عسل سوس، لو ذُقتَه!
لو طلبت الفرح جئتك به. فورًا أو بعد هُنيهة. لو مهرجانًا أردتَ، أخرجتُ لك الثعابين من كل غارٍ عميق، لا بأس إن مددتَ يدك إلى أقرب جليس إليك، ربما هو صديق لك من فصيلتها ليقفز معها إلى حلبة الرقص، فالمناسَبة أكثر من مواتية، وثَمَّة زامر وضارب طبل، وقِرَدة أخرى طوق الفرجة على أهبة الدخول إلى الحلبة كُلَّما اقتضى الأمر استبدال رقصة بأخرى، أو أن يسلخ الثعبان جلده القديم، أن ترتدي الحرباء لون النهار الجديد.
مكتمل هذا المكان، مكتمل الهواء، السماء هاوية حتى ديدان الأرض، الصيف أجساد تلعلع بشبقها، استمع إلى هذا العواء الذي لم يَعُد أي أنين يتخلله كما كفَّ الماء عن الاندلاق بين نَهْدَي حبيبتك التي لم تُولد أبدًا، حلمت بها في مهرجان الربيع الفائت وقرَّرت بعدها ألَّا فرح إلا في أمس. من استرخاء السنابل عند المغيب أَجدِل لك، إن شئت، حبالًا تصعد بها رأسًا إلى نجمة أمانيك، وتبقى هناك ترى مباهج كل هذه الأرض أو فضائحها، وعندك بهجة لو قلت على سبيل الغبطة سلَا موطنها ما قصرت، أنا الذي لا يبغي سوى التهويل من طقوس الفرح والإكثار من نسل الفرجة في هذا البلد، وعند والد وما ولد.
فخُذ ما أعطيك وما لن أبوح به إلا أن يأتيك، واستَطِب لذَّة مُزْجاة كما لو أنك ظمئ وستشرب من كَفَّي عذراء من قاع فاس. لن تطلب حسنًا آخر بعد أن تراها؛ لأنك ستغلقهما وكل تاريخ بعدها، بعدهما أو حدائق أو شجرة واحدة هي ضعف الغابة سيرسم، لو علمت بالحاجبين. هذا كله لا تريده، كأنك ذقتَ الدنيا من نبع الآلهة! وعسل سوس يا هذا، آه، لو ذُقتَه!
لا هذا ولا ذاك، تبغي الصعب يا صاحِ. تطلب الشجن، ومن ضربه الكلام الشجي، والأصل فيه عرق ودم واحد، وقد ابتُلِيت مثلك بما لا يُطاق، وأخشى ألَّا يعود لي قرار غيره فأُنْبَذ في القبيلة أشد من نبذي لها. لا أستطيع أن أتشاجى رغم كل ما أغص به ويستسيغه الآخرون فأرسم لك، مثلًا، وقت الهباء بكلمات مُطرَّزة أو مُتألِّقة بدموع بلورية. في زمن آخر كان البكاء يسيح على الخد مثل رذاذ شتوي منشرح، وحين يبلغ الكظم فينا مداه بعد أن غصصنا به طويلًا تستر الأمهات أحزاننا بسربال الدعوات، أو نَتنَهَّد من عياء في عطف ذكرى الحبيبة. شوق لك وأشواق عليك. كنت أسبح في حمى دمي، وأطوي المدن تلو المدن تحت خطوات صاهلة تتقدمها خطوات المتعبين قبلي، وأنا البعد الذي لن يعرف حزنه أو يحس به طبيب للقلب، سيجس النبض أو يقيس الضغط بحساب الجسد الفاني والأرقام الفجَّة.
انظر كم هو مكتمل المشهد بالفجاعة، بالسماجة، بالتورُّم، بالخرداوات تعلق ربطات، بينما النعناع في الحوض إما يابس أو ما عاد يضوع، والبحر مضطر لمواصلة غربته الشاردة إثر غزوات منتظمة لمُسْتَحِمِّين يقايضون السمك بالحب، وقربهم عجائز يَنكُشْن خزَّ المحيط لشراء خبزة مع قليل من الزبدة فقط، أي حزن أفجع من هذا؟! كلَّا، المدن باتت صماء من كثرة الكلام المخصي، وأذان المغرب أو العشاء يسمع شاحبًا؛ لأن لا عين تَترَقْرق بالدمع إثره، ولا حبيبة تفكر بأن تطلق لي سوالفها كي أصعد بها إلى تلك القباب ومنها أمسد بيد حلمتين وبالأخرى، لخاطرك، أرعى فيافي الروح.
عبد الله بومهدي
ثباتًا، لمطلوب مني، أيضًا، ما لا طاقة لي به. مطلوب مني أن أرعى حقول الموتى، لیست مقابر. المقابر لأحياء مزعومين، آسف كثيرًا كيف أن الموت لم يدهمهم بعد لتصبح الحياة أكثر احتمالًا. أقر أنه مقت من جانبي، لكن من ينكر أننا نعيش جُلُّنا تحت وطأة مَقْت جماعي.
