فيل يزحف على ماتنيون

ألوان …

بدأ توقيت آخر حين وضعتُ قدمي على تلك الطريق. لم يكن ما حدث أو أحسستُ به من أثر التفاوت الزمني، الطبيعي، بين ساعة بلد وآخر، فهذا شيء يحس به الناس عمومًا، بتأثيره المباشر على نومهم؛ أي إنهم، على الأغلب، يتضايقون من تَقلُّص مدة النوم وكأنه الهدف الأمثل لما في الحياة، فيما بُغيتي، بل مُنْيَتي البحث عن جميع السبل وأفضلها لإنزال الضربة القاضية بهذا الغول المتربص بنا دومًا، أعني النوم.

كان ليلٌ آخر ورائي، هو الساجي أبدًا ولا أذوق له طعمًا. ينتهي النهار ببساطة، ينقضي اليوم كسائر الأيام، وبعد أن يَتذوَّق الواحد منا قهوة رديئة كما ينبغي له في باحة مقهى أردأ، كراسيها متهالكة شأن أبنائها، يحمل جسده لينقله بتأفَّف ويضطجع به تحت سقف وطيء، مُرخِيًا العنان لأحلام يقظة سُرعان ما تختلط مع أضغاث أحلام. ما يلبث أن يستيقظ بعدها ليجدد أنفاس التأفف في يوم طويل آخر.

بدأ توقيت آخر حين اشتعلت الأضواء أمامي، هي المشتعلة دومًا. قُبالتي مطعم ومقهى وحانة ومرقص «لاكوبول» الكبير، تصعد على كتفيه البناية الزجاجية العالية، حديثة الطراز. خلفي، أيضًا، مقهى «السلكت» وأنا واقف في نقطة الوسط بينهما، أي بالضبط في المساحة التي عَيَّنْتُها، المركز الحساس لجادة المونبارناس. قلتُ سأُسَمِّي اللحظة هذه النقطة مركز العالم، وبعد ذلك سأُعَيِّن الخرائط والاتجاهات كما يحلو لي. والآن يحلو لي كثير، كأن أقف حيث أنا، شبه مُمَغْنَط، شبه مضروب بعيشة قنديشة، أو من يلهث وهو واقف خلف بطلة دريوسكو في روايتها الآبقة «ترويزم»، التي باعت قرابة مائتي ألف نسخة، وهي لا تحكي سوى عن انبعاجات إيروسية عادية جدًّا في ذَوقي — على كلٍّ، فهي لم تضربني بأي صعقة شبقية — كأن أضرب حذائي على الإسفلت نفسه الذي ضربه أندري بريتون سنة ١٩٢١م، وهو يؤجج نيران ثورته السوريالية — على العموم، ومن جِهَتي، لم تكن لدي عندئذٍ أي نوايا ثورية بعد كل الذي تعلمون، وخصوصًا أيضًا، أنها أصبحتْ من الأمور المعيبة، أليس كذلك؟! — وقد ضربت قدمي مُستنفِرًا صدري، رافعًا هامتي كمن يريد أن ينطح السماء، السماء التي كانت مختفية في سُحب مُلبَّدة، مُكبَّدة. قررت وقتئذٍ مقاطعة إحدى عاداتي الليلية لأنكب، فقط، على شرب الضوء، ضوء الليل، مُرسِلًا دعاء حارًّا أن يبعد الله النهار إلى أقصى، أقصى الأقاصي.

… الليل …

ذاك سر، لن أبوح به لأحد، بلا نجوم، بلا قمر، ببريق العيون وحدها استَضْأنَا، وذهب البوح إلى أخيه، وانكتم السر بين اثنين، شَقَّت علينا الوحدة، فقرَّرْنا أن نُبعْثِر حب رمانة الأحزان. لا حاجة إلى الكلام في الليل، لا حاجة إلى الهمس نفسه، فقط إلى الاستماع إلى المسام وهي ترشح والعالم كله يشهق ويتصفَّد من جسدين. أحتاج إلى كل هذا الطيران والمسافات من أجل ليلة واحدة، أصبح سيد البهجة وأفنى، وأنا أبعث من جديد وسأظل أفعل إلى أن ينقضي الليل الذي لن ينقضي.

