استهلال الغياب

يشتد الامتلاء ليتكاثف كتلةً صماء، النظرة تطوي المسافة لتتوالد منها عيون فزاعة منصوبة على طول الطريق. تَغطَّت بنظارات مؤقتة وبقيت تنتظر. شيء مثل الرادار موضوع خفية في مكان جانبي لتسجيل حالات المخالِفين، وضبط ذبذبة مُعيَّنة. ما هو منفصل كلية عن فضائه ومرصود له مطلقًا. في السماء هنا غيم كثيف. في الأرض هناك شح ووبال وفير. العين لا مرمدة، لا صافية، العين بلاستيكية مُزوَّدة بجهاز قياس دقيق، غير موصولة بأي خيط من داخل أو خارج، عدسة موضوعة في محجر، نتوء محفور، ثُقب مصنوع بحياد، ببرود، بيد صانع مأخوذ باللامبالاة، وهو ينفخ سيجارة في الهواء. ينفذ عملًا طُلِب منه ولا يهمه أن يسأل عن معناه. هو منفصل تمامًا عن صنع يده، يده وحْدَها تعمل وفق تصميم مُحدَّد، لا يتذكر هل رسمه هو أم غيره؟ المهم هو الإتقان والسرعة في الإنجاز.

ينبغي أن تحفر بسعة محجر كبير، لكائن أكثر بقليل من القامة العادية، شريطة ألا يكون عملاقًا. اغرس فيه بعد ذلك هذه العدسة، شكل العين، لا تهتم بباقي الأطراف، فنحن الذين سنحضرها ليكتمل الكائن، لا يأخذك تفكير، لا تستسلم لأي غفوة طارئة، سِنَة من حلم عابر، الحلم فخ، الفخ ينهض دائمًا على قاعدة الخديعة، مثل هذا العالم، هذه الحياة. نحن جميعًا وقعنا في الفخ؛ لأن هناك مَن فكر وحلم بالنيابة عنَّا، فأكمل الخلق واستنفد الأحلام، فأصبح كل شيء جاهزًا، كامل الترتيب، وليس عليك سوى أن تنفذ. رغم كل المحاذير دارت بذهن الصانع فكرة طائشة، أن يلعب، ويراوغ ويَتحرَّر مؤقتًا من قيد الطلب. وقد تساءل: عِوَض جُحر واحد سأحفر اثنين، وبدل عين واحدة سأثبت خمس أو سِت عدسات، والقامة سأُعَمْلِقُها طول صومعة الكتبية أو برج إيفل، ومن الطين سأعجن كائنًا غير مسبوق الخلق ليشرف على العالم وما بعده، والخيال، أيضًا، لا حدود له، قبل أن تنتقل القدرة المزعومة إلى إزميله، بله قبل اكتمال الفكرة في ذهنه أحس بقبضة خَشِنَة تلتفُّ حول عنقه وتُطوِّح به إلى بعيد، بعيد مجهول ما انفك يدور فيه وهو يسأل بهلع ولهفة: أين أنا؟ مَن أنا؟ ولماذا ألقيتُ بنفسي إلى التهلكة؟ كان للقبضة لسان مُخْشَوْشِن يقول: أنت الآن في مُطلَق الغياب؛ لأنك جرؤت على التفكير فيما لا يعنيك، فيما يدخل في طاقتنا نحن وحدنا، نحن أصحاب العين الذين نملك حق الحضور دون باقي العالمين.

لم يكن وحده مَن صُعِق بهذه اللوثة، عشرات غيره، ربما مئات، وعلى كلٍّ، فالتقييدة طويلة ترجع إلى عهد جَدِّنا آدم عليه السلام. لم يُرَ لحامل اللوح وَجْه أبدًا، يده وحدها تخرج مرة، مرة، من دهليز وتخط اسمًا جديدًا على اللوح بمِداد أبيض على مساحة كاغد أبيض. وبينما اليد تكمل الخط تتهادى في السماء. وهي سقف من صفيح صدئ — أشباح في شكل عفاريت — لم يثبت أن أحدًا رأى العفاريت بالعين المُجرَّدة، ولهذا فاحتمال وجودها في كل مكان وارد، فوجب التنبيه — تُرى، ونحن لا نعرف مَن يراها، وهي تَسْحَب من كيس مهترئ شبحًا صغيرًا، وطبعًا لا شكل ولا لون له، وتقوده جهةَ الدهليز من حيث يُخَيَّل إليه أنه يسمع أصوات ترحيب مخلوطة بسُعال صدئ، وبُصاق من دم. يُجَرُّ إليها بقوة جاذبية خفِيَّة. تضمه إليها في عناق حارٍّ، تتلمس وجهه الهلامي وجسده الممحو. تَحُك من عظمة نَخِرة فيها أنفًا يحاول أن يَتشمَّم الهواء والتراب وبقول الأرض، تحاول أن تعرف — محال أن تعرف في سديم الديجور — إن كان في الخارج بعد بقعة ضوء. وما إن كانت السماء ما تزال، كما تقول الأشعار، مُرَصَّعة بالنجوم، والورد تُراه يضوع دائمًا في المشاتل، ومسك الليل يفيض عبيره في الليل، أصوات مهجورة، مقرورة، مخلوعة، مكدودة، مدعوسة، أصوات مُغتصَبة، مُفْتضَّة، خطوط أو أسماء ناقصة الحروف، مبتورة الأطراف، تالفة الذاكرة، مُعلَّقة كخيوط العنكبوت بسقف المجهول تسند انهيارها بجدران صخرية هي الدليل الوحيد على وجودها المادي السابق.

