زفرات فوات الأوان
(١) لذكرى ناصر
الولد المتأبط نحولته كخيط ممدود من السماء، لا يدرك الأرض إلا أن تدرك حِسَّه الخافت كتنهيدة مُرَجَّعة «إن مسها ضر مَسَّته أضرار»، يعبر الأزقة الخلفية لحي مرس السلطان البيضاوي لكيلا يُرى خشية أن يَرى نفسه أو صورته في الهمس الذي يفتح له الطريق، بخطوة كأنها تخاف أن تطأ الأرض أو تعلو فوقها قليلًا، لتكاد تصبح رفيقًا للفتى الذي ينهر جسده في ارتعاشات متوالية عساه يضمه ليختلج هو والسر المكنون الذي لم يُبِح به لأحد، ولا لقلبه، آه!
من يعرف قلبه؟ هل كان هو نفسه يعرفه؟ من يعرف منا هذا النبض الذي يرج بين تضاريس الدار البيضاء المهولة؟ أكلَتْنا، طحنَتْنا، عجَنَتْنا بالتراب والنبيذ والغبار والعرق. وحين نلتفتُ قليلًا نرى أجسادنا المنحوتة في حيطانها وأرصفتها المتآكلة تلاحق أشباحنا الضامرة اليوم وهي تَخُوض في ذكرى فوات الأوان، وفي ذكراه. كيف يقصم الموت ظَهْر ما نظنه حياة ليحولها ببساطة، بعبث مُتناهٍ إلى مُجرَّد ذكرى، لكنها معه لم تكن حتمًا عابرة؟ وسأتحير دائمًا لأني حاولتُ مرارًا أن ألمس هكذا بأصابعي، أن أقبض باليد المرتعشة ضحكة منه لاهية تفترش وجهه، وتنتشر حوله، ترقص أطيافًا، وتسبح غمرًا، وتبذل، تبذل كما لم يبذل ذلك الطائي العربي القديم.
عَنَيْتُك أنت ناصر برادة، أنت هنا معي في الحاضر، حاضري، صوتك نَدِي، له خرير ماء سقاية بفاس المعتقة، أراك الآن كما ستكون دائمًا تذكو، وتزهو، وتلهو، وتشرب بحياتك نخب موتنا القديم عسانا نحيا لنعيش فيك لأنك أبقى.
(٢) لذكرى حمودة
كنتُ قد دلفتُ إلى الجريدة ذاك الصباح خفيفًا، رقيق الروح، شجتُّها أيضًا. مثل حاج في الإحرام، أو مثلما يحدث لي وأنا أزور متحف البرادو كلما حلَلتُ بمدريد. أراهم شباب الجريدة مُنْكبِّين على مقالاتهم، تحقيقاتهم، أخبارهم وهموم الناس، ولا أراه هو؛ لأن بصري عادةً ما يمتد إلى الأفق، ولا ينحني أبدًا إلا إذا أكبَّ على نفسه. ربما بدا لي الأفق صباحئذٍ أَغبرَ، مُشوَّشًا، وأنا لستُ موقنًا من شيء إلا يقيني، بعد انحناء الرأس على الصدر، أني رأيتُه، كالصُّدْفة، كالفجاءة، كالهاجس المِلحاح أو فرخ يفقس قِشْرته ليغدو للتَّوِّ أمامك فرخًا مُنتفضًا، خفيف الزَّغَب، رقيق الحاشية، لا يستطيع أن يقوم، فلو توكأ على عظامه لانهدم. لو، وهو لم يفعلها. لم يرَ ما يُعجِب ولا رآني فأكبَّ على ريشه الخفيف وسلَّ منه واحدة، وطفق يرسم العالم ملء المرارة.
حين واراه زملاؤه وأصدقاؤه التراب في «مقبرة الغفران»، المخصصة تقريبًا لفقراء الدار البيضاء، عادوا إلى الجريدة وقد حَسِبوا أنهم تركوا «حمودة» خلفهم، تحت التراب، وأنهم بطريقة أو بأخرى سيستأنفون عملهم اليومي، ملء النشاط اليومي لكنهم وجدوه في المدخل يستقبلهم واحدًا، واحدًا، ثم يقودهم نحو طاولاتهم حيث رسم لهم صورًا ضاحكة. لعلهم فَهِموا ولم يَفْهَموا، هم تَعوَّدوا رسومه الساخرة، ولكنَّهم فُوجِئوا بهذه الروح الضاحكة. وحده عبد الحميد بن داود فَهِم اللعبة فمَسَّد لحيته وهو ينظر إلى داخله كعادته، وانكب على ورقة يحرر أول «فاكس» إلى الآخرة لترعى روح الكاريكاتور حيًّا وميِّتًا.
