تباريح مؤجَّلَة

(١) هلام مرح

  • (١)

    مثل الهلام، حين تكون قد تَجرَّدت من كل شيء، وبعد إزاحة ثقل رازح عليك، مكتسب، تنوء به بحق لا بادعاء.

    مثل هلام. خفيفًا، مرحًا وهواء وملاكًا لم تره أبدًا، كدت تطير.

    لا شيء يمنع من ذلك سوى نفضة خفيفة للجناحين كي تحلق السماء قريبًا، مستعيرة منك الأجنحة لتواصل هي الطيران، أما أنت فرفرف بها في الأعالي.

    لست في حاجة سوى إلى بعض الخفقات، كأن أنبش رمادًا، أو أستخرج منه قلبي محترقًا بحُب قديم أو جديد، سيَّان، أو تضرب لي طفلة كان اسمها الثورة موعدًا في أمس تأجَّل حتى صار عندي ما لا يدرك هو اليقين. ماذا لو رنين هتف؟ مثلًا، خليج من أغادير أرَّقَه سهادي المبعثر، أو أغنية من أسمهان تعيد «للبراق عينا» فأرى، لا بأس من خفقة أخرى أسدل بعدها القمر على كل هذا الظلام؛ لأرى.

    قال العائد من حجاته: البقاء أو الرحيل عندي سِيَّان، تعبتُ من الطيران، وقد باتت السماء تحت جناحي هي ما يخفق، التحقوا بأحلامي أو اتركوا هامَاتكم، كالعادة، مُمرَّغة في التراب!

  • (٢)

    من حق الناس، جميع الناس، أن يختاروا أصدقاءهم … أما أنا فأقرر أعدائي.

    واحدًا، واحدًا، أفتح لهم شغاف التراب الذي سأعود إليه لأريهم موتي القادم سلفًا، ثم أنشر أمامهم كفني ليقيسوا لي، باختيار محض، قدر كراهيتهم المتربصة لي وللعالم، في أول عاصفة حب مني. ومن العالم قبلي.

  • (٣)

    في الطريق بين «الصخيرات» و«بوزنيقة» بعيدًا عن الطريق الساحلي، إذا سِرْت على مهل بَدا لك سرب ماء، مثل قطعان ضباء غير مستنفرة.

    حقًّا إن للغزال لون الرمل، بينما البحر أزرق. وتلك الطريق لونها آخر، وحدي أراه كل صباح، ها، ها، ها، يترقرق!

    بدمي فقط، لوجه الله يا أعداء أو أصدقاء، والعكس صحيح بتواتر، لا تتعجلوا، عن قريب سنخلي لكم الأرض كلها، سبخها مرعاها لتحولوها إلى مجزرة. من قال إن البحر أزرق، البحر دومًا كان أحمر، والشمس في الشفق الأخير من المغيب.

(٢) وجهة قراءة

١

انتابتني دهشة حقيقية بعد أن انتهيت من قراءة ذلك الكتاب الذي وصلني بالبريد من كاتب ذي اسم مرموق في دنيا الأدب. لم أتمهَّل حين وصلني الظرف البريدي. دفعت يدي بجُمْعِها فيه بعد أن قرأتُ اسم المرسِل وجهة الإرسال. وقد تَحسَّست الحمل. حدستُ أنه كتابه الجديد يَخصُّني به غِبَّ إصداره، وتأكد تقديري وأنا أقرأ الإهداء الطيب الذي أنعم به عليَّ، كواحد من خلصائه وقُرَّائه المنتظمين، وذيل الإهداء بعبارة: «أرجو أن يعجبك، أيضًا». وقد وجدتها عبارة ملغومة، متراوحة بين الاعتذار، والإغراء، والتحريض على الكتابة وإبداء الرأي. وآثرتُ ألَّا أحسم في أي تأويل، ومنه إلى القرار، قبل الانهماك الفعلي في القراءة.

عندما تجلس لقراءة عمل صادر لكاتب معروف، وذي «سوابق» بتعبير الشيخ محمد السرغيني؛ أي صاحب رصيد أدبي انتظم في أعمال روائية، مثلًا، صار مشهودًا لها، وباتت عَلَمًا على صاحبها، وعلى الفن الذي يكتب فيه، فإنك تُقبِل على الكتاب الجديد الصادر له إقبال المُتهيِّب. تتوقَّع كثيرًا، وتدير في رأسك حسابات شتَّى ليس أقلها أن أليفك سيحمل إليك زادًا جديدًا كما عودك في المرات السابقة، ولن تراه إلا سيَبزُّ نفسه قبل غيره. هكذا تجلس إلى الكتاب منفعلًا، نَهْبًا لأفكار وأحاسيس شتَّى، قارئًا له قبل أن تقرأه حقًّا؛ أي مُستحضِرًا أعمال صاحبه، والمصنَّف، أيضًا، في بابه من الجيد عند سواه.