بعد مُضي شهور، فأعوام، ففَنَاء، انفتح باب الدِّهْلِيز على مصراعيه، وانشقَّتْ سماء سقفه عن سماء حقيقية، بدَت ربيعية الزُّرْقة. ومن علٍ تَدلَّت حبال بأفواه كبيرة وهي تنفخ: يا أهل العالَم السفلي، نطلب التسليم! الأرض تناديكم، والكل في انتظاركم، وقد أعددنا لكم في الخارج، في الحاضر، خيامًا وعرائس وركابًا، وسنطوف بكم البلاد، السهل والجبل، في مواكب مُزْدانة بحَلَمات الصبايا وسوالف الكواعب، وليس لكم إلا أن تباركوا لنا هذا الزمان، وشرابكم من الآن أصفى من قَطْر النَّدَى. ظلت الأفواه تُردِّد النداء طويلًا دون أن تسمع الجواب. انفتح الدهليز واتَّسَع أكثرَ فصار بمساحة بلاد بأكملها: السهل والجبل، والوديان والفيافي، ومن سقفه المُشْرَع على الزمان الربيع تَهاطَلت سلالم من حبال مَفْتُولة، ومظليون، ومشايخ تتدلى من أعناقُهم سُبحات غليظة وبأيديهم مَباخر، وعَكَف كلٌّ على شغله وخاصَّةً المشايخ الذين غطسوا في تلاوة التعازيم والجدبة: الله حي، الله حي. ربما خسفت الأرض بعد ذلك بقليل، ربما غادرت الأصوات لموقعها صاعدة إلى السماء في دخان المباخر. ربما انشق الفضاء عن صوت مزمجر يرغي ويُزْبِد: ألم أَقُل لكم، إن الدهليز أولى بهم وبكم جميعًا؟ أغلِقُوا الأرض إذنْ، وسُدُّوا السماء، وربما عثر أحد النَّبَّاشين على ورقة مدعوكة كُتِب فيها كلام خير لي ولكم ولباقي المسلمين ألا يهتك سرها، والله أعلم.

وقد حدثنا عبد المجيد الواسطي عن صديقه زكريا، عن صاحبه عبد المالك الطوارقي، عن صاحبهم المسترشد بالله، المشهور بلقب «كافكا بالله» لكثرة الحالات العبثية التي يلاقيها في زمانه، ويخوضها كما لو كانت جدًّا في جدٍّ، فإنه كان، دأبه كل أحد، أن يتلف الوقت في الجوطية، مُبحصِصًا هنا وهناك أملًا في العثور على تحفة نادرة يضيفها لمُقتنَياته. وبينما هو كذلك إذا به يرى رجلًا يفزع عن دكانه، مُرسِلًا صيحة هزَّت جنبات المكان، وكان قريبًا منه فعثر فيه، فعَوْذَلَا معًا وبَسْمَلَا، وثَبَتا ينظران جامِدَيْن جهةَ الدُّكَّان، وما لبث قوم آخرون أن انضموا إليهما ليصبحوا حلقة اتجهت حَذِرَة، وقد أصبح المفزوع محاصرًا فيها، فسألوا الرجل ما بك؟ فما ردَّ، فلما أعادوا الكَرَّة قال اطلبوا الكُتُبِي، صاحب الدُّكَّان ينبيكم بالخبر، وما هي إلا لحظة ورأوا فيها مَن هبَّ من القعر أشعت أغبر، تقول إنه من سُكَّان القبور. لم يفهم سِرَّ الجَلَبة إلى أن لَكَزَه أحد الفضوليين مُطالبًا بِسِرِّ الصيحة، تعَجَّب من الطلب ودعاهم إلى استنطاق صاحبهم ليقر بما ينبغي فهو الهلوع وليس أنا، فوافقهم مَنطقُه والتفَتُوا إلى هذا الأخير الذي استنكر ادعاء الكُتبيِّ مُتَّهِمًا إياه بالدَّجَل والشَّعْوَذة، وثالثة الأثافي، أضاف، تخزينه العفاريت والأرواح في رفوف الدكان، ودعانا إلى الدخول للوقوف على جلية الأمر، بعد أن أصبح مَحمِيًّا بنا، فدلَفْنَا إلى مَمرٍّ مُعْتِم، رطب، فُتِح في نهايته على غرفة تَكدَّسَت فيها الكتب علو سقفها الوطيء، وبحركة مباغِتَة انقض على كتاب مفتوح مُطلِقًا صيحته السابقة: هذا، هذا، مسكون بالأرواح، بالجن والعفاريت!

فعندئذٍ حَسِبْنا في الرجل صَرَعًا فرششناه بماء زهر حمَله البائع على عجل فما زاده ذلك إلا هياجًا: يا قوم صَدِّقُّوني، إني فتحتُ الكتاب على الصفحة ٧٠ فسمعتُ عويلًا وأنينًا وصَدى مزاليج. وعلى الصفحة ٨١ قرأتُ كلمات ما لبثت أن شَخَّصَت أمامي خليطًا من رجال ونساء وأطفال، وهم يَجرُّون أقدامهم جرًّا في مُستنقَع راكد وفوقهم غَمام كثيف لا هو أسود ولا هو أحمر، وقد استحالَت أجسادهم أفواهًا صغيرة تَتلعْثَم بكلمات مهموسة لا تُلْتَقَط. وفي الصفحة ٩٨، وهي لا شك تتحدث عن أمر جرى في بلاد الهند؛ لأنه ورد فيها ذِكْر لقب المهراجَا، التاسع والتسعين بعد الألف، بمناقبه العظيمة التي جمعت المجد من أطرافه، وذيوع الخير في زمانه حتى ما بقي ابن امرأة إلا ودَعا له صباحَ مساءَ. في الصفحة ٩٨ خرجت من الكلمات هياكل عَظْمِية تمشي مثلي ومثلك، وكلامها همس من فمٍ لأُذن، وهمست في أذني بِعضَّة خفيفة — وفعلًا رأينا أثرًا على شحمة أذنه اليمنى — بَلِّغْهُم أنهم واهمون لو تَصوَّرُوا أنهم طَمَرُونا في الغياب، نحن السابقون وأنتم اللاحقون! فوالله صدقنا الرجل، وقد استولت علينا رهبة عظيمة، فتهافتنا على ما حولنا من كُتُب نفتحها، نقرأ الصحائف كيفما اتفق فيظهر لنا من الخفاء، ومن بين السطور العجب العجاب، ومنه امتلاء الغرفة حتى لا مزيد، بالمئات، بعشرات الآلاف، ولا باب للدخول أو الخروج بعد أن سُدَّ الممر المُعْتِم، حتى صارت بسعة البلاد، والناس في هرج من أمرهم ومرج، وإنْ أَطْرَقْنا بين الفينة والأخرى نسمع مَن يُرتِّل بخشوع لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ.

يقينا أن المسترشد بالله كان سيجلجل بالضحك من خلف نَظَّارَتَيه الغامضتين، هو الذي خبر علوم الأوَّلِين والآخِرين، لو فتح آخر كتاب اقتناه الواسطي من جوطية يوم الأحد، وقرأ في مدخله عبارة هيدغر، لا فُضَّ فُوه: «الكلام هو مأوى الكائن.» وإذن، هذه هي الحكاية وما فيها، وهل كانت في حاجة إلى هذا السحر والتَّلْغِيز كله. ففي بلاد ما وراء الزمن، الواقعة جبرًا ما وراء البحار والقبور، كان الكلام وما يزال هو المأوى إلى حدود ارتفاع السيف عن الرقبة، وهو في هذه الأرض مُحال وإلا ثبت المطلوب، مما لا يحتاج معه المرء إلى فلسفة أو إلى فيلسوف من عيار هيدغر. ومن جانب الراوي الذي تَشابكَت بين أصابعه خيوط الحكايات، فقد اتسع الخرق على الراتق، وهو فيما جمَع ودَوَّن، رَوى وسَيَرْوي في مُستقْبَل الأيَّام، محكوم بضمير الغائب، فضلًا عن شريعة الأنام. لهذه أول وليس لها آخِر، كما هو الشأن مع سكناي الكلام، في مُطْلَق الغياب.

١٧ أكتوبر ١٩٩٨م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