استهلال دجلة
قلتُها، أعدتُها، وأنهكني القول، لم أسمع مَن يستجيب لقولي، من يَتشرَّبه، من يتفتح من مَسامِّه، منها ينبت بالسنابل، فنحن والله عِطَاش، ويَضُوع بعدها بالرياحين. شُغِفتُ بالماء منذ صباي، واستهللتُ به دائمًا بعد البسملة، وإلا فكيف تتم الطهارة بغير الماء؟! لم يكن هذا افتراضًا مني، ولا احتمالًا أدفع فيه واحدة من رغبات انعتاقي، ولا هو نزوع للتطهر من «أدران» متلاحقة؛ إذ لا معنى أن تعيش في حياة كهاته ولا تَتدَرَّن. الاحتمالات أسكنها في عُش من أعشاش الليل حيث تبيض بهدوء وسكينة، وفي النهار أطلقها كي تقارع الكوابيس والأنذال. وأظل أستجمع صوتي بين هذا وذاك، مبحوحًا أو مُحشرجًا، إنها حشرجة الحياة لا الموت المُقمط جثث العابرين، اللاهثين خلف ظلالهم المكسورة ابتغاء مرضاة الفضائح اليومية المُعلَنة. أستجمع جسدي المنشر أذرعًا متقاطعة بين القارَّات، المنتشر مكتومًا في القناني المُغلَقة بين بحار الدنيا وأنهار البلدان، ألاطم بين الموج والانسياب، دافعًا بمجاديف فتنتي المُطلَقة النهر ليستحم في البحر، وهذا لِتتلألأ زُرقتُه تحت الأهداب المكحولة لحُبَيباتي — هن سَمَّيْنني، غسلنني، نفينني، غربنني. وحين استويت على سُدَّة الوجد صَرَعْنني، «وهُنَّ أضعفُ خلق الله إنسانًا». لكنهن ما لبثن أن عُدن ليمددنني بإكسير الاستهلال، وقد هَلَّلن على أطياف ورد، فطَوَين النهر، تلو النهر تَسارَرن به، وفي غفلة من جسدي خَفقَت منهن الصدور واهْتزَّت الأرداف، فما ملكتُ إلا أن بايعتُهن أميراتٍ عليَّ، وربَّعتُهن في المقام الذي لم يوصف بعدُ، واللغات، البلاغات، حَيْرى راعشة، خاشعة أمام مقامه، وإني، مذ ذاك، والله عالم بعطشي، سادِر في غواية الماء الذي ما انفك يراودني عن مائي ويُطوِّح بي بين الضفاف.
بدأ ذلك في عام بات بعيدًا، في العقد السبعيني الأبعد. حين كان للوقت بُعْد طَيِّب ولون وهدير. لم أكن أعرف من الماء غير بحر لمدينة سُمِّيت قديمًا بالدار البيضاء، وبحر آخر في شمال البلاد قُرْب تطوان، سبحتُ فيه مِرارًا على مرأى من المجاطي الحذر، وهو منشغل بدوزنة التفعيلة. ثم بحر آخر في شمال الآخر، حيث رأيت للمرة الأولى نساء منحوتات من العاج والمَرْمَر فذهب بي خيالي أنهن خارجات من الجنة إلى أن ابْتُلِيت لِأُوقِن أنهنَّ من هذه الدنيا الفانية.
وفي الطفولة الأبعد جدًّا كانت العائلة تكدس في سيارة الستروين الكحلة، وينقلنا السائق عَبْر الطريق الزراعي من برشيد إلى أزمور لزيارة مولاي بوشعيب، ومن الضفة تحت السور نركب القوارب للعبور نحو عائشة البحرية؛ أي قرب المكان الذي يذهب فيه النهر لِيَستَحِم في البحر. كنتُ أَعبُر ولا أعرف بعدُ كيف أنظر، كيف أبصر، لا أدرك ما الماء، ما زرقة البحر والسماء، من أين يبدأ هذا، إلى أين ينتهي ذاك، فما الأصل والفرع منهما؟ نهر أم الربيع تحتي، حولي، وعلى امتداد ناظري يتوضأ ليصلي للمرة الألف وكأني لا أراه. بعد وقت فطنتُ إلى أن برشيد، من دون رحمة الله، كانت خِلوًا من أي ماء. وحده النصراني السيد دويس وجدت عند مدخل مزرعته بركة كنا نحن، الأطفال المشاغبين، نجرؤ على السباحة، أو بالأحرى الخبط في مائها الموحل، قبل أن يَتهدَّدنا الحراس والخماسون بمداريهم مسبوقين بنباح كلاب مُفترِسة حقًّا. فَطنتُ بعد ذلك إلى أن الشاوية كلها وفي شرقها لمداكرة وامزاب، وجنوبها أولاد سعيد، وفي قلبها برشيد. طبعًا. ليس فيها وادٍ ولا نهر واحد، وفكَّرْت أن الحروشية أو ذلك النوع من البداوة المتأصلة التي تطبع سكان هذه المناطق ربما تعود إلى هذا الغياب. وما هَمَّتْني صحة هذا التأويل بقدر ما قضيتُ زمنًا مشدودًا إلى عيطة شعبية تَتردَّد فيها هذه العبارة: «را من الواد الهیه، كاع راشق ليه.»
أما ما كان من علاقة أولاد حريز بما يُسمَّى ﺑ «الرشوق» فلا يختلف فيها اثنان، فيما بَقِيتُ أبحث عن الوادي وأرسم له في خيالي ألف شَكْل وموقع إلى أن هداني من الأصحاب عبد الرحيم لمزابي، المعروف باسم «ولد العلوة»، والذي يُعْتَبر مقطوعة «الغابة وامَّاليها» من إبداعات الموسيقى العالمية؛ إلى أن هداني إلى سواء السبيل قائلًا: «إنك في وادٍ، والقوم في وادٍ آخَر، والرجوع الله أولد الفقيه!» فكان له ما أراد لأني، تدريجيًّا، رجعت إلى ما ينبغي لي، بعد نزولي طويلًا بوادٍ غير ذي زرع، وانتقالي إلى ذلك «الهيه» حيث الكل «راشق ليه»، لكنه رشوق من نوع آخَر.
قلت إن ذاك بدأ منذ العقد السبعيني الأبعد، حين كان للوقت طعم الحب والنَّخْوة والعرب، رغم انكسار الأرواح على أرصفة البطش والهزيمة. حَللتُ ببغداد ليلًا فرأيتُ الفَرْقَد أو الفرقدين. عجبًا كيف يَتَّفِق هذا وأنا في بلاد ما بين النهرين، أهي الكرة الأرضية انقلبَتْ رأسًا على عَقِب أم تراني المُنقَلِب؟ لا هذا ولا ذاك، فقد رأيتُهما، وحفَّا بي في سيري، واحد عن يميني والثاني عن شمالي، وارتَجَّ بصري مِن تنقله بينهما، ووالله منذها ما زلت أهتدي بهما إلى طَوْر هذا العمى والظلام المنتشر حولنا.
فلو سألتني كيف؟ أجبتُك أن نهرًا اسمه دجلة عَلِم بخبر عطشي وتَكهَّن بوصولي، وكان قد توضأ واستخار، فحمل مَجراه كله من جنوب وشمال وغَمر الأرض كلها لكيلا أمشي إلا فوق مائه، وما قصده الطوفان ولكن إغراقي بِحُبِّه. وقد غواني واستهواني حتى بِتُّ إذا شطَّ المَزار، واشتدَّت الصَّبَابة، لا أكرع إلا من هواه، وبَعْدَها صار لي الفَرْقَد أهتدي به في المدى الأجدب. وعن شماله وردة الطيف رأيتُ سوالفها تسرح بحي الوزيرية، فتَثنَّت وانْحنَت تحتي جدولًا، ولامَسَتْني كصوت الخرير. فهل كنت، كان يريد احتساء دجلة أم عبور النهر أم امتشاق النظرة، أم هي الأزِقَّة السُّفلية لهذه المدينة تلوب في أضلعه، وتخيط بين أرصفتها، وصخبها الجنوني، وبين مَسامِّه، سلالم للعبور، نحو ماذا؟ هو لا يعلم، فهذه المدينة الشهوانية، الغَجَرية، الدموية، العباسية، الممتدة مثل غابات خرافية، وأحلام بلا نهاية، بعُنْفِها الوردي، وأشجانِها الهادرة، منفلتة دائمًا حتى لو حَسِبْتَها مضمومةً في جُمْع يدك تَمتلكُها، فما هي إلا هُنَيهةً لتنتشر رعودًا وتدور في الأجواء. ثم عادت فأشاحت النهر عن وجهها وتَرنَّحت بين نهريها «وحِرتُ عند مُشاهدة جمالها، وشغلني حُسنها عن السلام عليها وسؤالها، فوقفتُ ذاهلًا، وقد أصبح سحبان بياني باقلًا، فابتدرتني بالتسليم، وابتسمَت عن مثل الدُّر النظيم، وقالت: كيف وجدتَ نفسَك بَعْدَنا؟ وهل شكوتَ بعدنا أم هل عندك شيء ممَّا عندنا؟ وهلا أحسنتَ تلقينا؟ وكيف دُهِشتَ حين قدمنا؟ وهل عدمت الجلَد كما عدمنا؟ وهل غلبك الهوى فلم يجسر لسانك؟ أم هل استولى عليك الوَجْد فسلب بيانك؟ فخبرني عن ضميرك واشرح لي كُنْه أمورك».
وكان قد مضى عقد آخَر، تَلَتْه عقد وغصص، وتَغَضَّنَت الروح وطَفَت على جسدي وجسد الأمة القُروح، فلم أَعُد أعرف كيف أخبر ولا بماذا، ولا عن أي ضمير، وأي كُنْه وقد أصبح كل شيء جرحًا مفتوحًا وفضائح في وضَح النهار.
وهبْ أني فعلتُ فمَن يسمع قَولي؟ وما مقامي بهذه الأرض إلا كمقام عيسى بين اليهود، فإن أزحتُ ستارة الغبار، وستارة الحسرة، وستارة الغشاوة، فلن يَتكشَّف لي المدى سوى عن النهر الدامي وقد غاص في لُجَّته الفَرقَدان. كيف لي أن أنطق بغداد بأسمائها وأنا واحدها، أو أُكَفْكِف الدمع عن عَينَي دجلة وأنا مدرارها؟ الغضب اكتمل، والحقد تَجمَّر، وصوتي سعير ولا مَنفَذ. في بلاد العربان كلها لم أَجِد له منفذًا، ولا استطعتُ أن أعثر لجميلتي على مَلاذ يأويها ريثما … أوه، ريثما تَتكسَّر أجنحة الغربان، ويلمع في الأفق شهاب. أوه، أدرك أني أهذي وحدي، و«أُغَرِّد» خارج أسراب الشَّحَّاذين، والقَوَّادين، وسماسرة الكلام والنَّخْوة البائسة. أُدرِك أني سأظل وحدي لا أقتات من اليَباب، وأن الوفاء للماء مُهْلِكي حتمًا، ولذلك علقت مثل التميمة بين الضفتين، وأعرف أن أكثرهم يَحْثُو التراب ويَلْعَق الأحذية ليبقى أو يكون في وَهْم البقاء. ليس عند العرب، إذن، بِحار ولا أنهار. هي مُستنقَعات وجداول آسنة من عارٍ. تَنكَّرُوا للماء فنَسِيَهم، ولذلك تَنكَّر لي السين حين أشرفتُ عليه قبل أيام. كان كعادته يُواصِل جريانه، فتَلعثَمت بين أشلائي وقد ترامت، وطلبتُ البوح فعَيِى لساني، ومن قرارة فمي المختوم داهمني: «فإن أنكرتُ أمرًا فَسَل قلبك فهو عارف، أو استقللتَ دمعًا، فشاهده دمعك الذارف وقد عرفت حالك أيام البعاد فلا حاجة إلى التعداد».
أبو بادية، أقصد أخي الشاعر حميد سعيد، لم يكن في حاجة إلى أي تعداد، كان هنا عندنا، بيننا، قبل قليل، أبو بادية لا ترحل سريعًا، لا تَخشَ على الفُرات فهو في دمك. وصلَ وجلس ولم يَنبِس ببِنْت شَفَة ثم نشر ابتسامته مُزْنَةً ما أحوجنا إليها في هذا الجفاف. طيب، خبرني: وبادية شلونها؟
– زينة والحمد لله.
– وابنك مصعب؟
– ممتاز، صار أستاذ بطب الأسنان، تَصوَّر!
– وحفيدك إبراهيم؟
– هذا خرافي، في الرابعة ويُميِّز بين عَزْف موزار وصوت القبانجي!
– وأنت اشلونك؟
– صَمت، صمت. ثم، كلش زين والحمد لله.
– أقصد البيت، الأهل، كيف تُدبِّر أمورك في زمن الحصار، وأنت لا تستطيع أن ترد الأفواج التي تطرق دائمًا بيتك؟
– تعرف، إذا كان على هذه الناحية، بسيطة. تعرف، نحن نغمس خبزنا في الألوان والأشكال والصور. أنت تعرف بيتنا زين، تذكر هاي اللَّوحة اللي على يمين الصالون، بِعتُها وعِشْنَا بها شهرين، وبِعتُ الثانية والثالثة، وأم مصعب تزعل. وقلبي أيضًا، لكن شنسوي، هاي هي، ومستورة والحمد لله. ولم يكن أبو بادية يُكابِر. ما عرفْتُه مُكابرًا أبدًا، هو هو. ما أغواه الجاهُ ولا المال وقد فاضَا أنهارًا حوله، ففاض على الناس بدلًا من نفسه وشعره، هو الذي يمتلك أسلحة الحب الشامل.
بعد دقائق أو بعد ساعات، لا أذكر، انتبهتُ أني لا أُحدِّث إلا نفسي، وأواصل بالحق والحجة هذياني، وأن حميدًا طيف هنا وعربي كان مُتعجِّلًا من أمره يخاف أن يفوته سماع الأذان في بغداد وليس إلا بغداد، ورأيتُني بعدها أَصُب في قَدَحي شيئًا من دجلة ثم أَتَّجِه حيث مرجانة لأنتصب مكانها أو لعلها هي من أتَتْ وصَبَّت لي في القدح بدَل الجِرَار المثقوبة … «فحين بلغتُ إلى هذا المقام … رَعَدتْ راعدة … فانتبهتُ ولا مَحبوبة ولا مُدام، ولا أس ولا خِزام، فعجبت من قوة الخيال، واستمرار هذا المحال».