زبد آخر للأيام
(١) هوية الهاوية
يمثل البحث عن الهُوِيَّة مُرتَكزًا أساسًا من مُرتكَزات التفكير في الإبداع الأدبي الغربي، والروائي منه خاصَّةً، إن لم يكن عماده الأم. لقد كان ظهور الرواية جنسًا أدبيًّا حديثًا تعبيرًا، من بين أمور أخرى، عن تَوجُّه الكتاب، في خِضَم الانقلابات الكبرى للقرنين الثامن والتاسع عشر، لإعادة تأسيس الهُوِيَّة الجماعية والفردية في آنٍ، بل ولتقديم بعض الأجوبة — وهي مُضمَرة على الأغلب — عن أنماط من التوتر هي بنت التغيرات الاقتصادية والصناعية والاجتماعية، بدت الذات المُفرَدة مسرحًا لها، ومختبَرًا لتفاعل تلك التغيرات جميعًا مع أنا مأزومة أو مُشوَّشة هي، لو صحَّ التعبير، في طَوْر جديد من صُنْع أَناهَا، وتحديد هُوِيَّة مختصة بها، أي بقِيَم غير التي كانت سائدة مع الإقطاع وسُلطة الكنيسة والفروسية، وبوسائط فنية لا شك أن الرواية هي إحدى أشكالها المعقدة والمركبة بامتياز.
وإذا كان العديد من الدارسين للرواية الغربية، والكتابة السردية عمومًا، يُبرِزون قُدرَتها التخييلية، أو نزوعها إلى طرح إبدالات عن الواقع قوامها ما هو مُحتمَل الوقوع، كما هو الشأن مع أبرز أعمال النصف الثاني من القرن الماضي، وصولًا إلى ما هو فوق الواقع أو الخارج عن المألوف طُرًّا، كما في نموذج مُعيَّن من روايات كافكا؛ إذا كان الأمر على ما نرى، فإن القُطْب الفكري أو التأمُّلي في الرواية المذكورة يظهر لنا قاعدتها المركزية، ومادَّته على الدوام تقريبًا البحث عن أو في هُوِيَّة مُعيَّنة. أو ليس ذلك هو ما تسعى إلى تشخيصه كتابةً تصور انبثاق طبقة اجتماعية ومالية جديدة، وسعي أفرادها إلى العثور على مكان في العالم وقلق دائم من المصير يُساوِرُهم رغم كل التبدلات المجزية حولهم؛ قلق لا يمكن تفسيره إلا بالرحيل النهائي لكل ما هو طُوباوي. من المُفارِق حقًّا، لمن يدرس الرواية العربية، وكيفيات تَشكُّلها النصي، أن يُلاحِظ مدى ابتعادها عن هذا النزوع وذاك، وتخبطها في الشأن التكويني أو التَّخلُّقي زمنًا طويلًا دون أن تحسم فيه. وهي لم تكن مَعنِيَّة بسؤال الهُوِيَّة إلا ضمن الشاغل العام للثقافة السياسية والاجتماعية للمرحلة، وليس كسؤال تأمُّلي بعد أن يكون قد أشبع بأسئلة الواقع وأزماته. لا بل على العكس، إن هذه الأخيرة كانت وما تزال في أكبر حِصَّة من الأعمال الروائية العربية، أو التي نصطلح على تسميتها كذلك بقوة الأشياء، هي مدار الاهتمام الأول، وكأن الكاتب العربي قد اصطدم بجنس الرواية في أسوأ حادث من نوعه. والحق أن من ينظر إلى روايتنا بطبيعتها الحكائية ومواضيعها وأزَماتها وتحقيقاتها الواقعية الطويلة، سيدرك أن الجنس الأدبي فيها ليس موجودًا إلا كشكل فضفاض، فضلًا عن خُلوِّها، إلا فيما ندر، من سؤال الهُويَّة الذي يُعدُّ مُتخللًا للرواية، مُستبطنًا لها وليس مفروضًا عليها عنوةً وتفلسفًا.
أستحضر هذه الملاحظات وقد فرغتُ توًّا من قراءة آخر رواية كتبها الروائي التشيكي ميلان كانديرا، وهي مثل عنوانها تثير بالفعل مُشكِل الهُوِيَّة من خلال الحكاية المسرودة، في هذا العمل الجديد الذي يوقعه صاحبه بالفرنسية، ويعرض فيه التاريخ السِّرِّي لشخصين في علاقة حب يعيدان اكتشاف بعضهما في صدفة محض. لا يتَّسِع المجال لسَرْد أطراف الحكاية، فضلًا عن أنه لا توجد أي حكاية بالمعنى المتعارَف عليه، ذلك أن كل ما تبحث فيه الرواية الغربية وتضعه — راهنًا — حبكتها هو غرس علاقة المفارَقة ومحاوَلة النبش في ظاهر اليد للوصول إلى عمق مُفترَض، إلى الهُوِيَّة مثلًا. وبالنسبة لشانتال وجان مارك، فإن كل شيء في حبهما على ما يرام، والصُّدفة وحدها أو الاتفاق شبه الاعتباطي على ترتيب لقاء في عطلة نهاية أسبوع في مُصطاف بحري، هو ما سيدفع الواحد منهما لإعادة اكتشاف الآخر، ومن خلاله اكتشاف ذاته أيضًا.