… والنهار

تفهمون أني استيقظتُ مُتأخِّرًا، أو نَبذتُ النوم مُطلقًا. فقد كنتُ، صرتُ وجسدي في مكان توقيت ينبذان النوم. غير أن الأبيض المُظلَّل، شبه المخبوء تحت عريشات الأخضر وضَعَني في الصحو الخارق، صحو الكشف والنبوءة. في ساحة إدغار كيني، غير بعيد عن مركز العالم. رُصِفت طاولات مستديرة ومستطيلة صغيرة، امتدَّت طولًا وعرضًا من الجانبين واحتشد أصحابها، قُل صويحباتها أكثر عند مدخل المترو وهُنَّ يُهلِّلن لبضاعتهن بأصوات أعلى من الإصاتة ودون الضجيج: يا لهذه الزنابق الوافرة في هذا الصباح، زنبقة واحدة من يدي وترضى عنك الحبيبة هذا اليوم، أو تغفر لك خطايا العمر كله.

وحدست، بل فهمتُ، أنا الذي ينظر إلى ما حوله الآن بالعين الوسنى، إنَّنا أصبحْنَا في فاتح مايو، وهو عيد الزنابق قبل عيد الشغل، أو إنه يرافقه إما ليخفف من آثار عام كامل من الكدح أو ليفتح طريقًا أخرى للأمل، بأبيض الزنبق المحتشم خلف الأخضر كدمعات بلورية تضيء في عيني امرأة ترى حبيبها يُودِّعها مسافرًا إلى بعيد، خائفة من أن يكون الوداع الأخير.

لم يكن عندي لا مَن أُودِّع ولا مَن أَستقْبِل، أو أني، بعد أن كادت رمال النسيان تطوي ذكر محمد الباهي، الحبيب الصحراوي الذي كان شيخ باريس طُرًّا، قرَّرتُ أن أطوي صفحة كثير من الأسماء متشبِّثًا بوحدة شامخة بلا حدود، حارسًا لحماها وحافظًا لها العهد، وهو ما دفع بي إلى طاولة إحدى السيدات، مُشمِّرات السواعد، لأقتني منها غُصَينًا ضممته في يدي كالوجيدة وهرولتُ مُنحدِرًا من زنقة «الأدويسة» وهو اسم حقيقي لا مُفتَرَض، حيث البيت الذي أقطن، أما الحقيقي فعلًا فهو الإلياذة الكاملة التي عاشها جِيل عربي بِرُمَّته في الديار الباريسية، حصد فيها المنافي ومُرَّ الغربة، ونكهة الحرية المؤقتة، وطلاوة العيش أحيانًا.

قلت، إذن، من حق هؤلاء القوم أن يستقبلوا الصباح بالزنابق، ولهم أن ينزلوا، كما يطيب لهم إلى الشوارع وأن يَتجمَّعوا مثلًا، بدءًا من ساحة المونبرناس، ليبدأ الهتاف وتشتغل الشعارات كالنيازك، أعرف أني في نقطة من واحدة من آلاف، وحاولت أن أسترجع أمامي صورة، صورًا للمدينة في تشعبها الشراييني، وامتداداتها الثعبانية بالطريقة التي تتناسل بها الأزقة والشوارع إلى ما لا نهاية، والناس، السكان، المواطنون — التسمية هنا ضرورية وتحمل معناها بامتياز، فهل نحن من المواطنين حقًّا؟! — في غُدوٍّ ورواح ضاربين موعدًا مع عيد لهم، ليس طارئًا ولا مُستوردًا، يحسون معه أنهم في عيد، والجحافل تستطيع أن تفعل بهذه الأرض ما تشاء؛ لأنها ملكها، بملء حناجرها تهتف، تصرخ، تُندِّد، وتفرح، أيضًا، ولن يَتبدَّد الصراخ، فللرجال قاماتهم كما للكلام تاريخه وسِجلَّاته.

