أوان عتق الروح

لم يكن شهر مايو لي وحدي، كما حسبتُ وتخيَّلْت، وهو ليس بتاتًا ملك أحد. ربما الزمن وحده يملك الكائنات والأشياء، ويعبث بها كيف يشاء، وأحيانًا تنفلت منه لتزهو بمفردها، في فرادتها، بخُيلائها أعجبه وأبهره. في الخطوات الصاعدة نحو شهر تَتبرَّج فيه النساء بالفتنة السالبة، وتطل جميع البراعم من شغافها، اخترتُ أو بالأحرى ألْفيتُني تحت ضغط الحاجة لأشرع في مسيرة كان حبيبي الصحراوي ينفذها يوميًّا وهو يأخذ الحافلة من «بورت دي فانف»، قريبًا من بيته ذي الشبابيك المغلقة أبدًا اليوم، لينزل بالضبط في محطة «بورت دوفين» بالدائرة السادسة عشرة، ومنها يذرع بعض الأزقة ليصل إلى تلك المؤسَّسة العربية التي كان يعمل فيها مترجمًا. لم يكن يملك غير هذا ليضمن قُوتَه ويُسدِّد ديونه التي تتجدَّد باستمرار، وما قَبِل أبدًا أن يكون من فصيلة التنابل أو «المؤلَّفة قلوبهم» أو المُنبطِحين عند أعتاب السفارات العربية في باريس أو ما شاكلها من مراكز للبث والالتقاط. أذكر دائمًا كيف كان يَتهيَّج في هذا الشهر، وقد هجم عليَّ في جميع الأوقات ليُخرِجَني من عزلتي أو أوراقي أو أوهامي، وكلام منه هو صهيل وهدير: آلشريف، تعالَ معي لأريك الأدب ناهدًا، مُتنهِّدًا ويمشي على قدمين، تعالَ لأريك باريس حيَّة تُرْزَق، وحيَّة تسعى. فلا أملك إلا أن أتبع شهية الصحراوي الفائرة. ومرة، مرة، يخضني خضًّا، وقد وقع بصره على ما يحب من بهاكن شبه مُتجرِّدة: وشوف، شوف شوف!! كان ذلك في زمن، ليس قريبًا ولا بعيدًا. هو زمن استقل بنفسه رغم انضوائه على الأغلب في شهر مايو، ورغم ظني أنه محفور في الذاكرة، وناره ملتهبة في القلب أبدًا، إلا أنه، وتلك بعض فرادته، تراه يحتفي بذاته، ويُهلِّل بملء أصوات الدنيا كلها، فيما هو صوت كالعابد المُتبتِّل، يتطلع إليَّ وإليه مُلتمِسًا عفوًا عن ذنب، آهِ لو جناه.

لنُعِد الكَرَّة إذن، فها هي ساحة «أوتاي» تستدير مثل فسحة للأشواق، كل اتجاه منها ينادي شوقًا ويهفو إليه. لو ذهبت أقصى اليمين فمدينة «بولوني» الضاحية، هي المثوى المنبسط. عند مدخلها شمالًا مستشفاها حيث خفقَت آخر أحلام محمد الركاب قبل أن يُسْلِم الروح إلى باريها، وتحت ظلال أشجارها حيث جلستْ طويلًا برفقة عبد الرحمن منيف قبل أن ينتقل منها إلى الشام ليكتوي بغربة جديدة … آهِ يا أبا عوف من حُرقتك بعد رحيل شيخ الصحراء. فإن التفتَت يمينًا دائمًا، وأنت تنظر صعدًا، امتدَّ لسان الطريق المشجَّر. ما أشك أن كلود موني مرَّ من هنا، فكأنه مَن وضع ريشته تضاريس وألوانًا، وكلما عَبَرْت به أذهلني جمال يُمجِّد كمال الخالق، وقلق الروح الشِّعْري أمام ما لا يفس، والاستعارة ملاذه الوحيد.

