استهلال الغائب
يغيب. يختفي. أحاول أن ألحق بأثره. أكاد أفعل … لم أفعل شيئًا. قدَّرْت أني مُدركه. قدَّرتُ ذلك وهْمًا وعبثًا. سأحقق ذلك غدًا إن أنا تخلصت من سديمي. من محنة البحث عن وجوده الغائب. قبل مواصلة رحلة الوهم بدأت أشعر بالتطير. إن أمسكت شعرة واحدة منه ستتكاثف عليَّ أدغال غيابه، سأجدني في ورطة لا قِبَل لي بها؛ هو مُتعدِّد وأنا حالة واحدة تفيض عن حاجتي، بقدر ما يختفي تلحقني عدواه، كلَّا، بتاتًا، ليس الإلحاح على حضوره ما يُؤرِّقُني، ثمة أجساد مرمية، مترامية الأطراف كالصحاري، كالنعاس. في تلك البلدان، لم يَقُل إنه غاب … سيغيب. ربما قالَها لفظًا. ربما همس بسِرِّه لعابر، الأصدقاء الخلصاء أنفسهم لا يحفظون سِرًّا. كيف بالعابر، إذن؟! صار الأمر حقيقةً بقوة الإشاعة، تنفسوا الصعداء وقليل منهم انتابه بعض الحنين. أخيرًا قرَّر تبديد سوء التفاهم بنفسه، حمل جسده الظاهر وتجوَّل به في شوارع معلومة، جلس به في مقاهٍ يعرفها وتعرفه، طلب من النادل أن يُوزِّع صورًا شخصية استنسخها على جميع الطاولات. كان حاضرًا تمامًا. كان يقظًا لمكر الغياب المفترض، قام ببعض الحركات المُتشنِّجة ليلفت الأنظار إلى حضوره، إلى جسده الحي. كما يحدث أحيانًا لبعض النواب الذين لا تسعفهم العبارة أو تَتجاوزهم. الحقيقة، إذن، هي الإشاعة. الغياب، أيضًا، هو الحقيقة الوحيدة الممكنة. مثله تمامًا. هو حاضر دومًا، لكن أين؟ لن أبوح بسره لأحد؛ لأني اقتفيت أثره؛ لأني انضويتُ في غيابه.
يحدث أن يكون الجسد على موعد مع جلسته في السادسة والنصف مساء، كعادته، بمقهى «لوفلور» قُبالة مزار «ليب» أبدًا في الباحة، تحت السقيفة، من خلف زجاج الواجهة تتبرج الشجرة المقابلة بنضارة اصفرارها المبرقش. هنا كلام غزير يندفع من الباب، يثقب الزجاج وينبثق من الطاولة وفنجان القهوة الأثير ليحاصر الجسد بكلام الزمن، متناسيًا فكرة أو إحساس الغياب بالمرة. ذلك أنه أو أنهما معًا ليسا على وفاق. لم يحدث هذا قط في أي يوم، إذا حصل شيء منه أضحى الكلام لاغيًا. أما الكتابة فستُمْسي تفريخ كلمات بلا ضرورة، بلا روح. لهذا السبب تتكاثر الكتب وتشح الكتابة.
لم يستخف بمن حضر، لكنه كان خارج الدائرة المفترَضة؛ لأن الجسد كان جالسًا اللحظة ذاتها في ملاذه الغابر بزنقة «بروكا» بالدائرة الخامسة، في الطابق السادس حيث يطل على مخاض شجرة ستلد الخريف، قَبْلئِذٍ في بلده الأعجف ما عرف إلا فصلًا واحدًا، حياةً وموتًا واحدًا.
الورد ما شَمَّه والبحر ما حنَّ إليه، الورد لا يُوصَف، وحسنها تهدَّل مع شعرها الوفير فمخضه جسدها في زنقة «لونيفرستي» أعوامًا في الدائرة السابعة، ثم أدخله بويضة في الرحم ورَكِبا المترو في الاتجاه الذي لا يعرفه وضاعَا في رحيلها؛ لذلك لن يُحاوِر الجسد أحدًا. ربما لا يراه الجالس إلى جواره؛ ببساطة لأنها تحمله في رحمها، منه ينظر إلى الخارج وهو فيها لا يقبل إلا بهذا الداخل. هنا فقط يستطيع قياس دبدبة الهرج الخارجي الفاحش، استلذاذ البراءات النادرة، التقاط هَمْس إيقاع عابر في الدم، المحافظة الضرورية على شعرية عنفه، القهقهة حتى السعار في وجه النذالة اليومية.
