لو فاس عادت إليَّ!

(١) باب الخوخة

شمس تتكسر قطعًا من لهب سائل. عرفتُها توًّا هذه اللفحة لمدينة ترقط بها جلدي. كانت الظهيرة على أشدها في الحر المتأجج بين الإسفلت وعجلات السيارة، والمدى ساكن في الأسمنت الأبيض العالي بات سياجًا لها يخفي أسوارًا للتاريخ كانت مَنيعة. القيظ يدق الآن ساعته ليعلن دخولنا في صيفها، وقد أَوَتْ ظلال مبعثرة على أرصفة استظلت بها بقايا أشجار … كنا قد مشينا أو تعانقنا تحتها منذ زمن بعيد.

ها كل شيء قد أمسى بعيدًا مع أعمارنا المنهكة، المنتهكة، والمدن لا نَسترِدُّها إلا بالشوق المُمِض أو النظرات المتهالكة على قِشرة المرئي. هو وليس، ما كان ولن، الذي مضى وما لا يجيء، حتى الغصة في الحلق، واحتباس الدمع في العيون. هذه دائرة الشمس على مدار أرضٍ مطحونة تحت الشمس، عارية الكَتِفَين، ومن مَشْيِي فيها صنعت لها أردافًا يوم رحلت عنها تبدَّلت وترَهَّلت، وما عاد يسعفني لطلاوة فيها غير التذكر، أنا الآن في مدخله والطريق منسحبة أمامي لا خلفي، فلا صلة لي بهذه اﻟ «عين الشقف»، ولا يهمني كيف قام هذا العمران الأصم المُتراص في انحدار زَلِق نحو «ساحة الأطلس»، التي سكنها الأمين الخمليشي وحده، رافضًا عن جَدَارة المَنفى القسري للطلاب «الآفاقيين» في ظهر المهراز. وطبعًا، فإن مقهى «الرونسانس» و«تور دارجان» على حالهما، و«جيلدا» ما أشك أنها في مَثوًى آخَر بعد أن غيَّر «المستشرق» مجلسه ونُدمانه، وبقيتُ وحدي أتعقَّب خطى «الكائن السبَّئي» عساه يَدلُّني من أين يحصل على «الإستبرق» في دار الدبيبغ، أو كيف يثقل الشعر عنده بعد في زمن الكلام النزق.

بصري يحب أن «يحوف» نحو العميق؛ أي الشغاف التي قَمَطتْني مذْ كنت ألهو وأتلعثم ﺑ «النحو الواضح» بين حي الدوح ووادي الصوافين، أو أهبط أعمق من ذلك متدحرجًا مثل كُرَة في «عقيبة الفيران»، أظن أني في منتهاها سأقصد جميع العناوين ومأوى الحرف، ولا يكون عندي من مقصد سوى عبور سوق «الرصيف» الذي يحبه الشيخ السرغيني أيضًا، فأقف عند الحوانيت ممتعًا النظر بالقوق البلدي والبوبال، وهل الفول طيَّاب هذا العام، وليقامة رائحتها فواحة، والورد يشرح الخاطر بعد أن يرفل في الأعطاف، أم هل شَمَمْته مفروكًا تارة بين أكُفِّ العواتق وأخرى مُتورِّدًا من خدودهن. ومن حيرة، وقد صَرَعْن لُبِّي، تَضيع مِنِّي طريق الجامع وقد أوصاني أبي بالصلاة في القرويين التي لولاها لَمَا عمر قلبه بالعلم وحب الله، فلا أهتدي إلا بعد حين لأَجدني عند عَتبة مولاي إدريس، فأقول شاي الله أرجال لبلاد وقلبي يدق، يدق، يدق.

