رسالة من الآخرة

«العزيز عبده، أُبلِّغك أطيب التحية وأصدق المودَّة، مُتمنِّيًا لك، وللطيبين مثلك، طول العمر ورخاء البال. وقد كنت أريد مكاتبتك شخصيًّا ومباشرة ولكن صاحبك هذا ألحَّ عليَّ شأن العبد الملحاح أن يكون هو والقراء وسيطين بيننا لكي يغنم الجميع، كما قال، بعض العبرة من قولي. والسبب الثاني خوفي عليك من هلع مُحقَّق لدى توصلك بالبريد من شخص تقوم قرائن قوية على وفاته، وإن كنت بيني وبينك لا أعرف على وجه التحديد ما هي هذه القرائن ولا نوعيتها، وكيف تنسحب عليَّ أنا بالذات لا على غيري، ومعرفةً مني بحبك للخير والإنصاف والحياة، فكرت أن بإمكانك مساعدتي في تحديد هذه القرائن وإقناعي بها لأستريح بصفة نهائية وأريح، ولا تعجبن لمطلبي هذا يأتيك من العالم الآخر، فكما تعلم ثَمَّة عوالم الله وحده أعلم بعددها. ثم إن الأعمار كانت وستبقى بيد الله، يحيي ويُميت وإليه المصير. أعرف بعد هذا أني أكلفك ما لا طاقة لك به إذ ليس لي ما أساعدك به لتحقيق طلبي، ولو بفائدة واحدة أو خيط واحد، كأن أعرفك باسمي الشخصي أو العائلي، أو لقبي. ذلك أنني — حفظك الله ووقاك من كل مكروه — لا أملك أي هوية محددة. وعليه فسأترك لخيالك القصصي أن يجهد في نحت ملامحي، وتصوير شخصيتي. ولعلك إن أخذت القضية جدًّا في جد ساعٍ إلى تشكيل لجنة لتَقصِّي الحقائق حول زعم وجودي. فبما أنني لا أملك أي هوية فإن ثَمَّة احتمالًا كبيرًا ألا أكون قد وُجِدتُ بالمَرَّة، أو أني موجود فقط بقوة تصوري لهذا الوجود. وثِقْ أنك ستُسْدي لي خدمة عظيمة ستنال بها أجزل الأجر يوم القيامة إن أنت وصلتَ إلى أي نتيجة أنال بها السَّكينة النهائية في آخرتي. هذا وإن ظهر لك بعض الخلط فيما أقول، لا بعض الهرف، وتنكب جادَّة الصواب، فاعلم أيها العبد لله أنه ما بيدي ولكن بيد عمرو؛ لأنني اختفيتُ وما زلتُ في الخفاء عن عالمكم، ومُتَعكم وسيرة أيامكم. في ظروف أقل ما تُوصَف به أنها غير معروفة، عندكم طبعًا، عند بعضكم على الأقل لا عندي. فإن أنت تقدَّمت قليلًا في هذا المسعى، أيضًا، فربما أرسلتُ إليك في مناسبة قادمة صورة تذكارية سرقتُها من أرشيفٍ سِرِّي مرصود على الجان والأرواح وحدها، قد تفيدُك في كشف ظرف من ظروف الاختفاء الغريب.

وبما أن الشيء بالشيء يُذْكَر، فاعلم أخيرًا أن روحي هي مَن يحدثك. وما أنا بالذي يتحايل أو يُشَعْوذ لأني كنت أُفَضِّل أن أخاطبك حيًّا، مِن لحم ودم أو حتى ميتًا بلحم وعظم، غير أني لا أملك من أمري في هذا شيئًا، فجُثَّتي هي الأخرى اختفَت في ظروف غير معروفة، وقد فُصِلَت عني عنوة، وطال الزمن بيني وبينها، ما زاد في ضياع هُوِيَّتي أنا الذي كنت ضائعًا قبل ذلك.

وإن روحي لتصرخ مستغيثةً ليلًا ونهارًا تسأل عن جثَّتها كي تأوي وإياها إلى التراب وتستريح من هذه الرؤيا، ولست بالذي يجهل أن الرؤيا، كما علَّمنا شيخنا ابن خلدون، «حقيقتها مُطالَعة النفس الناطقة في ذاتها الروحانية لمحة من صور الواقعات. فإنها عندما تكون صور الواقعات فيها موجودة بالفعل كما هو شأن الذوات الروحانية كلها، وتصير روحانية بأن تتجرد عن المواد الجسمانية والمدارك البدنية»، فاحسم في رؤياي أيها العزيز، ودمتَ للحب وللحياة.»

٢٦ يوليو ٩٨

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