أما العبد لله هذا، وبعد أن شارك في التشييع وقفل عائدًا إلى عزلته فإنه لم يعرف كيف يبكي ولا كيف يضحك، وإن استغرق في تأمُّل ساخر وَجيز فحواه: أَلسْنا نَسخر مِنَ الآخَرِين، ومن أنفسنا ومن الموهوبين الحقيقيين منا، وهم قلة، حين نَنساهم مدى العمر وهم إلى جوارنا ولا نَتذكَّرهم إلا حين يغادروننا خلسة كأنما ليتخلصوا من نكرانا لينطلقوا في فضاء الموت الرحب … لنذهب أحرارًا نحن الطلقاء.
(٣) لعبد الرحمن منیف
يعرف الجميع ولا أحد يعرفه، منذ أن قرر «أبو عوف» أن يقطع حَبْل الزور والجور، ويتمرد على أخلاق القبيلة، أدخل نفسه بوعي في نفق المجهول، ها هو ذا يجوب البلدان والعواصم، أجنبية وعربية، بلا هوية؛ أي بلا بطاقة للتعريف وجواز سفر يحملان جنسيته الأصلية. عجيب أمر هذه الأنظمة العربية تحكم الأرض بطولها، وتتحكم في رقاب البشر، وتُحدِّد مصائر الناس من المهد إلى اللحد، وتريد، إلى هذا، أن تَتدخَّل في إرادة الله التي اقتضت أن يولد هذا المخلوق هنا وليس هناك، فتنزع أو تسقط الجنسية أو تحرم من حقوق المُواطَنة التي لا تملك منها شيئًا وينسحب ذلك على البنين والسلالة كلها. أيُّ استبداد وفظاعة أكثر من هذا؟!
عرفت عبد الرحمن منيف على هذه الحال للمرة الأولى، في بغداد، في نهاية السبعينيات، وما سمعته يشكو من شيء، هو لا يشكو من شيء ولا أحد أبدًا، وإن تألَّم فمن أجل أبنائه فقط، يضطر للتنقل بهم من بلد إلى آخر كلما ضاق العيش أو غامت الرؤية. في سنوات منفاه بباريس توثَّقَت بيننا العلاقة كصديقين. والمرحوم الباهي واسطة العقد بيننا. في هذه العاصمة المذهلة اكتشفت أن عبد الرحمن عثر على إرم ذات العماد، أعني فَنَّ الرواية الذي أصبح له وطنًا، وهو الذي يملي عليه شروط الجنسية وأصولها وأخلاقها وجمالها. كانت رواية «الأشجار واغتيال مرزوق» قد أَمْسَت ذكرى بعيدة، وكذا الروايات اللاحقة بها. وفي «بولوني» بالضاحية الباريسية حيث عاش الرجل بدون راتب، وبمدخرات قليلة شرع في وضع اللمسات الأولى لخريطة وطن أدبي عظیم اسمه «مدن الملح»، بعد انتهائه من وضع الرواية المشترَكة بينه والمرحوم جبرا إبراهيم جبرا «عالَم بلا خرائط»، التي سلَّمَني مخطوطها بتواضع جم كي أبدي رأيي فيها قبل النَّشْر، وأنا مَدين له بهذا الصنيع الذي تَعلَّمتُ منه الكثير. أما «مدن الملح» فهي على ما نعرف جميعًا من شساعة فضاء، وتعدُّد شخصيات ومصائر وتماسُك بِناء وحبكة، وغزارة معنًى، وعمق التزام بالقضايا الجوهرية التي رهن لها أبو عوف حياته كلها وما يزال. لهذه الأسباب فإنه فخر للرواية العربية أن ينال منيف جائزتها الأولى التي مُنِحَت في القاهرة مؤخَّرًا، وحبذا أن يتعلم منه كل مَن يخوض هذا الدرب بأن الرواية نفس طویل عماده الموهبة والثقافة ورحابة الخيال، والتزام الموقف الصادق والأصيل.
(٤) لمحمد الأغضف
اختفيت عن ناظري زمنًا طال عندي رغم قصره، فقد ألفتُ مُجالستك وحاجتي مُلِحَّة لابتسامتك الغامضة، هناك أشخاص يبتسمون دومًا ببلاهة أو بسخاء غير مبرر، أما أنت بأرومتك الصحراوية فتضع لكل شيء ميزانًا ومنه حساب البنية المتينة، إلا هذه المرة، أو هذا ما خُيِّل إليك، لم يضبط معك الحساب في حين كان عليك أن تعلم أن رواية «مدينة براقش» التي أهديتُك حمَّالة الغاز ومتاعب، بادرت للكتابة عنها فيما تقاعس مَن يَعُدُّون فرْضًا من أولي الاختصاص، وقدَّمْتَ مقالكَ لتلك الجريدة وجلستَ تنتظر صدوره، وفي الانتظار غِبتَ عن الأنظار، وفاتَك أن اسمي منبوذ فيها. فإن ذُكِر فعَرَضًا أو ليَنال منه واحد من الطراطير المختصين بالتهريج النقدي فيها، فاتك أيها العزيز الأغضف أنِّي نبذتُها هي وفصائلها مما يقطر زيتًا وشحمًا وأصباغًا، وما واتتني فرصة إلا وشنَّعْت على عالم دَجَلها ورغبتها في الهيمنة في مشارق الأرض ومغاربها.