النبض القديم عاد إليك بحِدَّته، فيا لكَ من فتًى لا يشيخ. بلغت ساحة «لافيات» في نهاية الشارع الظليل، ومبتدأ مُفترَق طُرق عليك أن تختار منها ما سيحدد المصير. أجل فالمسألةُ على هذه الدرجة من الأهمية. تَصوَّر أنك لو غادرت الساحة وانحدرْتَ إلى أقصى اليمين، دائمًا يمينًا، فواصلت صعودًا وهبوطًا إلى نهاية الطريق، لو فعلتَ هذا لوصلت إلى «باب الخوخة»، أي أنك ستدخل مدينة أحد أبوابها خوخة، وافترِضْ أنك وجدتَها، فإنك بلهجة فاس سوف «تزبَّطها». ذلك العفريت الذي اسمه محمد شكري يحب أن يفعل ذلك باشتهاء كبير مع زغيبات الخوخ قبل أن ينزل فيه لحسًا وامتصاصًا، أما أنا فقد دخلتُ إلى الجوف ولم أخرج أبدًا منه.

بلی، خرجت، لكن لأعود من أبواب أخرى. ربما فتوح، عجيسة، المحروق، باب السلسلة. هاه، هنا، قُبالة دكان يُعِد ألَذَّ بيصارة في العالم. فما بالُك بأبواب الأقاصي: «بورت دورلیون»، «بورت دي سان كلو»، «بورت دي شامبيري» لتدلف من هناك إلى جنة نويي سورسين؟ كلها لا تُنسيك الباب الأول في زقاق لحجر — أم حدث هذا في حي «التدلوس» — حين دفعته، وأنت ابن الثانية عشرة دفعًا رفيقًا، وتقدَّمتَ مدفوعًا في ممر ما أعتَمَه يَقودُك خيط ضوء في نهايته. فهل هو تيار كهربائي صعقك أم جِنٌّ طوَّح بك سبعًا وسبعين ألف فرسخ، ثم رماك في أغرب تكوين لتلقى نفسك، وكأنك نِمتَ مائة عام، وسط حلقة من نساء بها كن يتخللهن صبايا خيزران يتراششن بما زهر، ومن الأقواس الخلفية يهب العود لقماري يَتطيَّبن به وسحابه مغمور فيهن. فلعمري ما عرفت إن كنت في الجنة أم في الجنان حين قُمْن يَتعابَثن بماء النافورة، يتراشقن به، قطرات منه تصيب وجهي، ثم تندلق فتَبلِّلُني حتى … حتى شَرعْن يُمَسِّدْن وجهي، وأناملهن تُدغْدِع أطرافي صعودًا ونزولًا، وهن في آنٍ طَعمنَنِي قريشلات وكعب الغزال، وبين ذلك يَضمُمْنَنِي لاهثات إلى صدورهن أنا اللاهث، أضعت رشدي.

«حفنا» طويلًا إلى فاس، وتَسلَّقت زُنَيقاتها ودُرَيباتها، مآذنها، وقِبابها، زليجها، وسقاياتها، ملح العشابين، وروائح دار الدبغ، وقرع مَطارق الصفارين، وأبلاك الزيت، وأنا كنصبح وإلى عشت نمسي، و«أمبرنك»، وحريرة بوعياد بعد الخروج في الخامسة من ليسي مولاي إدريس أطيب من طعام الدنيا كلها، والهروب من لهب الصيف فيك هو الوقوع في أسر عيون الحسان، ولو رشقْنَك بنظرة واحدة تُهْتَ العمر كله ولن تسترجع رشدك أبدًا، ففاس لا يبرأ من هواها أحد، وسوى ذلك بطر. بَعْد عُمْر آخر نزلنا فاس والمدينة شاردة بين صوت وضوء، قدم فوق «زلاغ» وعين إلى زلاغ ينشر مهابته علينا.

فقلنا للطيف الذي كان يرفُّ حولنا كاليمام، تعالَ رافقنا، سَنحوف إلى هناك لنجني بعض أطاييب الذكرى، ثم إن الزيارة تحيي الحب وهو رميم، فسمعنا الطيف مُتعجِّبين يجيب: كيف أرافقكم وأنا لا أحمل أية هُوِيَّة؟! ورغم أن الطيف استجاب بعد إلحاح لطلبنا فرافقنا إلى حيث لا نَدِمْنا ولا نَدِم، إلا أن المدينة باتتْ ليلتها تلك لم يغمض لها جفن يؤرقها سؤال سيدة الرَّفِيف أو تُنكره بحق: ومَن غير فاس يعطي الهوية؟!

