استهلال المحبوب
لو جئتَني الآن لأجلستُك حيث لا أجد. لفَرشتُ لك ما لم أجد. وغَطَّيتُك، ورَحَلْنا. سمعتُ أنامِلَك الرقيقة تَدقُّ على باب القلب، فهُرِع إليك سريعًا ليفتح فلم يَجِدك. كنت بداخله، هو المعمور بك، فلم يسمعك. من غباء سألك يومًا عن اسمك، هو الذي يعيش بين تأرجح الأسماء. وكنت أنت، وآخر، وجميع من لم يُخْلَق بعد، من يعز على التسمية، عالية، ملء الرحابة، الضوء كله حتى لا نهاية للشُّعاع، البرق وقد استقرَّ وشاحًا لسماء فوقنا مُظلِمة. الشمس ومنك تأخذ ما به تَقتات، اسم كيف يُسطِّره حِبْر أو قلم. الورق الأبيض لو خَطَّ عليه جُنَّ. ورق ذاهل، هارب في الشوارع، هل تخطفه جِن أم هي مُجرَّد كلمة؟ لكنهم سمعوه جميعًا يهذي. الراغبون فيها، المُكتَوُون بها، سعيرُها فيهم ولا من يطفئ الغُلَّة. ورق مُهتاج. تَغيَّرت سحنته. غاضَ ماؤه. تَورَّمت أجفانه، السُّهاد سُكناه ووقته كله. لازمتها تلزمه، نعطيك غيره، غيرها، لا، نعمر مضجعك بالغانيات، الفاتنات، ربَّات الحِجَال، لا ولا، الجِنَان الموعودة وما حملت، ألف لا. لا أحد سواها عِوضًا. ورق يطوق الدمع. يصخب كالمُتظاهر في زمن الصمت الصَّمُوت، والألفة المُبْرَمة بمواثيق الدم المغدور، أين رأيتم شيئًا من هذا؟ هنا. أين يوجد هنا؟ في هذا الهُنا الفارد جناحيه علينا، انظروا، من أعالي البحر إلى قيعان الفيافي حيث لا رُكن يَلُوذ به عري دمه. الناطق باسمه وحده يعرفه، المتأبِّط دمه أيضًا، أيضًا، إلى أن تسعفه جثته. لن يسعفه أحد منا، فاتَ أواننا، توافقنا من وقت بعيد على محو الأسماء، وشيَّعْنا نسياننا في اضمحلال الذاكرة. إلى أن ينتشر اسمه في كل الأوراق فتهرب الكلمات الميتة. عناوين العهارة. تواريخ المقايضة المُضَمَّخة بالخيانة. إلى أن ترسل السماء صيحة واحدة، فتنشق الأرض ونرانا نهوي كما زلنا عسانا نلتقط آخر الصدى، ربما حيث هو، ربما.
لو جئتني الآن لوجدت النهر في انتظارك. ما إن تهلين يخشع لرؤيتك. هو السين. أجل، إنما لك وحدك. سيهجر المدينة التي أنشأها الرَّبُّ مَجْدًا للعَراقَة والجَمال ولن تشفع بتاتًا لمُدن القبح والمَقابر المَيِّتة الأخرى. لك، اختاري وَحْدَك مِن أين لك أن تَمْخُري عُبابه. لن تَتِيهي عن منبعه، لا مجراه أو مَصَبه؛ فحيث تنظرين يكون. المدائن القديمة ستنهض من رفاتها، سيتحلَّل التراب قليلًا من إدمان الأبدية، العناصر الخمسة سَتتوَحَّد في صحوة كأنها كمال القصيدة، الأحلام التي تلاعبت بخيالات طفولاتنا. افتراض أسراب لا تتوقف عن الطيران، قبائل اقتتلت مدى الدهر ولا دية تعدل ثأرها المفقود أبدًا. النَّدى جمع هو مفردك يُمَسِّد وجنة البرعم، تماثيل هن ملائكة حدائق التويلري ارتعشت في أطرافهن أرواح الأزل، فطَفِقْن يمشطن سوالفهن انتشرت ضبابًا خفيفًا في هواء التروكاديرو، قريبًا منهن النهر تحت جسره يحسب ماؤه أنه يَعْبُر دونه هو الذي يجري فيك. فخفقن بأَجْنحَتِهن حولك سرب حمام أو يمام، وعُيونهن البلور تَقود خُطْوَتك الخطوة في انتظار الصور الفائتة قبلها كلها تنتظر إقبالك، إقدامك على ارتداء النهر، السين حنين، وباريس تنزع ثيابها قطعة، قطعة، تعرى. غيرى. وَلها تَولَّه حين غَدا في بُؤرة المُشاهَدة. قلتُ: هيام، فأوشك الكلام على الرفيف. أوشكنا معًا على احتساء الغيمة الماطرة قبل العبور نحو هذه الضفة المُحرِقة. لم يكن غيم هنا حين وصلنا. تراب كالح، ووجوه أكْلَح منه. تناسخ للعمر من صفرة الوقت. ازدراء هذا أم زمان مَقبرة لطمر رماد الأنام. علَّ الريح قليلًا تستريح من عُواء لها في حصاد الخواء.