وتتابعت أوراق الرواية، أطوي الصفحة تلو الصفحة وأنا أنتظر. أكشر، أستهجن أو أبتسم بسخرية ومرارة فيما البرود الشديد هو ما يَتلبَّسني. أعود إلى الخلف، صفحات أخرى إلى الوراء مُتَّهمًا نفسي بسوء الذوق والفهم. أُمسِّد جبهتي قائلًا: إني اليوم مُتبلِّد الإحساس، لعلَّني إن بلَّلتُ الريق بما قد يُسَرِّي عني أصبح قادرًا على استعادة حماسي للقراءة.

عبثًا، أُسْقِط في يدي من جديد. لا شيء، كأني أقرأ حكاية متهافتة، وأستعرض صورًا مرتقة، ولغة شاحبة، ولا تَجُوس أمامي سوى الأشباح أو خيالات الظل، فأكاد أصرخ. أظن أني طَوَّحتُ بالكتاب بعيدًا عني وكأني أقول لصاحبي اغرب عن وجهي، أصيح فيه: فَعلتها، إذن! … من حقك ولا خيار لك في أن تَشيخ عُمًرا، لكن هل من الحق في شيء أن تترك لنا ذكرى كتابة تشيخ؟ وإذا كنا نرجو من الله أن يقينا أرذل العمر، أفليس جديرًا كذلك أن نستعيذ به ليحفظنا من الوقوع في أرذل الكتابة؟!

٢

واعترَتْني دهشة أخرى بعد أن انتهيت من قراءة مقالة لأديب شابٍّ. مد إليَّ ورقته بحياء، ببعض التَّردُّد، وفي دخيلته باطنية يريد أن يحتفظ بها حجابًا دونه وتلوث المدينة. مقالة لشاب، هذا شيء مُفرِح، مثل فراشات الربيع الأولى، قُبْلَة مختلسة بين حبيبين تحت خَمِيلة. في هذا المقام أُقْدِم على الكلام المعروض عليَّ بسجيتي. لا مادة رمادية ولا كومة قراءات تسبقني، والمشاعر مُؤجَّلة أو مكبوتة، في انتظار تَخلُّل السُّحب العابرة لصفحة القمر واستوائه أخيرًا مدوَّرًا، مُنيرًا. أو جسد امرأة سيتفجر نضجًا حين ستكمل العاصفة نحته بالرمال.

أقرأ المقالة، إذن، فتُعجبني فِكرتُها، رؤيتها، مأساوية الحالة التي تثيرها. ثم ما ألبث وقد أنهيتها من الانتفاض ضد إعجابي.

ومباشرةً أشرع في البحث عن السبب: هل هو التسرع، أم الانخذاع أم ربما الغيرة؟ كلَّا، لا هذا ولا ذاك، جاءتني الفكرة بعد «السكرة»: هذه المقالة كانت ستعجبني لو سطرها قلم في الثمانين. إنها مُحمَّلة بمشاعر آخِر العمر، الخطوة الأخيرة قبل الرحيل، كلام أشبه بحشرجة الموت، المصير الذي ينتظرنا جميعًا في مكانٍ ما. ثم إن معانيها، بعد هذا، تحيل فعلًا إلى كاتب خَبَر الحياة، وعرَكَته مِحَنها، وكتبَ بإسهاب وجودة عن هذا العراك، وفي آخِر المطاف قرَّر أن يصمت، وهو لَعَمْري قرار محمود. لكن ما بالُك أنت أيها الشاب الحيي، الجديد، الذي تحتاج إليه الحياة لتحس أنها حية، لم تلتفت سوى إلى هذا الطريق المسدود؟ في عمرك أنتَ كنتُ العاصفة والإعصار والطوفان، فتنة زماني، وحيثما مررتُ وكل ما كتبت هو الهدير. الموت لم أُفكِّر فيه أبدًا، قرأتُ عنه وسمعتُ في الكتب فقط رغم أن بيتنا كان قريبًا من مؤسَّسة لنَقْل الأموات. أقول كنتُ، وما زلتُ، رغم أن للزمن وصبوات العمر أحكامًا.

انتفضت ضد إعجابي؛ لأني انتظرتُ منك، كقارئ، أن تهجم عليَّ بشبابك لا أن تنتصب أمامي كلماتك ملفوفة بعباءات الشيوخ. الكلمات المغموسة في إدام الحياة، المعروفة بتفاصيل اليومي الحارة، لا وقت عندها بين الشهيق والزفير، كما بين «الصحو والمتاهة».

أرفض المُجازَفة بالأحلام، شأن اعتلاء منصة الوصاية على الأجيال، لكن الشاب المشاكس أبدًا في داخلي يأبى منِّي السكوت على المُحال، ومن ضربه أن تكون شابًّا، أديبًا متحسسًا، مُغوِيًا، تقف متغزلًا أو مُتحسِّرًا على الثمالة فيما الأنسب أن تذوق الكأس من أوَّلِها، كأس الحياة، حُلوها ومُرها، ولك أن تشيخ بعد ذلك، فلا شيء أهون من الشيخوخة.

١١ يوليو ١٩٩٨م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