في طريق العودة إلى الرباط سألني الطيف إلى جانبي ونحن نقطع الأوطوروت الجديد: إلى أين ستقود هذه الطريق لو امتدَّت؟ لم يعنني الجواب، ولكن تعجبت للسؤال. طبعًا، طبعًا ستقود إلى قلبي، أيها الطيف الذي أطل خلسة … ورحل، تاركًا في القلب جرحًا. آهِ، فعلتها وأنت تعرف أنه لم يَبقَ لي إلا التَّمنِّي، سوى: لو فاس عادت إلي!

(٢) «دفء أخطائنا»

ربما كنت من بين قلائل لا يعيدون قراءة ما ينشرون، أخاف من نفسي في هذه اللحظة، أخاف عليها من الغرور طبعًا، والنَّرْجسية؛ أي الاستهواء الذاتي بما كتبتُ وكأنه لا أجمل. بَيْد أن العزوف عن إعادة قراءة ما يُنْشَر شيء، وقراءة ما يصدر في صحفنا شيء آخر. فما أظن أني فرحت لي ولغيري أيضًا بمقالة خَلَت من خطأ مطبعي — إلا في النادر الذي لا حكم له – إلى درجة بِتُّ مقتنعًا فيها أن هذا هو الصواب عينه.

هكذا أنتشي كلما رأيت الأخطاء تترعرع وترعى كلأ الجريدة كالقطيع، و«ثغاؤها» مسموع من كل السطور. لم يَعُد يعنيني على مَن تعود المسئولية، على الراقنات والراقنين أم على المُصحِّحين؟ وماذا عن القُرَّاء المساكين الذين يتزعزع عندهم كل يقين؟ أم لإصراري على الكتابة بعربية فصحى غير نزقة ولا متردية؟ من كثرة عشرتي بهؤلاء وأولئك يئستُ منهم قبل أن أيأس من الجميع، قَبَيل هلاك محتوم.

وأزيد قائلًا بأن قراءة الصحائف اليوم أمر مهول، وتشبث بعض الناس بالكتابة، بالحق أو الباطل، هو الأهول، وإلا فأي حق يجيز الإجهاز على همزة القطع، فنكاد نقول إن عندنا جيلًا يناهض هذه الهمزة، كما كنا نناهض المَيْز العنصري، أو يستخف بمواقع الهمزة — دعك من علامات الوقف — استخفافًا لا يَقِلُّ عمَّا تفعله إسرائيل في تهويد القدس. لا تَسَل بعد ذلك عن العبث بحروف الجر عبث الجنرالات الأفارقة بحقوق الإنسان. أما العجمة التي تسللت إلى الألسنة ويرزح تحتها الورق فأراها باتت سيفًا يحز رقاب اللغة في كل باب كأنها قدر مقدور.

والحاصل أن ما جَرَّني لأنكأ هذا الجرح خطأ «مطبعي» قرأتُه في مقالة لي صدفة، وقد بلغ عندي من الطرافة غاية. فقد كتبتُ جملة نهايتها: «في دفء أحضاننا»، فاستُبْدِلَت بقدرة قادر أو قادرة إلى «دفء أخطائنا». عَوِضَ أن آسف أو أغضب لهذا «المصاب الجلل» رأيت في هذا التحريف أو التصحيف أو التخريف مناسبة للدعابة والاستمتاع بصورة بَلاغِيَّة عزَّ نظيرها، فأيُّ خيال مُحلِّق هذا الذي يحول الحضن إلى خطأ ثم يبث الدفء في الخطأ؟!

ومن اليوم أعلن على رءوس الأشهاد بأني لن أغضب أو أراجع أي كلام كان، مخطوطًا أو مطبوعًا أو منثورًا كيفما اتفق في صحائف هذه الأيام، وخاصَّةً في شهور القر، أما ونحن في مدخل شهور اللَّهَب فحبَّذا لو انتعشنا بقليل من «برد أخطائهم»!

٢٧ يونيو ١٩٩٨م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