد العمارة رقم ٣٥ ارتقينا لاهثين، ملفوفين بلهفتنا نطرد بها البرد، ونمني النفس بدفء العالم. وحين فَتحتُ باب الشقة وصرنا في الداخل نطق البرق إلى جانبي للمَرَّة الأولى: «الدفء هنا مناسب تمامًا لتعلُّم البنيوية. فتعالَ!»
(٢) محاكمة زفزاف
في سنوات سابقة على هذه الذكرى، كان «محمدوس – مثل الإله زيوس» بطل رواية «المرأة والوردة» لمحمد زفزاف قد قطع البوغاز، وحط الرحال في طوريمولينوس على شاطئ الكوستادل سول الإسباني، أي في هذه الرقعة التي تصورها تجسد الغرب مُطلقًا. رحل إلى هناك بحثًا عن الحرية، والكرامة والهواء غير المُلوَّث، وعن دفء العالم. وجاءته «سوز» الدنماركية هِبَة من السماء أو من الغرب فأطفأت عطشه، وأشبعت جوعه، وكل شيء. ثم استفاق محمدوس كإله روائي وربما حقيقي مع ذاته ليكتشف أن هذه الملكة أفخم من أن تَسوس معه مملكته، وبأن طوريمولينوس ليست أكثر من «حلم ليلة صيف» وأنهم له بالمِرْصاد والسَّوْط قبل وبعد الرحيل، ولدى العودة المحتومة؛ لأن دفء العالم، بالنسبة إلينا نحن أبناء الجنوب، حلم مُمعِن في الهروب وبَرْق خُلَّب. وفضَّل البطل/الكاتب، وهو يعود إلى «جحيم» المغرب بدءًا من طنجة، أن يعزل نفسه في غرفة فندق، ويَنْصب لنفسه، كضرب من الجلد الذاتي، مُحاكَمة شخصية يستحضر فيها كل شروط ورموز أي مُحاكَمة، عجيب حقًّا أن أي واحد من النقاد الطراطير لم يَنْتَبه إلى أن زفزاف قد استوحى، مثلًا، وبنضج، كافكا في روايته الشهيرة قبل أن يكتب صنع الله إبراهيم «اللجنة» بسنوات، فيا لَتعس مُغَنِّية الحي، ويا لبؤس النقد! ليصدر في حَقِّه حكمًا لا يستحقه، لا نَستحقه جميعًا، أن يَتحمَّل النفي والغربة والحرمان الأبدي في الوطن. تمر السنوات تباعًا والحرمان هو ذاته وأنكى، والأدب المغربي، عربيه، والمكتوب فيه بالفرنسية، لا يُعبِّر سوى عن هذه التيمة أو ما يحوم حولها، وتظل أرواح الكُتَّاب حوامة في هجرة الأطياف المترقرقة، بسعادة أو فرح لا يأتي. لا شيء يأتي. إلا في وَهْم وجوف الممتلئة بطونهم بالقَش، والمخمورة عيونهم بالاحتقار لهذا الشعب. وكلَّما طالت مسافة الحلم كلما تَقلَّص الأمل الذي عِشنا به طويلًا، وما نفعل اليوم سوى مُغالبة اليأس مُتشبِّثين برغبة الموت وقوفًا، مثل أشجار البياتي.
إنما للأشجار عمر أيضًا، وللفجر وقت يبزغ فيه مثل القمر ويمضي، وفَجرُنا نحن دونه الغيم الكثيف. الأعوام تَتوالى وهي تَطرُق باب العمر وتمضي ولا أحد يفتح؛ لأن المزلاج صدئ. ومَن في الداخل أشباح أو عناكب أو ذكريات مهتاجة بالحنين إلى ذكرياتها ولا سبيل. والوقت يا روحي، هو الآخَر، من صدأ، من غضب، من صَمْت، من غبن، من زُور، من دَجَل، من مَقْت ومَرارة، من دار لقمان، ومن كل هذا القرف.
«وبرغم الحزن الساكن فينا ليل نهار» أقول لك، وعام جديد يدق الباب: سأجرب أن أفرح، وحياتك، لخاطرك فقط، وأول ما سأحل ببيروت سأرسل موج المتوسط برُمَّته ليرقص لك ليلة العام الجديد، وسأطلب من الله، ومريم العذراء أن يغمر أيامك، أيامنا القادمة، بفيض المحبة، وأن يكشف عنَّا ما نحن فيه من غُمَّة.