قُبُلات كالفَرَاشات
(١) طريق البنفسج
سأجترح صَمْت مَن تَولَّه بك، وراح يسكب الْتِيَاعه في ورَع زائف، لست صاحبه. بدت الطريق طويلة من ذلك الربع الشمالي الذي كنته، كنت فيه، لا يزال الطريق لسانًا يمتد مني كسفينة تمخر العباب، هذا العباب، ولا ترتضي غير اسمك مَسراها ومجراها، والمَرسى أين؟ الذهاب والإياب، فألف ذهاب آخَر كيلا أجد غير الإياب إليك، الألفة المتيسرة فيما سلف قد استعصت فيما خلف، وها الروح تنوح ولا تدري أين المقر.
ثم هي الطريق أقصر ممَّا تتصور العين في نظرتها المُجرَّدة. ظهرت الشجرة للسائق بغتة في الطريق، ينقل جسده حملًا أبدًا كما ظنَّه، فإذا هو أضمر من برد بشار، ذلك الشاعر القديم قِدَم أوهامي. كان ناقلًا بقية نعاس مُتخمِّر هي أعتق ما في دِنَانه، ذاهبًا من رباط فارهة الارتخاء إلى الدار البيضاء التي ستبقى كلفًا بها رغم وحشيتها الجديدة، باتجاه برشيد، إحدى عواصم العالم كما أزعم، رغم أن الدنيا لا قامتْ ولا قعدتْ بسبب كتاب، مُجرَّد كتاب واحد، لم يصدر عنها، لتعداد مناقبها، كما يحدث مع مدن أخرى!
في الكلية كان المُدرَّج بانتظاري، وهو لي بالمرصاد حيثما حلَلتُ. عليَّ أن أواجه طلابًا شغوفين بالحياة، مُتطلِّعِين إلى غدٍ مجهول يدعى دار المستقبل أو «المستقلب» كما رأيتُ أطفالًا يعبثون عن صواب بلافتة في الطريق تحمل هذا الرسم. كنت ذاهبًا إليهم في صباح ربيعي شائق، عن يميني ضفاف بوزنيقة، على شمالي تلال خضراء تختفي خلفها سهول بن سليمان الخصبة، وفي الوسط ذاكرتي وهي تكاد تتفجر بالذكريات والأسماء. من يقود السيارة؟ من يقعد خلف مقودها؟ لا أعلم بالضبط أنا أم شخص آخر؟ أظن أني هو وآخَر، بل إنهما في منتهى التعدد، دَيدَنُهما التكاثر حتى لا نهايات العد. ولم أكن أعرف مَن هو الذاهب اليوم لإلقاء المحاضرة، والوقوف في المُدرَّج قُبالة طلبة شغوفين بالحياة، وأي علم سيحمل إليهم هو الذي يكاد دماغه ينفجر بالمَشاهد والأسماء، وفي المقعد الخلفي للسيارة حزمة كتب، لمقاطع في كتب ينبغي الاستشهاد بها، وأنا لا أعي بالضبط كيف ينبغي أمام هؤلاء الناس أن أُرتِّب أسماء الأعلام؛ الجاحظ، ابن خلدون، ماكس فيبر، ثم باسكال بروكنر في هذا المبحث العام الذي نخوض فيه عن سوسيولوجيا الثقافة. وتَفطنتُ أني نَسيتُ ما حسبته أهم من هذا كله، أي ما سأقدح به زناد روحي لكي تشتعل هذا الصباح وتقول أمام الطلبة ما ينبغي أن يقال ويُدوَّن، ولا شك أنهم سيُمْتَحنون فيه غدًا — يا للغرابة — وغَدُنا جميعًا مُعلَّق في المجهول، أقصد غدهم. أما أنا فقد كنت أتخبط في أمواج الماضي. لا أمل من ترداد عبارة فيتوريو غاسمان، الأثيرة لديَّ بأن «مستقبلي ورائي». ثم فَكَّرت بأن مثل هذا الكلام قابل للتأويل بالابتئاس، والشباب لا قِبَل له بالبؤس والمبتئسين الخائبين. أراهم في الحديقة المنشرحة للكلية، وقد عادوا من العطلة، تطير القُبُلات منهم بين الشفاه والوَجَنات كالفراشات. أغبطهم، بل أغبطهم بشدة، وأخشى أن أقول إني أحسدهم. لم يحصل شيء من هذا لنا في تلك الستينيات الموحشة. عرفتُ طالبًا كان مَتيَّمًا بزميلة له يكاد يفعلها في سراويله إذا التقَت عيناها بعينيه، أما القُبلة فلَكَ أن تطول السماء السابعة ولا تطولها، أخشى أن يكون هذا بداية شعور بالتقدُّم في السن، وهو شعور منبوذ لدي؛ لأنني كلما هرولتُ في الغابات والطُّرق السيارة أحس بأن العمر ما زال ممتدًّا أمامي، والجمال، وأنا، أيضًا أنال نصيبي من القُبلات.