كنتُ منجرفًا مع السيل العرم، فأحسستُ بوحدتي المتوحِّشة، النافرة الأعصاب، المستفِزَّة للآخَرين، تتألف مع وحدات أخرى وتتعانق. دخلنا تدريجيًّا في مهرجان للقُبل يستحيل على مِقصِّ أي رقيب أن يمتد إليه ليغتصب روح الإنسان — هذه المُختنِقَة عندنا في كل مكان — كانت رائحة الشواء تَتبعنا، والقناني تندلق، والظمأ يزداد احتراقًا فيما الأيادي تُطوِّق الخصور، والرقصات حبال تلتوي فوق الرءوس. ولم تكن إلا واحدة من طُرق مُتعدِّدة لطرد الضجر، وصقل ما في النفس من صدأ، ذلك الصدأ الوجودي الذي لا تعرفه الطبقة العاملة في البلدان الغابرة. لم أكن في أي يوم كائنًا احتفاليًّا، ولا قِبَل لي بالنزول في المناسبات العامة، في الاحتشادات المُنظَّمة المُؤطَّرة بكلمات ورموز الضبط والانضباط. يُخيَّل إليَّ أن هناك دائمًا من يجني ثمرة المناسبة، أي مناسبة. ويذهب إلى إحدى طاولات المُفاوَضات أو الجلسات الطقوسية ليتحدث باسم الجميع، ونيابة عن الجميع. لتنتبه في الأخير أن الكثرة ما هي إلا الشكل المُصطَنع، المُبهْرَج الذي يتقلص إلى واحد، واحد أحد، سيزعم لنفسه في الأخير أنه يختصر الجميع، تُلاحِظون بوضوح أني أُغنِّي خارج السرب، وأني بهذه الطريقة أسعى للحفاظ على فَرادة الغناء، وسلامة النوع أيضًا.

لهذا السبب ربما وجدتني أبتهج أكثر من أي وقت مضى، أي وقت عرفت في حياتي وعلاقتي مع أوضاع ومشاهد الفرجة، وجدتني بهذا الإحساس قبل فاتح مايو، غير الرسمي للعمل، أي قبل المناسبة. أي في يوم ٢٩ أبريل، وأنا أخرج من متجر «الفناك» الضخم لبيع الموسيقى والكتب في شارع «رين» في مطالع الدائرة الخامسة عشرة، بعد أن قضيت فيه أزيد من ساعتين أتملى في الكتب والتسجيلات التي لم أَعُد قادرًا على اقتنائها للهب أسعارها. نويت وأنا أغادر المتجر إلى أقرب محل «هومبورغر» لأُسْكت جوعي، ومن ثم لأدلف إلى السينما في موعد مع الفيلم الجديد لجاك نكلسون، هذا البهلوان الستيني العظيم. فجأةً تلاشى الجوع، واختفَت رغبة الفن السابع؛ لأني وجدتني دفعة واحدة في قلب مشهد سينمائي ضخم لا تنقصه إلا الكاميرات لتخلده.

بداية شارع «رين» أصبح مقطوعًا، فالمواطنون هنا يستبيحون الشوارع تقريبًا متى وأنَّى شاءوا، والحقيقة أنها ملكهم وبضرائبهم تُعَبَّد وتُصان ولا يحق لأحد أن يحتكرها دون الجميع. بدت المسيرة من أعلى الشارع؛ أي متقدمة من جادَّة «دومين» المنحدرة من الدائرة الرابعة عشرة، هكذا قَدَّرْت وفَكَّرْت أنها زاحفة أصلًا من ساحة «أليزيا» إن لم تكن قد انطلقت من «بورت أورليان». وفهمت أن الزحف سيمتد قريبًا ليجعل مركزه السان جرمان بعد قليل، أفادت اللافتات والشعارات والمزامير أن قِطَاع التعليم في ضاحية «سان دوني» الباريسية ما زال مُتشبِّثًا بمطالبه بعد انصرام شهرين على الإضراب. أفادت كذلك أن القطاع لن يستسلم وسيركب رأسه إلى أن يرضخ الرأس الكبير وزير التربية الوطنية كلود أليغر للمَطالب. بغتةً توقَّف الموكب وزعيق زمامير السيارات يعلو، وانفتح زقاق جانبي عن دخول شاحنة ما لبثت أن ربضت تدريجيًّا. كنتُ مطمئنًّا تمامًا، وقد انضممت إلى المتظاهرين، بأن أحدًا لن ينزل منها مدفعًا ويشرع في إطلاق النار علينا ليأتي غدًا من يحفر الأرض ويدفننا في مقابر جماعية، وقد فتحت بوابة الشاحنة من الخلف. ومن بعيد لمحت كتلة هائلة تتحرك، وخطوة، خطوة، اتضح لنا بالعين المجردة أنه فيل. حتمًا لم نكن في الهند، ولم يكن معنا أي مهاتما. وبدأ الفيل يتقدم بمفرده يرمي الخطوة إثر الخطوة، فصِرْنا على إثره وفي ركبه. تدريجيًّا صِرنا متظاهرين وجماهير يقودها فيل. تَعدَّدت التفسيرات للمشهد، للسبب في إشراك أو تشريف الفيل للمظاهرة، وأوضحها الشبه بين وجه وزير التربية الوطنية ومزاجه بالفيل. لكن هذا التفسير لم يقنعني، على الأقل لم يَحُلْ بيني وإطلاق العنان لخيالي الخاص كي يُوجِد ما يطيب له من التأويلات التي استرحت لها كثيرًا، ولن أبوح بها لأحد؛ لأن الحشمة والخوف ضروريان أحيانًا.

المهم أن الفيل كان قد تقدم يسارًا إلى أن انتصف في ساحة السان جرمان قريبًا من الكنيسة، ثم دلفنا يسارًا لنَتمَطَّط في الشارع بين صراخ وهتاف واحتجاج وغناء ورقص وقُبَل أيضًا، وأخذ المواطنون الأحرار يتبرعون بالساندويتشات وعُلب البيرة لسعادة الفيل، ونحن نطعم من بركاته. مَررنَا أخيرًا من خلفية الجمعية الوطنية، وفهمت أن البُغْية هي الوصول إلى حي الوزرات في منطقة «الانفاليد» وإلى وزارة التربية الوطنية بالذات. كلَّا، هكذا قرر الفيل، لسان حاله وزحفه قال: لا بُدَّ من «ماتنيون» أي مبنى الوزارة الأولى، مهما طال السفر. فأعجبنا القرار، ورُحْنا نهتف جميعًا، يعيش سعادة الفيل، يعيش وليسقط ماتنيون … ما حدث بعد ذلك وكله خير طبعًا، فلا ضرب، ولا قمع ولا دم ممَّا يمكن أن يتصوره البعض، كلَّا لا شيء من ذلك — ما حدث هو أن امرأة، فتاة، حسناء، سبحان الخالق، عارية، كما ولدتها أمها، شَقَّت الطريق، تقول كأنها خرجت من تحت الأرض، وقفزت مثل طرزان فوق خرطوم الفيل ثم اعتلت ظهره وراحت تعمل أصابعها دغدغة في الخياشيم، والفيل يرقص تحتها ونحن نغني، وتركتهم.

في اليوم التالي أذاعت «فرانس أنتير» في نشرة استثنائية أن وزير التربية الوطنية، بضغط شديد من الوزير الأول ليونيل جوسبان الذي خاف ربما من … قد رضخ لمَطالب المُضْرِبين. ولعل الحكاية شاعت، ففي مساء اليوم نفسه كان الباريسيون يشربون نخب الفيل.

١ مايو ١٩٩٨م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