سيحتاج إلى أظافر مشحوذة ليكشط بها جلده. ليستنفر من جديد هو المستنفر دومًا. ليتذكَّر أنه هنا في مَقهاه الأليف، يحتسي قهوته الأثيرة، كل شيء يحدث كالعادة، الخريف وصل في موعده كالعادة، الروايات ودواوين الشعر والأبحاث وكتب أخرى من الهراء صدرت بدورها، وهي تتنابز بالألقاب، وغدًا ستُعلن الجوائز كالعادة. مَزَار أو مقهى «ليب» أوه، ليست إلا ذكرى. واحدة من ذكريات باهتة، لن استنفر جسدي أبدًا لعبور الشارع إليها، وعلى كلٍّ فإن متجر الموضة الرفيعة الجديد بجانبها مسح آخر بقعة دم كانت تلطخ واجهتها.
أظن أني سارعتُ قبل حضور عُمَّال النظافة، وانتزعت من البقعة قطرة جامدة وضعتُها فوق كفي. أظن أني استعملت قطارة وزرعتها في عيني. أظن أني لم أفعل شيئًا من هذا، بل بقيت على كفي، وبعد أن تعبت طويلًا من الطواف سائلًا عن صاحبها لُذت بركني المفضَّل في «لوفلور»، حيث نسيتُ أني كنت جالسًا منذ وقت طويل. حيث تركتُ جسدي وغِبتُ لبعض الوقت.
فجأة دخل مع ريح كانت تترنح في الخارج مُسقِطةً في عَصْفها الخريفي الأول بضع وُرَيْقات ذات صُفرة حربائية من تأثير الإنارة المنعكسة على الرصيف، فبادَر العابر لتوِّه بالتقاطها وضمها في الحين داخل محفظة جيبه مثل ورقة نقدية غالية، وتابعته وهو يمضي معولًا حَتمًا على شيء دار أو يدور في رأسه، ولم أنتبه إلى الداخل مع الريح إلا بعد لَأْي ليقين أو وَهْم مسبق مني أني تركتُه جالسًا في حي عشوائي، بشرًا وسكنًا، اسمه «أكدال» في تلك الرباط، وهو يتبادل أطراف الحديث مع صديق جديد له حول «الزمن الضائع» أو بيروت، أو لعلهما يعيدان تشكيل الفضاء: واحد «من جهة سوان» والثاني «من جهة غرمانتس»، وطبعًا فإن ذلك كان هو «العبث» في درجة المطلق أمام طابور لا ينتهي من المتسولين، وباعة السكاكين، والمروجات لمعجون الأسنان «وما جاوره». إلى أن عاد ينبهني شبه مُنقَضٍّ عليَّ هذه المرَّة، إذ أحسستُ بجسده ينتفض تحت ثيابي فذكرني بأنه لي لا لشخص آخر، وما لبث أن تدفَّق في العتاب، وهو يلغو بكلام لم أفهم كُوعَه من بُوعه: هل أنت مسكون أم ماذا؟! قبل قليل مررتَ بأكدال، بالمكان، إياه، رأيتكما معًا، أنت وعبد المجيد تشربان عصير الزمن الضائع، وأنتما تطلقان ضحكًا مُجلجِلًا في الهواء الملوث. حاولت أن أخمن على من أو ماذا تضحكان؟ ولولا معرفتي بغرابة طباعكما لواصلتُ بحثي. وقد تأكد لي ظني حين التحقت بكما أو بالأحرى به. وجدته جالسًا وحده ينظر إلى فنجان مليء بالقار أمامه. حين سألته إن كنت ستعود بعد قليل، نظر إليَّ دهِشًا بسِيما مَن لا يفهم. ولما ألححت نبهني أنني ربما أعاني من عقدة نفسية اسمها ضمير أو عُصاب الغائب، أما هو فلم يحضر، إلا في ظنك، أو في دلالة مُفترَضة عندك، وربما أسعفك الحظ فصرتَ تعيش رؤيا باهرة … عِش رؤياك يا أخي، هكذا خاطبني أخيرًا، اتركه في حاله، واتركني أنا أيضًا أشرب هذا القار.
