استهلال الرؤيا
إن أقررتُ اليوم بأني مررتُ بتلك «الحالة» فلن أجد مَن يصدقني، رغم وجود شهادة تُثْبِت الأمر لصالحي، ومن الصعب أن تكون مُزوَّرة؛ لأنها تحمل في أعلاها اسم مستشفى مشهود له باختصاصاته وأسفلها توقيع طبيب ذائع الصيت يُؤكِّد فيها أن حامل الشهادة فَقَد ذاكرته، وعلى الجهات الرسمية والدَّهْماء أن تأخذ بالاعتبار هذه الواقعة في تعاملها مع المَعنيِّ بالأمر. هذا ولم يَرِد في الورقة ما يفيد بتوقيت الحادث، إن حصل في الماضي أو قبل قليل، وما إن كان أثره سيمتد إلى يوم القيامة. وهو ما يخلق ارتباكًا للآخَرِين ولي أنا أيضًا، فهم لا يعرفون إن كانوا مُلزَمِين أن يتعاملوا معي كشخص فَقَد ذاكرته مؤقَّتًا، أو لن يستعيدها بتاتًا، وبذلك يتحدد بيننا منطق مُعيَّن. وإذا كان عندي من نصيحة أزجيها لأحد، فهي أن يمسك رأسه جيدًا بين يديه وهو يتابع حكايتي التي لم تبدأ ولا أَعِدُه حقًّا أنها ستبدأ؛ إذ كيف لي أن أتذكر؟!
ربما أحسستُنِي بعد ارتطام رأسي بالطوار مباشرة أغيب، كأني ما وُجِدتُ ولا حَيِيتُ. لا أَستغيثُ بأحد. نفسي لا تستغيث بما تَبقَّى من أعضائي، لا أَتشبَّث بشيء، كما لو كنت أرى دون فُوَّهة بركان أصابع جَمْرٍ تهبط دوني مثل حبال تَقمطُني تعلو فوقها أصابعي تثقب الإسفلت، لعلَّه التراب مغموسًا في دم تكبد وهي صاعدة، باستماتة من يرغب في أن يترك وراءه علامة شاهدةً تُعَيِّن مكان قبره قبل أن يختلط بقبور أخرى، فإذا سأل السائل حفَّارِي القبور لا يرى لهم أشكالًا، بل هم كُتُل مُكوَّرة في الظلام؛ لأنه سِتار وستر وسِر؛ لِيزدَاد تَكوُّرهم حين يلاحقهم السؤال مُلِحًّا أو استغاثة تتكسر على الحجر. حين تكاد الأرض تميد يجيبون أخيرًا، هنا لا بُدَّ من هذه القبور وإلا تميد الأرض لِتقتات بالأموات، والأموات ببقول الأرض. وإذا ما غامَر أحد مُحتجًّا: لكننا لسنا موتي، أُلْقِمَ سريعًا بالجواب: بلى، لقد مُتَّم من زمن بعيد ولم تَجِدوا أحدًا يتبرَّع بدفنكم لينالَ الأجر، وإن كان عندكم شك فيما نقول افتحوا أعينكم واسعة، واقرءوا المكتوب في هذا اللوح … أو، الجو تَعفَّن، إنها رائحتكم. ونحن الآن نَتبرَّع بدفنكم بعد انتهائنا من مهام عظيمة في أماكن أخرى قضينا فيها سنوات من الخدمة نُنْجِد الناس بالدفن، وهم ليسوا مثلكم آثِمِين، جاحدِين، بل مُستعطِفِين إنِ اعْتِقُونا بحسِّ الموت، وكانوا ألفًا بل وآلافًا، فحفرنا بالليل والنهار، ولعلكم أنتم آخِر مَن بقي في انتظار السُّلالة القادمة إن شاء.
قبل أن يهوي سَرَح الطرف فبدَت له في مدى النظرة رءوس تَتحرَّك في دوائر مُغلَقة بنوع من الطيران الغريب. رءوس بأجنحةٍ فوق حراب لا يُمْسِك بها أحد، فهل رأيتَ من قبلُ تحليقًا لا يحدث طيرانًا، ولكن أصواتًا بلغات ترجع صداها بين صَمْت وهدير، وترى الكلام يدفع بعضُه بعضًا مثل الموج.
رءوس مُحُلِّقة هذا التحليق المتكلم لغات مرموزة لا يفهمها إلا مَن هم في حالة لا هُم أحياء، لا هُم موتي، أصابع تَتشَبَّث بالبقاء في الخارج مُشرَعة كالشمعدان.
ثم ها أنا ذا أهوي عميقًا، آخِر ما تَبقَّى من وجودي أصابعي، عندئذٍ تَيقَّنْتُ أني فقدتُ الذاكرة، وإن كل ما رويت سلفًا هو من أثر ارتطام رأسي بالطوار.
فأنا لا أذكر، أو ربما بسبب الإشعاعات القوية التي خضع فيها دماغي لفحص جيد. وشد ما أخشى أن يكون تسلل مع الإشعاع كائنات سِرِّيَّة مثل تلك التي نسمع أنها تجوب الشوارع ولا يراها أحد لما تَتمتَّع به من مهارة في الاختفاء، وأساليب في التَّنكُّر من إنس إلى برغوت، ومن قِطٍّ إلى وطواط، ومن خَفِير إلى صرصار، ومن جُعَل إلى شاعِر. ومن ضَبَاب ما أستعيد من تلك الجلسة، وهو ما لا أستطيع الحسم فيه، كيف رأيتُ — ورأسي يدخل في جهاز أسطواني — شخصين لا يُشْبِهان الأطباء بلباسهم الأبيض، يرتديان على الأغلب بَذلَات رمادية؛ سمعتُهم يسألون إن كان هو فيأتيهم جواب مستفسر أيُّ هو تعنون؟ هو الذي سَمِعْنا عنه هنا. آه، ربما تقصدان الذي أُحْضِر لنا للتو وحِرْنا في تفسير أمره؛ وتشخيص ما حلَّ به، أو هو الذي أعلمنا أنه فَقَد الذاكرة بفعل سأتأكد من حقيقته.
ولكنَّ فاقِدِي الذاكرة كُثُر؛ لذا من الصعب أن نعطيكم جوابًا حاسمًا، ثم إن الشخصين طلَبَا من الأطباء الانسحاب من قاعة الأجهزة، وأَخْرَج أحدهما ورقة من جيبه زعم أنها تصريح خاص من جهات أكثر خصوصية تسمح بإجراء فحوص استثنائية خارجة عن الاختصاص الطبي؛ لأن الموضوع — على حدِّ تعبيره — فريدٌ من نوعه، بل فرصة نادرة لاستكمال معلومات لها علاقة بالأدمغة والأرواح الشاردة. وصِنْف من الناس بدأت تنتابهم في السنوات الأخيرة أعراض من الغيبوبة والاختلال بحيث يكون الشخص ولا يكون، يقول الشيء وضده، يبكي ويضحك، يُغْمَى عليه وهو يقظ يدخل في الكلام ويخرج بلا مُناسَبة. وبالمناسبة لو اقتصر الأمر على هذه الأحوال لَهانَ إلا أن تصل إلى وجود الواحد حيًّا وهو ميت، فمَيِّت وهو حي. والخطر كله في الاشتباه فيه بين وضعين مجزومين للحياة والموت. وفي حدود معلومات الرَّجُلَين أن الأطباء لم يسبق لهم أن عايَنوا أوضاعًا مماثلةً وهو وَبَال عظيم لا بُدَّ من معالجته بطُرُق فريدة.
في ضباب رؤيتي، ورأسي مُنضَوٍ داخل الجهاز الأسطواني لمَحتُهما يُخْرِجان من كيس آلات تصوير، ومشارط، وبعض الأعشاب وما يشبه جلودًا للضفادع والثعابين، وشرَعا في تَحسُّس أطرافي التحتية، والتقاط صور لأماكن مُحدَّدة منها، ومقارنة جلدي بجلودهم. وقد غشيني خوف رهيب نجم عن إحساسي بأني شُطِرت إلى نصفين: نصف أسفل أخذ مني، ونصف أعلى منه رأسي، سمعتُ مَن يقول احتفظوا به؛ فبداخله مؤامرة كبرى. وحين أشكل الأمر على الجميع جاءت العرَّافة وهي ترى أصابعي آخِرَ ما تَبقَّى منِّي تنفع في العَد كآخِر شيء مسموح به، وانقلبت إلى الأسفل كي تنضم إلى هاويتي، غمغمَتْ ودمدمَتْ ثم قالتْ: سأقرأ لكم السِّر، أفكُّ الطلسم. ستسمعون ما لم يُسْمَع من قبل. تَرَون ما لم يَرَه أحد ولا في مَشاهد القيامة، فإن كان قادرًا فأنا أقدَر، وعارفًا فأنا أَعْرَف، فتَّاكًا فأنا أَفتك به، مُتحايِلًا على نواميس الحياة والموت فأنا أشدُّ منه احتيالًا؛ لأن الحوادث التي وقعتْ له هي من الصحة لدرجة تُذهِل العقل، وتشرد باللُّبِّ، وهي على قَدْر من الإيهام والتلفيق تبلغ بالسامع مع العارف حد الانبهار. فالحذر في الحالتين أوجب، جدير بي وبكم وبكل مَن يخطر بباله القدرة على قراءة كفٍّ لا هي أرض، لا هي سَفْح، وفيها خرق هو العُمق والمهوى، جاءها صوت منها أو مِنِّي: خَبِّرينا فقد ذُهِلْنا من حالنا، لا نعرف إن نحن في الأرض أم في السماء أو في الْمَابَيْن، وقد أنذرتها إن تأخرت أكثر سأنقلبُ عليها فأغيبُ كما اعتدتُ أن أفعل دائمًا، ولن أُبْقِي منِّي سوى الحيرة، ولن تَجِدوا بعدي أحدًا دليلًا على أنكم وجدتم حقًّا يومًا. فمَن أنتم بدوني، أنا الكائن الوحيد الغائب الحاضر، الميت الحي، المستيقظ المُغْمَى عليه، الحامل لملامح البَشَر الأول الذي انقرض أو هو في طريقه إلى الانقراض، أو لا علم لي بأني وُجِدتُ معكم، بينكم، شاهدتُ عالَمكم قبل انقراضكم فيه؛ لأن العقل ذهب، والذاكرة غابت، وكلَّما حدث فعل غياب.