تعالَ معي إلى جبل الحبيب
(١) جبل الحبيب
هو في مكان ما يقيم، خلف جدار، تحت سقف، سحابة، النجوم فوقه أم الشمس مقيم وله أمكنة الغياب والحضور. يسعف بالظهور حين يشاء، يمن به تاركًا خفايا منه تتلألأ كاللُّجين، أو تلتمع في عيون طال منها التطلع إلى بعيد هاتفةً بنشيد الانتظار. كلما تذكَّرْته اختصرتُ المسافة إليه وطويتُ الشوق في أحشائي استعدادًا للمغادَرة إليه. أُعَيِّن بِتصوُّر من عندي مكانًا له. أَرسم جغرافية الحرائق المُسَيَّجة بموقعه. والدروب المتناسِلة في محراب أحسبه يثوي فيه، أطيب هواء سيأخذني في سبيله. أتوضأ برحيق من ذكره. الكائن، المتكون، المتكاثر في تعداده على لساني لأخشى أن تفيض الأرض بِعَدَده فيضيع مني أنا الصانع له، المصنوع منه.
بشر هو أم طير خفَّاق في الأعالي، أم حين دعانا إليه اختلفت علينا الأسماء لتَتكاثف بعدَ لأْي في صورة لا تدرك إلا صورته. ونستأنف، عَودًا على بدء، صعود مدارج هواه، كأنَّنا لم نعشق أبدًا أو كأن عِشْقه وحده يختصر تاريخ الهوى، وقد انضمَّ إليه نفَس يُطَقْطِق كالجمرات، ولُهاث شَبقِي يَئِزُّ تحت العجلات، وحيوانات جميع الغابات تَحفُّ بنا نحن الذين لَسْنا سوى اثنين، أنا الشوق الغامر إليه، جالِبُه في الألفة المفاجئة التي تَملَّكَتها خطوات العابرين، ورعاة مُستغرقون في جمع الغِلال الباكرة مُنْدهِشين لغلة أبكر يستلذون طعمها، لا يرونها مثلما لم أرَ أحدًا سواها، وهم لي حجاب وأتباع. بأيديهم المَزْهَرِيَّات كما البخور يتخلل نسيج الأفق. الغاديات، الرائحات، السنابل الضامرة، الثامرة، بها الريح راقصة. تارة حاملات على أكتافهم صُرر ورد شَرِبْن منه والعطش بعدُ قُدَّامهن يلفح، وطَورًا ينادينه يا الحبيب، أوَمَا كفاك تَشقُّق أقدامنا من المسير إليك؟ وانظر، لو نظرت إلى وجوهنا أضحَتْ صحراء تحت الجفون. قطر واحدة، نقصد أن تهل، ولو في غفلة، في نومنا، تُمسِّد بأصابعك المائية جباهنا، تُلاطِف الخد تلو الخد، والشفتين، تَحوم حول النهدين، وإن شئت، بدا لك أن تغوص حتى … فغص، غص يا الحبيب.
إذا يَمَّمت شطر تطوان تاركًا العرائش خلفك، هي التي تستأنف دومًا في الخضرة المتخاصرة منحدرة من تخوم الجبال إلى ما دون النَّهْدين، فغُص، غُص يا الحبيب، فما نبغي بعدك سوى شهقة التهلكة. إذا يمَّمت ورأيت الطريق بدأ يضيق، وهو في عمق روحك يَتَّسع، وكنت قد تهت العمر كله بحثًا عن طريق تأخذك إليه، فستوهب ما لا يوهب، أي عن يمينك حين ينتهي السفح وتبدو الأرض وهي تنهض كأنها صاعدة إلى السماء. ستوهب بيمينك، ستسمع، عن قُرب وبُعد، زغرودة بيضاء تحط فوق كَفِّك حمامة تطير للتَّوِّ، تحط فوق كتف الجبل منه تنسدل على عري التل النهد، الحمام، الحمام، لا تعرف أيكما يطير … أسربه مَن يعير جناحه لعلي … قبل أن أفرد الجناحين نبَّهَني صاحبي، يرافقني دومًا مثل صحو ضميري لا أبغي عنه بديلًا. نَبَّهني: يا صاحِ، انظر إلى الأعلى — أنا الذي تَسكُنه الأعالي — إنه «جبل الحبيب» فوالله لا أعرف وقتها كيف سمعت البيوت البيضاء المُعلَّقة على كتف الجبل وهي تهدل: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
(٢) جبل غورغيز