وباغَتَتنِي في الطريق الشجرة، دفعة واحدة، نطق الربيع بجميع اللغات، اختلطت اللغات، لا بل تَجاسَدت وتعانَقت ملء السمع والبصر والإحساس بها فوق لحمي. لحمي الذي احتَرَّ بغتةً مثل خد عذراء طَبَع عليها الحبيب أوَّل قُبلة، ولاذ بعدها إلى الأحلام، هي شجرة البنفسج، البنفسجية. يا ويلي منها، يا خوفي عليها. كانت هلاكي الأول في مراكش الشمطاء. حين أينعَتْ وشَعشعتْ بلونها استعادَت المدينة شبابها، هي شبابها. في حذر أغصانها وأوراقها وفروعها طرق علينا اللون الباب، ودون استئذان بالدخول شملنا بالبنفسج، فنمنا، واحترزنا، وحلمنا بجميع اللغات. حَسِبتُني نسيتُها، حَسِبْنا اللون ينسى، ومنذ وقت لم أَشَم عن قرب رائحة ذكراها، وها هي ذي الطريق تعيدني إلى وضع البنفسج. كانت السيارة محشورة في حرش من العشب البري النافر بعد أن انزاحت هي وصاحبها عن الطريق. لا، بل، إنها أوغلت قليلًا داخل الحقل إلى الجانب. اقتادت سَيرَها وحْدَها فلا أظن أني قُدتُها، كأنما هي مشدودة إلى جاذبية، وتوقفت أخيرًا بدون تدخُّل منِّي على مبعدة مترين تقريبًا؛ أي على تَماسٍّ من الظل الخفيف الوارف من الشجرة. فتحتُ باب السيارة بلا وعي. هذا ما أتذَكَّره اللحظة أثناء كتابة هذه الكلمات. بلا وعي تَقدَّمتُ نحوها، أعني نحو اللون. بهيبة، بخشوع، كالداخل إلى محراب، المتأهب لطقس قرباني. لا أملك من قربان غير بقية من دم في عروقي، ولفحها الذي لا يزول حتى وقد تباعدت وتعالَت مُتخفِّية خلف سحابة وحدها تملك سِرَّها. ولم أدهش حين رأيتها هي والبنفسج يخرجان من بعضهما، وأنا أصطحبهما في رقصة لا أذكر متى بدأت، والأكيد الوحيد أنها ما زالت تدور، وكل ربيع وأنت بنفسج.
(٢) «لصوص الجَمال»
هذا كله، والأسماء الراقدة بالمقعد الخلفي للسيارة تُواصِل مناوشتي، وأنا أحاول التوفيق بين تباعدها الظاهري على الأقل وبين حقل الجمال الممتد أمامي، وقد خطر لي للتَّوِّ أن أفضل طريقة لتذكُّر الأشياء هي استبعادها لحينٍ فما تلبث أن تراها تسلس لك القياد. أظن أن ما كنتُ أفكر فيه من البداية، أو أحاول القبض عليه، والزمن المُمْعِن في هروبه ومعه تنطوي، أو بالأحرى تغتصب كل الأسماء والعلامات والأشياء الجميلة. ثم أفكر في القوى الرهيبة المتسلطة، العَلنية والمُبْهمة، المُتسَلِّطة على بني البشر تمارِس بهم وعليهم مختلف أشكال الانتهاك. أوه، كلَّا، لا أحاول بناء أو استقراء أي فلسفة، فإن ذلك خارج مدار اهتمامي. حسبي الرَّصَد ونعم الوكيل.