أمس مررتُ قرب مقبرة الشهداء الرباطية. توقفت فجأة أمام مدخلها المقابل للبحر؛ أي للمُطْلَق، وللمرة الأولى أدركتُ لماذا تبقى بعض القبور فارغة، فأصحابها، بعد أن نادَموا النجوم طويلًا، واكتشفوا بأن الخارج غاص بأحياء زائفين، اهتبلوا فرصة سلا فيها القمر فطارُوا مشرعين نعوشهم في البحر.
نويت الوقوف قليلًا عند شاهدة أحمد المجاطي لأتذكر أن المغرب كان له شعراء ونفح طيب ورجال لا يقبلون الضيم والانمساخ إلى عبيد، فراعني أن أقرأ حاشية على الشاهدة تقول: «قل لعبد الله بومهدي أن يلحق بي قريبًا إلى البحر، فليس له بعدُ مثوًى في الدار البيضاء.»
لم ألحق بصديقي الأستاذ أحمد السطاتي لأنقل إليه وصية صديق عمره الآخر؛ لأنه كما أعلمني كان يشارك في تشييع جنازة عبد الله بومهدي، مُعتقدًا أنه وصحبه ينقله إلى مثواه الأخير.
المسيح عُلِّق على خشبة، في يوم الجمعة الحزين. وبومهدي عَلَّقوه شهورًا، وشَجُّوا رأسه، وحرَقُوا أعصابه في البناية الشهيرة بدرب مولاي الشريف. سنحتاج إلى كل الأعمار كيلا ننسى. وحين ظل بومهدي يجلس طويلًا في مقهى الإكسلسيور بساحة محمد الخامس البيضاوية، فإنه كان شهيدًا يوميًّا يسأل بصمت ملحاح: تُرى من سيثأر لذاكرتي؟
ثَوانٍ فقط
لا أكثر ولا أقل. ثوانٍ فقط لن يراك أحد. ولن تراني. سأرسم المشهد رسمًا. سأبنيه على مذهب التصور. قابِل للتصديق والتكذيب معًا، قابل لإلغائي متى شئت بحركة عشوائية لمخرج نزق أو بممحاة لاهية.
سأفترض المكان وحده، أما الزمن فلا خيار لي فيه لأنك تسكنه، ولو بعضه، كلي. وسأفرض المكان ثانيًا، هنيهة، فلا مساحة تسعك، وإلا ما بها الطرقات تنهب بعضها من دوار من حيثما مررت أو تخايل طيفك بالأريج الذي يسكبك.
وقت مختلس قلتُ لك. تكون قادمًا، مثلًا، من «باب السويقة» وأنت تَتهيَّب أو تتهيأ للعبور نحو شارع محمد الخامس، في مدينة كانت تُسمَّى رباط الفتح، ولمَّا تصبح بعدُ رباط قلبي — ليكن كلامي واضحًا، فأنا لست هنا لأني لستُ في أي مكان. أطل فقط من نافذة على أماكن تائهة تعبر حولي وقدامي، طبعًا، إني لاهٍ عنها وعمَّن حولها. نجمة واحدة في السماء تبادلني اختلاس النظر كي تحميني من كل هذا الهدر!
وإذن، أفترض أنك ستعبر. لا تلتفت إلى يمين أو شمال، فمثلك يرى من أجل أن يكتشف العالم دهشته، كأول الخلق، ويمضي قدمًا نحو ضلالي أو يقينه.
أي يقين يا أنت؟! سأفقد صوابًا لا أملكه لو تحقق نَزْر من هذا، ولن أفقد المشهد التالي: ساق، ربما، أو قدَم ترتفع، قل الأرض هي ما يرتفع إليها. إسفلت الشارع كأنما عبثًا أن يتحسس وقعها الوشيك، عند وشك هذا التماس لا بُدَّ لي من التوقف أو سأغامر بمصير القمر، حياة كلها، اسمها، بلا قمر، قبل أن ينشد صوتها الكروان.
في المشهد المتزامن، وحدي وسط الصف المجاور في رأس الشارع المقابل، حيث لا أقع إلا افتراضًا. كدت أفضح اسمك دون كل الأسماء لولا أن غضضت حياء من فرط حيائك. يثنيه خوف أم ريب الخطوة، تلك، مُعلَّقة بين أرض وهواء حيث تَعلَّقت عيني بالخطوة الموشكة قادمة نحوي من الرصيف المقابل لي، من نهاية «باب السويقة» في حركة هي الرسم والنحت والشعر والموسيقى، واسم له منه أو منها حرف مُدوَّر رسمه كالرغيف قوتي، كالرحم ملاذي، أو مغشاي، ياه، يا لهبوطي العميق فيه.
في حساب الزمن لن تتعدى هذه الحركة خمس ثوانٍ. في حساب لا عَدَّ له هو فوق الأعمار. لم يحدث شيء من هذا، وذلك ببساطة؛ لأن الأبرياء ينامون باكرًا ملء العين ليستقبلوا غدهم بقلب فرح، فيما أواصل انتظار مروره بقلب واجف، وأحلم عساني أراه يمر في خمس ثوانٍ فقط!