استهلال الاسم الجريح
(١) الاسم والصفة
أَيُّهما أجْدَر بالواحد، بالثاني إن شِئْنَا، وألصقُ به، الاسم أم الصفة؟ ما من شكٍّ أن الموصوف يَتقدَّم على الصِّفَة في القاعدة المضطردة، لكِنَّنا نعلم أن الأدباء، والشعراء منهم خاصة، يَخْرِقُون ما طاب لهم من القواعد، وهو حظٌّ حسن وإلا لأصبح الأدب وصفةً مُعدَّة لكل عابر سبيل. هكذا يُعَد الانتهاك القاعدة الذهبية للإبداع، خاصَّة إذا امتلك تَحَدِّيات تماسكه وبهائه؛ ولذلك فهو نادر وفَتَّاك بنُدْرَته، وذاك الجمال، في الخليقة، في الطبيعة، وفي النفوس أيضًا.
على أن مبعث التساؤل عندي فيما سلف يتعدَّى مُحاولة حصر الجميل في دائرة الاستثناء ليقترب بل وليقترن بشرط وجود الشيء، والاسم هنا هو المطلوب بسببه أو بماهِيَّته التي تُحدِّده، وبدونهما يُمسِي لاغيًا أو مُجرَّد فضلة مبذولة في الطريق. ليس الأمر مختصًّا بأي تفلسف يطحن أو يقترن بالمجرَّدات، ولا هو رهن بتهويم تنفصل فيه اللغة عن مراكز جاذبيتها، عن الواقع، والجغرافيا والتاريخ، والذاكرة، والمخيال الجمعي، والخيال الفذ للمبدعين النَّادرِين. لا يحدث ذلك عمومًا إلا عند الذين تَعلَّموا اللغة من الكتب، وأصْبَحوا عبدةً للنصوص الكبرى، والصغرى بدورها. تَسكُنهم وتَتكلَّم فيهم وتعود لتتناسل مُجدَّدًا من أقلامهم بانفصال شبه تامٍّ عنهم، ودون أدنى تَدخُّل منهم.
هذا ما يجعل، مثلًا، القسم الأوفر ممَّا يسمى زعمًا بالحداثة الشِّعرية العربية منفصلًا عن زمانه، لغوًا أو استنساخًا أكثر منه كتابةً، علكًا لسجلات مُقتناة أو مُستعارة أبعد ما تكون عن نسغ وجودها وجَمْرَتها الأولى، وباختصار مفتقرة إلى بذرة الحياة، وبتعبير البلاغة العربية لا ماء فيها ولا رواء، شأن باقة من الورود الاصطناعية، بإمكاننا رؤيتها، تتصدر صالونات هذه البورجوازية التي لا صفة لها — فهي أكثر من هجينة — وفي الخارج الطبيعة خلَّابة، واللغة مثمرة من شفاه الصبايا.
حين تقترن الصفة بالاسم، وينضوي هو تحتها، لا نقول بأن اللغة عندئذٍ تدخل في علاقة الواصف بالموصوف والعكس صحيح، بل هي تُوجَد كما لو قلت للمرة الأولى، شأن الاسم كشفًا، أو ابتكارًا أو علامة على نبوءة، ما يجعل الإبداع مَرْكَبة جامحة لا يمكن لجيادها أن تُسْلِس قيادها أبدًا لأن مِن مكوِّنات الإبداع رفض سكون الاتصاف، وقَلْب العلاقات باستمرار باتجاه إثراء اللغة/الاسم، بالمحو بالإلغاء، بالنَّسْخ، بالافتضاض، بالإخصاب، بالإنجاب. ما يفتح الطريق للتداعيات ويَقْدَح زِناد توالُد الدلالات النَّاهِضِين على قاعدة تأسيس جديد ليس للكلام وحده بل للمعنى كمُرادف لصيغة الخلق وحمولته. والرُّؤْية المُجددة، المنفردة، هي ذي رسالة أخرى للمخلوقات الخالقة العابدة لإله الخيال، المُمعِنة في جحودها بحكم انتهاكها له في أول مناسَبة لها تِعنُّ. والحق أنها لا جاحدة ولا مُنكِرة، وما هي إلا مُجرِّبة وجودها بتجاوزه، مُمتَحِنة صلابة عُودِها بالارتماء في أول مَهوًى. فالهش والنافل والعرضي وما في حكمه ينبعي أن يزول، ونقيضه وما في معناه منذور للبقاء.
كلَّا، فلا أحد، لا شيء، يبقى، وهو ما لا علاقة له مطلقًا بأية إحالة أخروية أو نزعة عدَمية أو حس تدميري، ومثلها من البراديغمات والمراتب السننية في التاريخ المعلوم؛ لأن ما لا يبقى يستدعي في مسلسل زواله ما يفنيه؛ أي علامات ضموره وأشكال انحطاطه، يليه نتيجة كيمياء واقعية وسحرية وجود آخر تمنحه الصفة للموصوف. وينبثق هذا الأخير ممَّا اقترن به كالفُجَاءة، كالدلالة ليس لها غير دالٍّ واحد، وحيد، منطقي ومَجازي في آنٍ، وهذا بعض الإعجاز.
بَيْدَ أنه الإعجاز الذي يَخِر صريعَ ما هو أكثر إعجازًا منه، وتلك سِمَة أخرى للإبداع. وانظر إلى الاسم كيف هو اسم كامل، مُتَماهٍ مع ما فيه، مُشِعُّ في هالته، مُفحِم بذاته، ثم وهو جريح كأنه غَضٌّ لم يكتسب من الحياة أيَّة مناعة بعدُ لطراوة عُوده أو غرارة تجربته، أو لِمَكْر الزمن/التاريخ. حين سنَعِي ذات يوم نواميس هذه الكمياء، مُخْتَبرِين بدقة وأناةٍ محاليلها ربما أمكننا فَهْم تاريخنا الثقافي ومنه الأدبي، وربما وعينا لماذا تَتعطَّل عندنا الحداثة لتَتنطَّع شعاراتها، وتعمى الأبصار عن كلِّ حَدَاثة مُمكِنَة.
(٢) «المقهى الأزرق»
وأنت لو نظرت إلى المقهى لوجدتَ الكلمة ذاتها في كل مكان، بالمعنى الذي تُحِيل إليه وهو لا يَتغيَّر، لكن الكاتب المغربي، إدمون عمران المليح يضيف إليه صفة أو نعت «الأزرق» فتراه هنا أصبح اسمًا، دالًّا يحيل على مدلول شامل.
كان ذلك في الماضي؛ أي قبل رحيل صاحبه، وأيام كانت له عادات وطقوس. ورغم استمرار المكان ودوام تلك الطقوس، كأنَّ الزَّمن تَجمَّد هنا إلى الأبد، فإن ما رحل لا يتجدد، ولا شيء غير الحنين يحاول أن يناوشه أو يستعيده حتى وهو يبدو جزءًا من حاضره، مقيمًا ومُعمرًا لفضائه. كلَّا إن ذلك مستحيل، شديد القسوة، فإن تَوهُّم عمران المليح، وهو يقظ في وهمه، متوهم في يقظته، فكل ما سيصل إليه وربما يريده هو أن ينكأ الاسم الجريح، وما أكثرها الأسماء الجريحة. لقد أتلفت الكائن، وهي تتشبث بذاكرته، بمجامع روحه، لتتلف الكاتب وبذا تسمع الدقة الأخيرة للنهاية، كأني بإدمون يتمثل القول الشهير للمعرِّي وهو ينقل خطوات خفيفة الوطء، في المقبرة اليهودية لأصيلة حيث دُفِن آخِر يهودي، ومعه، طبعًا، وُورِيَت، ذاكرة جماعية بأكملها. لكن المليح هو الآخر يهودي مغربي، مغربي يهودي، وهو حي، هو لم يَمُت وما زال يعاني المقبرة ويحمل في جنباته كل الذكريات، وكتابته عن هذا العالم هي الذاكرة بعينها، حتى وهي مَشحُوذة على حد الزمن الآفل، والمرارة المجترحة، ومن دفق الحنين أنينها مسموع، فكيف يتفق ذلك؟!
بلى يتفق وأكثر، ذلك أن الحس المأساوي هو مِهماز التجربة الأدبية، بَلْه الوجودية للمليح. ثم إن إنعاش الذاكرة واستحضارها على صعيد الحنين المحمول بالاسم الجريح، والجرح المسمى (مقهى، مقبرة، ترحيل الشعب المهجر …)، هذا الإنعاش يَتوقَّف على تجميع أنقاض الحياة والعمر الشخصي والجماعي لتكوين تجربة اسمها الفقدان، فقدان كل شيء: الأرض، التاريخ، الثقافة، المجتمع، تفاصيل اليومي اللذيذة، الجوار المغربي بتضاريسه الباطنية. فكما في أعمال وكتابات أخرى (المجرى الثابت، إيلان أو لَيْل الحكي، ومداخلات وشهادات عديدة من أهمها في نظرنا الشهادة التي ترجمناها بعنوان «ضد النسيان») انظر («الاتحاد الاشتراكي» بتاريخ ١٨ / ٨ / ٩٨)، نجد الشيخ المليح يُوغِل السِّكِّين في الجرح؛ أي وضعية الاجتثاث التي لحقت باليهود المغاربة، فَاقْتُلِعوا من جذورهم بفعل مؤامرة كبرى تواطأ فيها الاستعمار الفرنسي، والأيديولوجية الصهيونية. الأول، الذي بتر لسانهم الأم، أي العربية المغربية والأمازيغية، ثم نفاهم في الثقافة الفرنسية بتغريبهم مُجدَّدًا عن الثقافة الوطنية والشعبية المغربية، ومن ثم سلخ عنهم روح المواطنة بإدماجهم القسري في سلك السُّخْرة والعمالة، بينما تدافع رسل الأيديولوجية الصهيونية وعملاؤها يحاصرونهم بالدعايات والأكاذيب والأوهام، ثم يشحنونهم بعد ذلك كالدواب مهربينهم تحت ضغط دعاوی زائفة إلى «أرض الميعاد».
يستحضر الشيخ المليح هذا الفقدان فيما يعيد تأسيس الذات اليهودية المغربية من داخل اجتثاثها، ومن حفريات أنقاضها، صُعُدًا إلى أركان بنائها، ليصل إلى جوهرة وجودها بين بزوغ وأفول، حضور وغياب، أي بين حَدَّي حركية الجاذبية والانقطاع الآيل إلى الزوال، والمتماهي في النهاية مع الذات الكاتبة. ذات تكتب نفسها، وهي تعيش وتَعِي تغربها في لغة ليست لغتها. لو شئنا تسميتها لقلنا إنها لغة النزع الأخير، بفيضها ولهفتها ثم نزوعها لقول كل شيء خارج الهندسات الاستطيقية المألوفة، لا يقول المليح، إن الفرنسية «منفاي» أو ما شاكل هذا من الهرطقات التي ألفنا سماعها، وخاصَّةً من لدن مَن استخدموا هذه اللغة بلا موهبة أو حس إبداعي بين إنه يكتب بها وكفى، مدركًا للأشواط التي انتزعته من غيرها ومن نفسه، أيضًا، وتراه بدل الانغماس في مرثيات بائسة بهذا الشأن يقوم بما يشبه التَّبنِّي لها، وذلك بنقلها إلى سِجلِّ كتابة مختلفة، وهكذا لم تكن قضية صاحبنا هي تملك هذه اللغة وإظهار عبقرية استثنائية فيها، بل طرح سجل لكتابة دَوالِّها الأليغورية، ومدلولاتها المحمومة والمتشظية مَقدوحة كلها بزناد فُقدانٍ ثابت، لا يبرح، لا يورث الفجيعة ليتوقف عندها، ولكن لِيتمَدَّد ويتناسل في سلسلة من الانشطارات الناجمة عن جرح ينز ولا يتوقف. لا بُدَّ أن تصبح الكتابة، والحالة هذه، مساحات ملغومة بالمناورات والاختبارات، لا اعتراف فيها لقوانين الدليل المعهودة، وقانونها الجديد ينهض على مبدأ نسخ ما سبقها ونقض ما تُؤسِّسه بنفسها. فلا تَستغرِبنَّ من صاحب «المقهى الأزرق» تسفيهه لمفهوم الجنس الأدبي أو انزلاقه بين المفاهيم المحتملة لكل تجنيس جديد، فالكاتب، حين يكون كذلك، وليس أي كاتب، أكبر من الرهانات الظرفية للأدب، وهو يطول قامته دومًا بتجاوزها والتطاول على كل شيء. له لغته المفردة بين جميع اللغات، وله بلاغته كعلامة مائزة لشعريته التي لا يمكن بأي حال أن تكون مشوشة أو بين بين. وله، بعد هذا وذاك، رؤيته ورؤياه، بها يكون أو لا يكون الشيخ المليح سيد هذه الخصال، ومبدع فيها بجدارة، وإن أردت معرفة بعض السر في هذه المكانة فاعلم أن مرجعها نهله المستمر من اسم جريح، وللجرح أشكال وألوان وتجليات لا تنتهي.
(٣) آخر الأسماء
… أو تنتهي قليلًا، قليلًا. مُنسحِبَة من ضجيج العالَم، ومَواقع الرَّكاكة والسَّفالة اليومية؛ لهذا أجدني مُتضامنًا بقوة مع قوة الانسحاب الإيجابية، والفورات الداخلية المُحتَقِنة بِغضَبها تنظر إلى ما حولها بازدراء شامخ: إني أراهم وأسمعهم لكن بصري وسمعي يرتَدَّان إلى الخلف، إلى أعماقي حيث أحباب قلبي وكلهم كبار، وسادة، ولا أحد فيهم وضيع. هؤلاء ماتوا أو يصمتون ناشرين حولهم ابتسامة جميلة منفردة بلغاتها وتأويلاتها. هم جميعًا ما طلبوا شيئًا من أحد، ومن لحمهم ودمهم صَنَعوا سلالم المجد للآخرين، يا لهذا المجد(!)
وإني لأسمع أصواتهم تستغيث، وهي في شغاف السماء، ألا اتركونا نستريح في سكينة موتنا، ولا تطوفوا بنا في البلاد، حتى لو كانت، إرم ذات العماد، وبيس من يعلقنا اليوم على صدره أو بيته شارةً، وقد كُنَّا عنده بالأمس عاهةً. ها، انظر إلى جرحنا فهو ما زال لزجًا في الأيدي، حارًّا على الألسنة، وفي شفاهنا أطيب من العنبر، اتركونا في موتنا، واذكرونا، رجاءً، فقط، بهذا العنبر.