في هذا السفر الحكائي البديع — علينا ألَّا نملَّ من تكرار ألَّا رواية بدون حكاية فذة مروية بتماسك — يختصر لنا بروكنر، هذا الروائي الذي من زماننا وجيلنا، إحدى أزمات أو مُعضِلات العصر في صورة ما يَتعرَّض له جَمال الآخَرين، السالف والأحياء، من سرقةٍ إبداعًا وجسدًا. ذاك ما تمثله من جانب شخصية بنجامان الذي سينسج رواية كاملة بانتحال أعمال الآخَرِين وافتضاض أرواحهم، وصولًا حتى إلى العبارات المُوحية والكلمات المُنِيرة. هَمُّ بنجامان أن يصبح كاتبًا بأي ثمن، وهذا حال لو تعلمون كثير. وسيطبع كتابه (= روايته) ويتوفَّر له حظ مِن الشهرة المبنية على الزيف والغش، التي ستنطلي على الجميع زمنًا إلى أن يسقط في حبائل هيلين، ضمير الإبداع والجَمال اليقظ، فتبتزه بدورها ابتزازًا خاصًّا مقابل السكوت عن جريرته، بأن يصبح عشيقًا لها، وفي مرتبة التابع، باعتبارها الأصل وهو الناسخ، السارق.
وما لن يخطر ببالهما معًا هو وجود قوة رهيبة أعتى في السطو وأبغى في تدمير الجمال، المتمثلة في شخصية جيروم، المحامي الستيني، المنكفئ بعيدًا عن باريس في مُنتجَع جبلي للثلوج، هو وتابعه القميء ريمون، العبد المطيع، المتواطئ والمُنفِّذ لكل خططه الجهنمية وفرانسيسكا زوجة جيروم بوصفها المشرفة على الخطط، وبالخصوص واضعة فلسفة و«أيديولوجيا» نَهْب الجَمال وإتلافه، منظورًا إليه كقوة مُدمِّرة شأنها شأن أي قوة شريرة في الحياة.
هؤلاء الثلاثة دَيدَنهم اختطاف أجمل الفتيات والحسناوات، وسجنهن في الأنفاق تحت المنتجع زمنًا طويلًا في وضع بالغ الازدراء والعسف إلى أن يذوي جمالهن، ويتحولن في وقت وجيز إلى عجائز وأعمارهن الحقيقية لم تتخط سن الشباب بعدُ. وهو ذاته المصير الذي سيحيق بهيلين صديقة بنجامان. هذا الذي سيحمل القصة، الحكاية بأكملها، ليرويها للطبيبة النفسية في حراستها الليلية بالمستشفى الباريسي، بعد أن أضاع كل شيء، هيلين، والجَمال ويقينه، وأضاعت هي بدورها صديقها، فردناند الذي يكمل حلقة التسلط والبغي في إتلاف كل ما هو جميل.
عبر الطبيبة ستسرد الرواية بكاملها، في تكويناتها المتعددة، وتمفصلاتها، وسيناريوهاتها المتراكبة ذات الخانات المتصلة–المتخاطبة، وسيقف القارئ، وهو يسمع إلى المريض السارد، على أبشع الصور والمواقف المثيرة في تدمير الجَمال، ومن ثم، وعَبْر هذا الفعل، إلى تحويله إلى جمال مُضاد. بهذه الوتيرة يمسي «المسخ» الكافكاوي شكلًا مُبدَّهًا في الحياة الحديثة حيث عقيدة القبح أو «أيديولوجيته»، تُمعِن في طغيانها إلى درجة تشييد مفاهيمها وقيمها و«جماليتها» جاعلة منها القاعدة وغيرها الاستثناء والشذوذ. إن الرداءة في الكتابة، والإبداع المُلفَّق، والأساليب والسِّجلات المتناسخة، وبورصة العلاقات المحاباتية لترويج السلع الأدبية الضَّحْلة، وما شاكل، هي جزء من هذه «الأيديولوجيا» الهجينة التي تُدان إضمارًا عند بروكنر، وعند كل الكُتَّاب الأصلاء، ولكي تحصل الإدانة على شرعية بلا منازع، فليس أمام الأدب إلا أن يعلي مقامه بفذاذة جَمال خالص، بالموهبة المصقولة في اليد الصَّنَاع، إذ تعيد تشكيل العالم ثانيًا وثالثًا، وتزيح عنه أقنعة الدمامة و«نكهة» الفجاجة.
وحْدَها عادت السيارة خارجة من حقل العشب كأن أحدًا غيري يقودها، وسواي يواصل الطريق وهو ينظر إلى الساعة توشك على بلوغ التاسعة إلا عشر دقائق، وفي الدقائق الخمس الأخيرة كان يجتاز حديقة الكلية مُتجهًا إلى المدرج، خلفه وفي عُقر قلبه، ذلك البنفسج، وحوله وفوقه، القُبُلات تطير كالفراشات.