البيان الأخير لذبول الورد
(١) ذكرى الماء
في غابة بولونيا أسلمتُ جسمي لساقيَّ، مهرولًا بأقصى نَفَسي، أبتَلِع الهواء، وأشرب الأخضر وبقايا أصفر راحل تحت سماء مُثقَلة حتى الطلق، والمطر المِدْرار يغسل وجهي ممتزجًا بعَرَقي، وعَرَقي يكسوني أنا العاري إلا من حزني سربالًا من ماء آخَر يهبط رأسًا إلى رَحِم الأرض، كان حَرِيًّا بالسَّيَّاب أن يقول بيتَه الشهير ذاك عن هذه الأرض، فما مرَّ عام وفرنسا ليس فيها مطر، إلى حد يدفع إلى القول بأن المطر هنا مظهر من مظاهر السيادة، وغير ذلك الماء يموج فوق سُرر مُعلَّقة بذكرى الشَّبَق الناري، انطفأ لُهاث الخصب في عيني، احتبس النَّفَس وخارت سيقان الهرولة، فدفعتُ أصابعي في طين الغابة المرتوية ورحتُ أستخرج العجين وأرمي به جزافًا كما لو أني سكنتُ ﺑ «المسلمين». كل هذا الجمال، كل هذا الارتواء لا يغريني بالجرح يمتد في أضلعي، يَغور من هناك إلى هنا، المطر المِدْرار يغسل وجهي ليس مَطري، والخُصوبة ليستْ لبلادي المُتقلِّبَة على نار جَفافها الحارق، بين الدار البيضاء والرِّباط لم أَحتسِ الأزرق، الأزرق، كما فعلتُ دائمًا كي أقاوم به استبداد الرَّمادي؛ بدا لي الأزرقُ طامَّةً كبرى، تأفَّفتُ منه، قلتُ أنا الذي يُضرِب عن العمل كلما تَبرَّجت الشمس في باريس: هذا كثير … اكسفي يا شمس ولْتَتكَبَّد سماء بلادي بالغيوم، فهذا كثير!
في جلسة تقليدية «بأكاديمية مرس السلطان» للمُتعَبِين مثلي، جلستُ على كرسي ذي ظهر عمودي، وهبطتُ على سلالم نَفْسِي إلى داخلي حاملًا بعض الدِّلاء بحثًا عن المياه الجوفية، وهالني أن أجد آخَرِين غيري يحملون الدِّلاء ويضربون بالفئوس في القاع ولا ماء. كانت دواخلنا جميعًا جافَّة خلافًا لما تَوهَّمت، أيُّنا يتطابق مع الطبيعة، هي أم نحن؟ تيبس حلقي فوضعتُ قدمي على السلالم كي أصعد فلم أجد لها أثرًا، أردتُ أن أصرخ فاكتشفتُ أني بلا صوت، كنا، صِرنا جميعًا بلا صوت، وأظن أننا سنبقى كذلك وقتًا آخَر إلى أن يدركنا الله بشآبيب رحمته ويرفع عنا هذا الجفاف.
(٢) موت كاتب
مات جَبْرا إبراهيم جَبْرا هناك في البعيد، أسلم الروح في مَيتَتَين؛ واحدة اسمها الموت الطبيعي، وثانية اسمها الموت في الحِصار، عجبتُ لكل الذين كتبوا عن موت هذا الأديب العملاق كيف نَسوا وتناسَوا أنه أمضى كل حياته وأعطى أعظم إبداعه في العراق. قرأتُهم، هؤلاء كُتَّاب وصحفيُّو السُّخرة، يكتبون عن وجود الرجل في «المُطلَق»، كأن شطَط الحصار الذي يعاني منه العراق اليوم ينبغي أن يضرب الماضي والذاكرة الجمالية والإبداعية. وجَبْرا، كما عرفتُه، كان يسكن حي المنصور في بغداد، ويعتني بحديقته، ويفرح بالقدَّاح البغدادي حين يشتعل حُمْرَة، وبعد أن يأخذك بالأحضان في دارته يُبادرك محتفيًا «اشلونك عيني … الله بلخير … هلَا … هلَا.» يقدم بعدها الشاي بالاستكان العراقي، وتحمل زوجته طبقًا من المَنِّ اشترَتْه من الأعظمية، وبين حديثٍ جِدِّي وآخر فَكِه يُسمعك وصلتين غنائيتين؛ واحدة من يوسف عمر وأخرى من زهور حسين، كان ذلك قبل أن ترحل هي وأحضر الفاتحة على روحها، وقد اتَّفق لي أن أُوجَد قبل عامين في بغداد احتضنَني وبكى. تَصوَّروا نخلةَ شِعر وبيان وأخْيِلَة تبكي، كأني سمعتُه يهمس محاولًا التَّشبُّث بجلد الأنبياء: الآن وقد رحلَت … آه، لم يبقَ لي إلا أنْ أرحلَ، وقد فعل، وفي العراق الأرض كلها تَتَّسع لبهائه وإبداعه، وبقي مع المحاصَرِين في الحصار إلى أن أسلم الرُّوح لباريها، يا كُتَّاب وصحفِيِّي السُّخرة، يا أنذال.
لأمر ما أرى في موت الكاتب دائمًا حدثًا استثنائيًّا، حدثًا خارقًا في طبيعة الموت نفسها، كأن قسمًا من الحياة، من الزمن يُطوَى في رفاته، حين يموت الكاتب لا تنكس الأعلام، لا تُطلِق المدافع ٢١ طلقة، لا يُعْلَن أي حداد، يستمر الناس في مشاغلهم اليومية، ويواصل الأدب الرديء جَرَّ ذيوله، لكن نجمة ما في السماء تنطفئ، ضوء القمر يَشحب في لحظة بارقة، بينا مساحة الأرض تضيق والحزن منتشر من دمع المحيط إلى نحيب الخليج، والملائكة تعبر فوقه، معه، وأنا تحت أراني أتلو البيان الأخير لذبول الورد.