حاولت أن أهدئ من روعه. طلبتُ له مشروبًا مُجرَّبًا في حالات الضغط العالي، جسدي مني، خلعتني وأوصيته بنا خيرًا، زاعمًا أني عائد إليه بعد هنيهة، وفي كل الأحوال لا مناص لي من المادة لكي يستقر داخلي في معنًى ثابت. لم أكن موقنًا تمامًا من هذه التخريجة، فها هي باريس مكسوة بغلالة الخريف، أمشي فيها بخطوات وئيدة على (وليس ب) عينين معلقتين بغمام أصفر يخضب أعالي الشجر وانحناءه المائس. لكن هذا وحده لا يكفي ليوجد الفصل رغم القشعريرة المتناوبة على العظام. هناك ما هو أقوى ندفعه نحو الشجرة كأنها تنبت للتو، والأصفر المدلهم نحن فتكته، ومن فرلين، لو شئت إلى ميشو، ليست أوراقه إلا ظفيرة استعارات مجدولة في قصائد الشعراء والعابرين في بحبوحة التَّخفي والجرح الصامت، بعد تكاثُر اللغط باسم الجراح المُعلَنة. تركتُ عنده جسدي هنيهة زعمًا ودلفتُ إلى المكتبة المجاورة لأقتني «صمت الدواب»، الكتاب الذي لن ينتبه له الذين تغرغر أفواههم بالكلام من الصباح إلى حتفهم. ارتعشتُ وأنا أَلتهمُ وقوفًا مُقدِّمة الكتاب، مُستطلِعًا المدخل إلى عالَم كائناته محسوبة على الصمت فيما هي هادرة بكل اللغات والخطابات المباشرة والمشفرة … وبالمقابل هناك الكائنات الأخرى، الموسومة بالناطقة ومن طبعها الكلام. فما هي حقًّا الحدود الفعلية والحَرِجة بين الصمت والكلام؟ وعلامَ يدلُّ النطق أو لا يدل؟ وما هو كنهه؟ وحَلَمْتُني، بل رأيتُني دابَّةً هوجاء وأليفةً في آنٍ من يوم أن نَبتَ زغبها الأول ابتلع المدن، تلو المدن، تستبطن شوارعها وميادينها شغاف صمتي وأتكاثر بكائناتي المدلهمة في تضاريس الأنياب والمغارات، والسماء على كفي أُرقِّص نجومها أو سُحُبها، وهذه الأرض، كل الأرض تجر تاريخها تتبعني إلى أول حَتْفٍ حقيقي ستلقاه.
لن نتبادل بعد اليوم لا الصمت ولا الكلام، لا الإبهام ولا الوضوح، إلا المُعيَّن وليس المَجاز. لا يوجد شروق ولا غروب، أنا غائب إذا وجدت، وموجود فقط حين ألتمس غيابي. لا يعني كلامي تحديدًا، ومُدرِك أن صمتي يحتوي على قرابة ألف سنة على الأقل من الكلمات، فضلًا عن نظراتي الفاغرة أمام مواكب البلاهة اليومية. وبالمقابل في ملاحقة فراشات قزحية ومن أجل استحضار مُتجدِّد لأمة تقتات من النسيان، ماذا تستطيع الكتابة أمام الكثافة القصوى للغياب، وإزاء جراحنا النازفة ﺑ «صمت الدواب»؟ مرَّت قرون على السؤال والجواب دائمًا متقدم في لعثمة الكلمة الآتية. مر عام آخر على تَبعثُر أشلائي بين الضفتين. سأقتطع من جسد الغياب أشلاء جديدة، نيئ من أجل حضور مُفْترَض لكلام قد يصل وقد …