كانت تطوان عندئذٍ قد أمْسَت ذكرى، أنا ذاهب إليها بعد مرور عقدين من الزمن ونيف، وهي ليست أكثر من ذكرى، تأمَّلوا معي هذه الاستحالة في علاقة الكائن بالمكان. أعصابه مُنغَرِزة فيه، اللحم والدم، بالقبضة الحارَّة يمسك الأشياء، يستنشق هواءه ملء رئتيه، يأتي من جنوبه كواحد من سكان «الداخلية»، ليجالس في مقهى من شارع محمد الخامس عُصْبة من المعتوهين مثله، كانوا يحلمون، أي مثله بتغيير العالم، ويدعوه إلى قِنِّينة كوكاكولا شاب تطاوني وديع، كان مُولَعًا بالنقد الأدبي وأكل «الزريعة» قبل أن يصطفيه خوان غاوتيسولو إلى جواره، وبعد أن تم له «الدنو من المعتصم». وحين تحتقن الظهيرة يقوده صاحب عمره إلى زنقة «الكابتان» حيث يهبطان درجًا أو درجين دالِفين إلى بيت الصداقة يطعمان ما اتَّفَق، وما ألَذَّه ذاك الذي اتَّفَق. حتى إذا أرخى الليل سدوله — أظن أنها البلاغة العربية — وكان شيخنا قد قضى من «سقيفة بني سعد» في «الجنان البجوقي» كل حاجة، وكاد النهار يستحيي من طول مُكث وقد أوْرَق نجم الليل رأيتنا بزعامة رأس فحول الشعراء، شيخ المشايخ أحمدنا المجاطي، نقتحم تطوان على غِرَّة، وهي السادرة في شارعها بغنج الذهاب والإياب، فلا نتركها إلا بعد جفاف الضرع فيا لقسوتنا. ثم يا لجوع ينهب بعد ذلك نداريه ببقايا طعام تالف في محطة كان اسمها «الخنسيا» وكان لسانُنا فيها إنسان لطيف المعشر قبل أن يصطفيه ابن خالويه، ونفطويه، وسيبويه خاصَّة إلى جواره.
تأمَّلوا معي هذه الاستحالة: ما كنا، ما صِرْنا، وما هو كائن، ما أشبه اليوم بالبارحة! ومع ذلك فليس إلا الوهم وازع تقريب الزمن، وطي المسافة. وليست إلا الرغبة للتخفيف من غلواء الزمن الذي طحننا، لأقول مثلًا وأنا أَعبُر أمام «أوطيل ناسيونال» في ٢٠ / ٤ / ١٩٩٨م ياه، أنَّا لي غرفة هنا مع حبيبتي أو زوجتي — أقصد، ذاك بالأمس، قبل عشرين سنة على الأقل — ثم إني خرجتُ لشراء علبة سجائر، أو للسباحة في مرتيل، ومن ثم لأغطس رفقة شيخ المشايخ في بحيرة أحمد شوقي، تلك التي اسمها «الفضة الذهب» أو ربما لأدخل «المكتبة الوطنية» سائلًا عن محتد وعنوان تطواني أصيل اسمه المهدي الدليرو، فيفتح لي خزانة أدب الشمال المغربي، ما حوت من سرد قصير وطويل، فكأن صَدًى لصوت منه يعود: غُص، غُص أيها الحبيب.
ولم تبق الحبيبة هي، ولا تحت سقيفة «مرتيل» مَن يجيب، وما حفَّ الكأس من حبب لونه خُلَّب، وطعمه فاتر بعد رحيل الشيخ، وعند نفطويه الخبر اليقين. أم إن تطوان استئناف اللوم، حرج وقع العتاب على الأحبة، الحفيف المرتعش خلسة في جلبة جيش الغزاة، أم لعله الهمس مثل حرج الكاعب الحسناء، بلا دِمَقْس ولا حرير، تضيق به جنَبات الساحات المُغْتصبة، وأسماء طائرة، عربية أو مُعرَّبة، ملفوفة بربطة الدجل أو العنف حتى نهاية حبل الكذب. الهمس يتحمل كل شيء إلا أن ينوب عنه عنوة من لا يملك في عروبيته المزعومة غنمًا ولا عزمًا، وماذا إلا لأن تطوان أصيلة. فتراه يأخذه صاحبه إلى مدشر اسمه «أسيفان». وفي الطريق ينبه الواحد الآخر أني تهت عن حبيبتي تلك، عن طريقي، عن جنون ذاك «العمر الجميل» الذي أصبح شاعره جديرًا بالرثاء.
اصْحَ يا صاح: انظر إلى الأعلى — أنا لن أسكن إلا العالي — إنه «جبل غورغيز» فوالله لا أذكر وقتها كيف صرتُ حمامةً بيضاءً حلَّقت حتى «مرتيل» حيث نَقَرت شُبَّاك مهاجر فاسي اسمه عز الذين التازي، وهي تهدل في أذنه: اترك القلم، اترك هذا الهراء الذي اسمه الأدب، إنه يورث بعدُ الفقر، النقرس وبرود الحس، وتعالَ معي لأفاجي على خاطرك، لأُريكَهُن، وأُريكَها هي بالذات، الكاعب الحسناء: تطوان.