عمومًا، وكما أسلفنا، فإن مسألة الهُوِيَّة هي مِهْمَاز الرواية الغربية، وعند كونديرا فهي تُمثِّل صُلب مشروعه كله، سواء كمنتج مباشر للسرد، ثم كممارس للتأويل والتنظير للرواية. وقد أمكنني تَتبُّع أعماله كلها تقريبًا، كما كتبتُ عن أغلبها، يُحفِّزني على ذلك مواصلة معرفة كيف يمكن المزاوَجة بمهارة بين إنجاز حفريات في تاريخ الرواية وإنجازاتها الكبرى نظريًّا، وفي الآن نفسه المشارَكة في هذا الإنجاز بِهوِيَّة إبداعية خصوصية. ربما كان الحافز الصامت هو انخراطي الشخصي في تركيب طرفي هذه المعادَلة، وهو طموح موجود عند كثير من الروائيين من كل الجنسيات، وخاصَّةً أولئك الذي ينتمون إلى ثقافات تعتبر الرواية، إلى جانب كونها حقلًا لخصوبة التخييل، المضمار الذي تتناسل فيه أسئلة الوجود والمصير. أسئلة يعالجها الروائي على طريقته، أي بعيدًا عن التورط النظري والمماحَكة الفكرية السمجة، وبتفاعل حي مع المحيط والمَعِيش اليومِيَّين.
ويخيل إليَّ أن هذين التركيبين قد باتَا إما مُنفصلَين عن ذات الكاتب ومخيلته، أو أن هذا الأخير فقد الإحساس بهما، عدا الإحساس الفاتر، المتراخي والعصابي بنفسه، ما جعل الرواية الغربية وهي تواصل دومًا مسعى تشخيص وتعميق مفهوم مُعيَّن للهوية تفقد هويتها مطلقًا، وضعًا، ودلالة، وشكلًا فنِّيًّا كذلك. هكذا أجدني فجأة أمام كونديرا بلا هوية، هو الذي لم يفعل شيئًا طوال حياته سوى محاولة تأصيلها بضراوة، تمامًا كما أجدني وأنا أنتهي من قراءة أي رواية عربية متسائلًا: وبعدُ، متى سنشرع في طرح سؤال الهوية بطريقة إبداعية حقًّا؟
(٢) هموم أخرى
للكُتَّاب العرب هموم أخرى، وأنا مُقتنع تمامًا بأنهم غير مَعنيين بكلامي هذا، أي بهذا الكلام المكتوب بالعربية التي سئموها حتى باتوا لا يعرفون ماذا يفعلون بها أو تفعل بهم. وبالمناسبة، فإن هنالك شطرًا من الحقيقة فيما أقول، فنحن نفترض سلفًا أن مَن يعلن وضعه كاتبًا أو شاعرًا، أديبًا باختصار، في لغة ما، أنه يجيدها. لن أذهب إلى حدِّ مطالبته بالإحاطة بأسرارها والتمكن من سحر بلاغتها وإعجاز بيانها، فهذا بات مطلبًا مستحيلًا شأن وأقل من مَطالب أخرى، وكل قصدي أن هذه اللغة تسلس له القياد بأيسر السبل لا بأعسرها، وتأتي على اللسان والقلم مطواعًا لا ركيكة، هَجينة، سَقيمة بالعجمة أو محمولة على عكاكيز ما أكثرها.
الحاصل أن لهؤلاء الكُتاب همومًا أخرى وما أراهم إلا حسنًا يفعلون، وخاصَّةً حين يلاحقون العَجزة والحِرَفِيِّين من المستشرقين أو المستعربين أو المستعربات، ومن لَفَّ لَفَّهم ولَفَّهُن مِمن يُحْسَب على العربية لغةً وثقافةً وأرومةً، مستعطفين، مُتغَزِّلين، مُناشدينهم بكل أنواع التوسُّل والتَّسوُّل، طبعًا عبر إظهار فذاذة عبقريتهم وطول باعهم في كذا إلخ … لكي تفتح لهم عن طريق هؤلاء — الترجمة إلى اللغات الأجنبية — الطريق إلى الشُّهرة، ورأسًا لتداعب جائزة نوبل نعاسهم ليلة بعد ليلة حتى … ولقد رأيتُ في غير مؤتمر أدبي عربي هذا المستشرق أو ذاك المستعرب، لا تراه يفهم في لغتنا وثقافتنا، ودَعْك من هُوِيَّتنا، إلا النَّزْر اليسير، إلا أنه مُحاط بكل الإعجاب، وأي قول أو رأي يدلي به تجده محطَّ تنويه، وخَلْفه حاشية تلتقط كالدجاج ما يتساقط من «دُرَره» أملًا في دخول اسمها إلى سِجلَّات الخلود بعد الحصول على «رخصة» الترجمة. في تلك الجلسة النقدية التي خُصِّصت في بلد عربي لمناقشة بعض أوهام الرواية العربية وقَفتْ كاتبة عربية لا يُحْمَد عُقبی مَن يواجهها بالخير قبل الشر، لتعلن بأنها لن تقبل أي رأي نقدي من العرب بعد أن ترجمت روايتها — أظن مقاطع من روايتها على الأرجح — إلى الألمانية … وأنا قال لي مترجمي الألماني … وأن الألمان هم الذين يفهمون الأدب وفي الأدب وليس مثلنا — أي نحن الحمير الذين لا نفهم إلا في قلة الأدب — وأنا كنتُ أريد أن أسألها، وأمثالها، متى سيُتَرْجَم كلامها إلى العربية … أجل إلى العربية.