رائِحَتانا، لو تَعْلَمِين، ما زَالَتا على الجدران مُعلَّقة. في شقتنا ﺑ «نويي سورسين». مُبْهَمة مثل نظرة الجوكندة، نافرة، جَمُوح ولا فتكة الجرنيكا. مَبْصُومة فوق المنضدة، وفرشاة الأسنان، ورنين الهاتف أو جرس الباب قبل أن يَكفَّ؛ إذ يَتدلَّه بسماع الصوت. ك. وعلى الستارة لو أزحتها تدفَّقَت ألوان حديقتنا التي تُحبِّين، غرسناها سويًّا، وهبنا للأغراس أسماء الشعراء، ولكل مشتل نعوت الحقب الأدبية، الفصول وحْدَها لم نَكن نُسمِّيها؛ لأنَّا كناها، وأجمل ما فينا، منا، الخريف بداهة. الربيع طبعًا يَغار من الأصص عند مدخل الدارة. أسلس من الهواء يحف بثوبك يصبح. ترتفع الأصص إليك وماء الإبريق يَنْدَلِق عليها سقياها من عينيك كي ترينها تراك. الشتاء في «نويي سورسين»، كما في باريس الضاجَّة، سبع سموات طباقًا من الرماد، حبال غليظة ممدودة من السماء تلف الأعناق. لكنه رماد مَفْرُوك وصائت. غبش ملح في الصباح لكن مضيء في الدواخل. قدح من نبيذ لشريحة في الظهيرة. وفي الليل يكفي كونسيرتو لدخول خدر الحبيبة، فما أجمله من رماد. وأعرفه رغم هذا الحسن يَغار من فحیح سیسمعه بعد قليل، متلصصًا من العتبة. جهنم الداخل، هنا، أبرد أسلم، من حريق تلك البلاد. رويدًا، رويدًا، تَسلَّلت النغمة من أقصى الردهة. هذه نغمتنا وحْدَنا من إهداء شوبان كل مساء قُدَّاسًا نُهْدِيه رُوحَيْنا لتَتشبثا بالأرض ما أمكن، طالما لا أشرطة أو حواجز تَمْنَع العبور إلى السماء. وهو أمر مختلف عند جارتنا الفتنامية سونغ، التي تعزف دائمًا شيئًا لِبَاخ تَرحُّمًا على ابنها الذي افترسته الإبادة الأمريكية. طبعًا، كان ذلك قبل أن يصبح البيت الأبيض هو الوكيل الشرعي لتحرير الشعوب من العبودية والدكتاتورية، وهلم جرًّا(!) — تقول، عَزْف آتٍ من العالم الآخَر، لو عرفناه. وفي الخارج للريح صَفِير بعد أن تعوي، وهي تُمهِّد، صوت مثل نَحِيب مُتَلاشٍ. وبوسعنا هذه الليلة، في كل ليالي الشتاء، أن نَجُوب دهاليز العالم السفلي، وأن نصقل لآلئ رؤانا بنظرات مُرتَبِكة منها إليَّ مِنِّي مثل يافعين يجترحان أول قبلة. هكذا ينزل الصمت.
اطْرُد كل مَن حولك يلغو وأنت تقرأ هذه الكتابة بصَمْت. القصيدة تبدأ من هَديل الصَّمْت، فإن لَغَت فلا شِعْر لها، وهذا أحدُ وُجوه الخلاف بيني وبين الصراصير. يقينًا أن للشِّعْر ربًّا يحميه، لكني بتُّ أخشى من طول المفسدة. وخروج أنياب الأَرَضة. أعط للكلام شساعة في صدرك، تَنَفَّسه كأنه رِيحُ الصَّبا، وهو كذلك، وليس له من الدَّبُور إلا انتهاء هذا الهالك فيه. وأفسح له في المجلس.