لَكَم قلتُ للأصدقاء والمعارف من حملة الأقلام بأننا لا يمكن أن نحمل أفكار التقدم والتنوير، ونضع أنفسنا في وقت واحد للسُّخرة في بيوت الاستعباد والتدجين، ومقابل ماذا؟ لقاء دريهمات؛ أي إننا نحن الكُتَّاب والمثقفين الذي نرهن وجودنا لقيم الديمقراطية والتغيير وكرامة الإنسان دخَلْنا بورصة المقايَضة، وبِتْنا على استعداد لبيع كل شيء بالمال، وأنت تعرف أن بضاعتنا كاسدة، لا بأس ليست للبيع ولا الشراء، وهذا أفضل وأريح. أنا لا ألومك إذ تعمل في تلك الجريدة، فأنتَ صحفي بحق تعرف حدودك ولا تجهر أمام أحد بأنك تريد تغيير العالم، مثل أولئك الصحفيين العرب الذين التقيتُهم في بيروت أو العواصم الغربية، وأراهم كل يوم في حال ومكان، فيَردُّون على استغرابي بصفاقة قائلين ألَّا أهمية للمكان، بل الأهم هو ما تَتفتَّق عنه قرائحهم المدهونة طبعًا بالزيت والشحم والأصباغ. ها أنت تُلاحِظ أن العدوى قد لَحِقَتنا، وأن فضاء الحلم يضيق، ولكن ثِق فرغم صَمْتهم فإن غيلان «مدينة براقش» ستهاجم كل مكان، وثِق بعد هذا وذاك بأن صداقتنا هي الأبقى، أما الزَّبد، كيفما كان لونه، فيذهب.
(٥) لمؤتمر القاهرة
كتبت عن مؤتمر الرواية العربية بالقاهرة، وبقي في نفسي شيء من حتى، هذا الشيء لصيق بشئون الكُتَّاب قبل أن ينشغل بنصوصهم، لستُ وصيًّا على أحد ولا أعتبر نفسي قدوةً لأحد، لكن ثَمَّة مِن الحقائق والظواهر ما يُغضِب، والسكوت عنها تواطؤ وقبول لاستشرائها ومن قبيله نزوع الناس، بل تهافتهم، للحصول على «عضوية» المؤتمرات.
ما أعرفه وأفهمه، بالاقتناع والتجربة، أن يُدْعَى المرء للمشارَكة في مؤتمر أو الإسهام في ندوة فيحس لدى تلقيه الدعوة أنه طرف مَعنِي بها حقًّا، جدير بالحضور فيها، قادر ومؤهَّل إبداعيًّا أو فكريًّا، حسب الموقف فيقف بين رجالاتها بلا غضب، ولا أي إحساس بأنه ليس أكثر من قطعة للزينة أو أداة للتَّلهِّي، وقد صادفت في المؤتمرات العربية والأجنبية، أيضًا، أخلاطًا من البشر يجعلونك تتساءل إن لم تكن قد أضعتَ العنوان الصحيح، وابتُلِيتَ عنوةً أو صُدفةً بما لا شأن لك به، ومرةً قال لي أحد المسئولين: لماذا تُحمِّل نفْسَك هذا الهم، خُض مع الخائضين وهو يقصد نقرة الصحون والأبواق المتجولة بين القاعات الممرات ومستعرضي ذواتهم مثل بضاعة عَفَى عليها الزمن.
وإنك لتستغرب حقًّا كيف يتجشم بعض الناس مَشاقَّ السفر، والتنقل بين المطارات والفنادق، والازدحام وراء صفوف الطعام وما في جعبتهم شيء، ليتزينوا غدًا بنياشين المشارَكة في مؤتمرات غالبًا ما تُسخَّر لأغراض دعائية. وقد وجدتُ عَيِّنة من هؤلاء في مؤتمر القاهرة، كما وجدت أفرادًا غرباء ملتزمين الصمت واحترام العالم والأديب لنفسه، متسائلين في رءوسهم ماذا يحدث للدنيا؟ وهل هكذا سينهض الفكر والأدب في دنيا العرب؟ ومن حُسْن الحظ أن من هؤلاء بقية، فلِمِثْلهم تُشدُّ الرحال، ويخف الإحساس بالقرف في نهاية المطاف.
في روايته البديعة «عالم صغير جدًّا» يسخر الروائي البريطاني دفيد لودج من هؤلاء الناس جميعًا. أما خوان غويتسولو فإنه يروي في كتابه الأخير «غابة الكتابة» كيف حاوَل أحد مسئولي الثقافة في بلاده إقناعه بالمشاركة في مؤتمر أدبي في الخارج بحجة وجود أربعين روائيًّا في المناسبة، فما كان منه إلا أن تَشبَّث بموقفه مستغربًا كيف يمكن أن يوجد هذا العدد من الروائيين في العالم كله، وإني لألتقط منه الآن هذا الاستغراب، وإن بعد فوات الأوان!