وكما لا حياة بدون جمال، فإنه لا جمال بدون شِعْر، وإعجاز الشاعر هنا أن يبدع الأجمل؛ أي أن يتحدى الطبيعة، وبذا يستحق بجدارة اسم «المبدع le créateur». وراء ذلك كله تقبع، تَتألَّه غابة بولوني بتيجان أخضرها وأصفرها والغمام السفلي المرتعش تحت رفيف اليمام. عجزتُ عن ملاحقة هذا الذهول كله وحُبِّب إليَّ المكوث في موطن الدهشة الأولى لا أبغي عنها بديلًا، آهِ لو قدرت، إذن لما تَحيَّرت بين أرض وسماء، وما بينهما من خليقة. هكذا طَويتُ السِّر طَيَّ السِّر، مُشِيحًا عن يمين الساحة ويسارها معًا لأخوض في الشارع المستقيم، المُتغَنِّج رأسًا وصولًا إلى أهداب «بورت دوفين» منعطفًا بعده إلى اليمين في شارع فوش الأرستقراطي، حيث يقطن عدد من الرؤساء المُنقَلَب عليهم، وآخرون ممن حصَدوا ملايين الدولارات في رمشة عين. أما أنا فما أنْفَكُّ أحصدُ سيولًا من الحُب العَرِم، ظلَّت تجرفني إلى أن أوصلَتْني أمامك أيتها الشجرة الفاردة أغصانها أجنحة مصنوعة من ضفائر الأخضر والبنفسجي، فكأنما من بهائهما اللون يزغرد، وله ظلال وضِفاف وتسمع له ابتهالات. عنيتك أنت رفيقة البنفسج مذ وشَّحنا قبالة قصر البديع المراكشي ذات ربيع، ذات شهر مايو، يا الربيع الدائم، حتى إذا أدركت حدائق التويلري جنوب ساحة لاكونكورد أوشكت الروح أن تفيض من بنفسج ذكراك، ذاك، «أحلَّ سَفْك دمي في الأشهر الحرم.»

يا لهذه الرومانسية، المثقلة بالذكريات والأحزان، كفى! مايو ضاجٌّ هنا، هذا العام، بما هو أجدَر وأقوى. باريس تتذكر دومًا، وتحتفل بماضيها لتطرد عنها كل شيخوخة محتمَلة، هي ذي تستدرج الخمسينيين ليحتفلوا في طقوس باهرة بمرور ثلاثين عامًا على أحداث شهر مايو ١٩٦٨م الشهيرة؛ ليُحلِّلوا، ويفككوا ويغربلوا رمل الزمان ذرَّة ذرَّة. الذين وُلِدوا بعد الحرب العالمية الثانية كانوا جميعًا هنا وجهًا لوجه مع الذين وُلِدوا فيما بين الحربين. نحن الذين كنا في الغيبوبة تقريبًا تصورناها في البداية ثورة طلابية خالصة، بينما مايو ٦٨ كان حركة تَمرُّد اجتماعية كاسحة تكاثفت فيها جميع شرائح المجتمع الفرنسي التي بلغ تَذمُّرها الزُّبى، وأحسَّت أن صرحًا قديما لا بُدَّ أن ينهار بسياسته ورموزه وقيمه وجامعته وثقافته. أن ينهار وكفى. دون أن يتوفر بالضرورة بديل أو بدائل مُبرمَجة، مُخطَّطة حتمًا له.

لذلك، ورغم الانتفاضة الطلابية والعمالية العارمة، فإن النظام السياسي والبنيات المكوِّنة له هي التي قُدِّر لها الاستمرار بعد أن أخرج الاستفتاء الشعبي الجنرال ديغول من معقل الإليزيه. بينما عربد الطلبة والشبيبة اليسارية بالشعارات اللاهبة في مُدرَّجات وساحة جامعة السوربون وأزِقَّة الحي اللاتيني، وعربدت قنابل الكوكتيل مولوتوف على طول شارع السان جرمان حيث انتفض الإسفلت، صنع منه الطلاب الممتلئون غيظًا وغضبًا من كل شيء، متاريس ومقالع حجارة للضرب والتحطيم، كيفما اتفق.

ثلاثون عامًا مضت الآن على تلك الأحداث التي دَشَّنَت في فرنسا عهد انقلابات فكرية وأدبية وذوقية وسلوكية واجتماعية وسياسية أيضًا، أو بالأحرى كرَّسَتها. وكلما تَجدَّدت الذكرى، راح أبناؤها والمتناسلون منها يعيدون طرح الأسئلة على بواعثها، ومن خلال ذلك نراهم يصنعون مجتمعهم وتاريخهم وثقافتهم على مَحكِّ النقد المُسائل والمرتاب.

بيد أنه خلافًا لما قدَّره عدد من السياسيين والمحللين الفرنسيين، فإن أحداث مايو ١٩٦٨م لم تكن ظاهرة عالمية، فالعالم آنئذٍ كانت له شواغل كبرى أخرى من بينها نهايات حرب فيتنام مثلًا. اللهم إذا اعتبرنا فرنسا ومتروبولها قلب أوروبا الغربية بلا منازع، وهو ما لا يرضي كثيرين وإن تهافَت عليه الفرنكفونيون. وما ينبغي أن ننسى بأن الأيديولوجية التي شحنت الطلاب الغاضبين جاءت من خارج المتروبول لترشق بجِمَارها الأيديولوجيات المُبطِّنة للمؤسسات القائمة، رسميَّة وغيرها، ومنها على الأخص الحزب الشيوعي الفرنسي في صورته الستالينية البغيضة، وتماهيه التام مع مواقف موسكو، أوَليس جديرًا هنا أن نتذكر ربيع براغ الشهير؟!

راودتني أفكار وخواطر شتَّى وأنا أحاول الإجابة على أسئلة من صحفي شهير بمجلة «لونوفيل أو بسرفاتور» عمَّا تعنيه الذكرى بالنسبة إلينا نحن المغاربة والعرب عمومًا. والحق أنه لم يسبق لي أن فَكَّرت في الموضوع بكيفية مباشرة ومركزة. وهنا اكتشفتُ بالصدفة وجود خَلل أو مُفارَقة مثيرة؛ نظرًا لاعتقادي أن عدم طرح القضية طرحًا واضحًا من جانب الأنتلجنسيا المغربية، أو قسم منها على الأقل، مصدره تَبعيَّتنا شبه التلقائية للمتروبول المذكور، ووضع التطابق المفترض لنُخبَتنا مع نخبة «الآخَر» المُعشِّشة في وعيها الثقافي وأناها الأعلى. وهذا في زعمي ما أدَّى إلى انشغالنا واستعارتنا لمفاهيم وشعارات ومناهج وقضايا شتَّى، غير مُنبثِقة من صميم بيئتنا الثقافية أو على علاقة تَطوُّر طبيعي مع مجتمعنا، ما أدَّى إلى حدوث طفرات زوبعية وغير منهجية لو صح التعبير، هذا المُجتمع في ازدواجية لا يجد منها فكاكًا.

حين كان طلبة فرنسا يثورون ضد جامعتهم ومناهجها وسدَنَتها وحَولِيَّاتها كنا نحن في المغرب بصدد بناء جامعتنا وإعداد برامجها وتكوين أساتذتها الذين كانت أغلبيتهم الساحقة من سلك المساعدين. كنا ننتقل بهدوء، بل بحياء وارتباك لا حدود لهما، من تعليم تقليدي إلى آخَر ينشد العصرية قبل أن يُدرِك فحواها وطرازها جيدًا. وباستثناءات قليلة ما أظن أن التعليم الجامعي مضمونًا وتكوينًا كما كان يعطى في كلية آداب ظهر المهراز بفاس، اختلف كثيرًا عن سابقه في جامعة القرويين، ولا نحن الجيل الذي التحق به أَحسَسْنا برغبة عميقة — رغم سأمنا اليومي — في الثورة عليه. فلكي تثور ضد شيء ينبغي أن تستنفد كل إمكانات التعامل معه، وأن تمتلك الوعي بذلك، وأن يتوفر لك نموذج بديل للانتقال إليه. ولم يكن شيء مُحدَّد فعلًا من هذا، بل الأدهى أن قسمًا كبيرًا من الخريجين بات همهم هو استنساخ النموذج الأصلي وليس تغييره بما ينسجم مع حاضر ومستقبل عِلْمِيَّيْن جَديدَيْن، دَعْك ممَّا يحتاجه المجتمع كله من تغيير، بقدر ذلك الوعي الذي هز باريس هزًّا في عواصف مايو الشهير.

قلتُ شيئًا من هذا لسائلي، وأضفتُ بأننا في ١٩٦٨م كنا ما نزال نُكفكِف دموعنا، ونَتقلَّب بالجراح التي أدْمَتْنا في هزيمة يونيو ١٩٦٧م، وقبلها هزائم وفجائع وما لا تتصور من ضروب القمع والتنكيل والحرمان، ولهذا ربما لم نَنتَبه لثورتكم أو تَمرُّدكم وأحلامنا منشطرة بين خساراتنا ومَن سبق من شهدائنا وبين الثورات الأخرى التي كان مسموحًا لنا، نحن العرب، بأن نسمع أخبارها في الراديو فقط دون أن نخرج من صلبها.

الحق أن مُحاوري أراد أن يسترسل لكني ضَجرتُ من هذا الحديث، من هذه الذكرى وحسها، وكان السان جرمان الذي بدل جيلًا بجيل، وزمنًا بآخر، قد شرع يستعد لليلة جديدة، لسهرة فريدة، فأستأذنتُ جليسي قائلًا: دقَّت ساعتي، وهذا أوان عتق الروح، وكل مايو وأنتم بخير، أما نحن ﻓ …

١٠ مايو ١٩٩٨م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