حبيبي تعالَ هنا، فهذا مجلسك. زَيَّنت الميدة المهاجرة إلى السين بصحينات ملؤها زيتون، وفُسْتُق، ولوز، وحَلَمات رُمَّان، ومذاقات صينية، فرَخَوِيَّات كانت مُحبَّبة للإمبراطور ألفريدو. وحملت مبخرة ضاعَ منها المِسْك والعَنْبَر. ولم يكن ينقص كاحلها، وهي تغدو وتروح، غير خلخال زهيرو، ثم إنها انْتَبذَت ركنًا ففَتحَت الكِتَاب المعلوم، مِن عجبٍ فَتحَتْه على صفحة بيضاء وهو المكتوب، وقالت: ابْرِ قَلمَك قبل أن أغلقه، وتعالَ اكتب كَلِمَتك الأبقى قبل أن يَعْبَث به العابثون، فوالله ما إن أوشكت على فعلي أو فعلت حتى فاضَت مهجتي أو مُهجَتُها وغادرت مكانها، رغم أني واصلت بعد ذلك رؤيتها وهي تغدو وتروح أمامي، تارةً، تارةً مُفْرَدةً، مُتجَرِّدةً، أخرى مُتماهيةً مع باريسنا لا فِكاك لنا منها ولا مِنِّي، وطَورًا طيفًا بكل ألوان الطيف واختلاجاته، له مُطلَق الحلول حضر أو غاب. له صفاء الصورة، رِقَّة الأثير، شطحة الرؤيا، جذبة المأخوذ عن نفسه، تقاسيم قلبي، انسياب السين، ها، بلادي، غُربتي، الشمس أبدًا، المطر، حتى يهلكني الطوفان.
والآن وقد طاف المنادي بالأحياء، يَستنفِرُهم قبل الأموات، مُعلِنًا، حولنا ما تَبقَّى أو ما هلَك من الأسماء، أعود إليك وما فارَقْتُك قطُّ، أستخرجك نُطْفة الدم الأولى التي وُلِدت بها ولا رآك أحد إذْ رحلتَ. وهمًا طويلًا، انتظرتك في مقهاك. يجلب لي النادل الفنجان تلو الفنجان فأرى صورتك فيه، وأُكُلِّمك، وتخاطبني بعِزَّة البلاد، وكرامة الناس، والسيف على الرقبة متى ينزاح. وتضرب لي موعدًا قريبًا فلا أَتزَحْزَح من مكاني. يعود إليَّ النادل، وقد طال مكوثي، هامسًا قُمْ أيها السيد، سنغلق الآن، وانتظارك له هنا بلا معنًى؛ لأني رأيتُ المشهد بعَينَيَّ هاتين، ومُحال أن يأتي، وهو على كل حالٍ ليس «غودو». فكَّرْت أن أُنَبِّهه أننا نحن المسلمين، أو بعضنا، تربَّيْنا ونعيش دائمًا في انتظار «المهدي»، لكني أحجمتُ، فلا هو سيفهم عني شيئًا ولا أنا سأصل إلى مُبتغاي، إن بقيتُ هنا. فقمتُ مُطوِّفًا طول السان جرمان، وعرض الأزِقَّة المتفرعة عنها. فعلتُ هذا في شبابي وما زلتُ والرأس مني يشتعل شيبًا. ما همني أن يلتحق الأغرار بشجرة الأنساب، ولا أن تموء القطط اشتهاءً للعفن. بدت الطريق التي أخذتها نحو نسب الغريب طويلة مبتداها في عروة الستينات، بظهر المهراز، في فاسنا تلك، ومدها بالدار البيضاء، في زمانها الغجري، فصعدًا نحو الشمال الذي أدفأ قلبي وأخرج حلمي من سُباته. هكذا بِتُّ أحلم به. صار شيخي ومولاي أنا المولى … وفي كل حظوة يغدق عليَّ مِن وَلَه البحث عنه، فأسلك إليه خرائط كل المدن — باريس قلبها — وكلما رأيت قبوًا أو قبرًا أو مطمورةً أو نفقًا أو مبانيَ مُحصَّنةً أو جنائن معلَّقةً أو خيلًا مُسْرجةً أو جموعًا محتقنةً أو موتًا محدقًا أو فرحًا محلِّقًا أو متاريس شاهقةً أو بنادق مُصوَّبةً أو جماجم مُعلَّقةً أو شوارع لأسماء ملفقة أو خيالات أرواح مُعتَّقة أو دمًا هو لي يهرب مني يبغي افتداءه … قلت هو.
سأظل أقول هو، الضمير الحاضر ما غاب قط سيظل أَناي، ومثلها أنا هِيَة، تلك الغاوية، هي ناري فما أحْلَاها الحامية. سأظل أقول هو أنا هو. هذه سيرتي ومذهبي إلى أن يكتب لي الحب اللحاق به، ولا شفيع لي في العيش بدونه غير قول شَيْخِي أبي الطيب المتنبي في مدحه: