آخر استهلال وَرَدَ على البال

(١) سبب الوصل

لم يكن ذلك مني لهوًا، ولا تَزْجِيةً لوقت وكلام. كان الصيف قد انتهى، أو بَدا أنه قد تراجَع في بلد آخَر، من حيث أتيتُ في الشمال، والغابة ذاهبة إلى البحر أو عائدة منه، وأنا أيضًا لا أتعب من لعبة الذهاب والإياب، بل هي الورطة نفسها. هنا كنت أمشي فوق خشخشة الخريف أقصد استهلاله وقد حن الشجر إلى ألوان مشاعره المكتومة فأسرعت الخطو لأتخلص من عُصاب الذكرى.

ها أنتَ ذا ستسقط مرة أخرى صريع ماضيك، والحاضر المغشوش يفتح فاه ببلاهةٍ ومَكْر. أسرعتُ عساني أجد خريفًا آخَر في انتظاري فأخبرتُ بأن الفصول هنا تُطِيل مقامها ولا تُغَيِّر جِلْدها إلا بصُدْفة أو قرار مُبَيَّت. أخبرتُ أيضًا بأن الشمس عازمة على أن يَمتدَّ ضَوؤها أطول وقت ممكن في مساحات السماء الزرقاء، وهي التي عاشت عقودًا مَديدة تَتعرَّض لغزوات قادمة من كواكب مُظلمة. لم أكنْ مُتحمِّسًا كثيرًا لشمس تَطول فوق رأسي، فرغبة التبديل كانت وما تزال تَحكُّ جلدي، وهي الرَّغبة ذاتها التي تَعتَريني وأنا على أهبة الكتابة: كمَن سيبدأ من البداية وهو الذي اجتاز البدايات كلها، سَهْلَها وَوعْرَها. كَمَن أوكل إليه إعادة ترتيب بيت الأبجدية وقد عَبَث فيها العابثون، وتَطاوَل في جَنباته المفسدون، ومن شأنه الهسيس صار اليوم يبغي الصهيل، ويعلم الله أن الحناجر ليست سواسيةً حتى لو كبرَت الأشداق وانتفَخَت الأوداج، ووُضِع عمرًو مَقام زيدٍ، فيا لَبؤس الأبجدية بين البداية! وها نحن أمام فرجة النهاية، ألا بئسها!

فات الصيف والخريف معًا، والشمس حيث هي لا تتزحزح ونحن ضجرنا من هذا الثبات، من هذه الرءوس واللحوم المتراكمة كالكُثْبان، من زمن يُشبِه بعضه ولا يشبه ما نحلم به، أحلامنا تَبدَّدتْ، وها عادت تشبه أحلامها. سنُزَحزِح الكتابة إذن، لابوهم تغيير العالم من حولنا. أوه، هذا أفق حالِم آخر، ومضيعة وقت. ولكن من أجل تَوهُّم أقرب إلى القبول والإدراك. من أجل التَّوهُّم في أننا حين لا نكتب الشيء ذاته، وننسج أفكارنا ومشاعرنا بطريقة مغايرة تتغاير؛ كلما أقدمنا على هذا الفعل «الوقح» فإننا حينئذٍ نَنتصر على العدم، أعني التشابه المُقرِف للزمن والوجوه والمعاني والهياكل والحكايات والأكاذيب وأنواع الاحتيال، وأساليب التآمر، ولغات المَكْر والمُخاتَلة، وترقيع الأباطيل بأطقم وسبحات ناصعة مُعدَّة لكل مناسبة. هنا تتدخل الكتابة، وهذا مكان مناسب لتدخُّل اللغة، لا أقول في معركة وإنما في مناوشات لا ينبغي بأي حالٍ أن تكون محسوبة العواقب. المعارك الآن صارت من اختصاص الدجاج والدواجن بصفة عامة. ماذا تعني يا هذا بالدواجن؟ لكلٍّ أن يختار المثال والموقف الذي يناسبه وعندئذٍ سيظهر الجواب يسيرًا، وسيصبح الانحياز إلى هذا الموقع أو ذاك مفهومًا. هنا يمكن للكتابة، أيضًا، أن تلعب لعبتها بصَمْت مريب، ومَكْر مُتستِّر، وصبر كالحديد لا يلين أو تدخل في فصيلة الدواجن، وهو مُحال عندي على الأقل.

من هنا جاءت فكرة الاستهلال، في أحد جوانبها على الأقل، سأترك للقراء وللذين يقدرون ويهابون فداحة احتمالات القراءة الْتِمَاس الجوانب الأخرى. لو بُحْت بها كاملة لخُنْت ما كَتَبْت كله، لَعَرَّيْته وهو منسوج بصيغة الستر، لفَضَحْته بينما يرتاح أن يمشي في مسالك الخفاء ترافقه رعشاته، بل ولأَضعتُ سبيلي إليه؛ لأننا لا نلتقي إلا في انقطاع سبيل الاتصال، وسبب الوصل، والمراد الوحيد بيننا هو في بقاء تواصلنا مرموزًا في معلومه، ومهموسًا حين يضج القوم، ويلغطون. ها إني أسمع صراخهم ونقيقهم. يظن بعض الناس أن مَعارك حقيقية قد نشبت فيسترقون النظر بِحَذَر من خصاص النوافذ، فتراهم يتراجعون لا خوفًا ولكن من دهشة: هكذا إذن، إنها معركة الدواجن. لا ضرورة لكتابة كاملة، لنصف كتابة ولا حتى لأقلها. لتكن الكتابة استهلالًا فقط، وعليها أن تدحض ما قبلها ولتشي بما بعدها، عليها أن تتشبث باللحظة التي ترمي فيها قذيفة دون أن تراقب مسارها، فهي انفجار متداوم سَلفًا، وكل حاجة لاختبار هذه البديهة يُعرِّضها لتشكيك يضرب هويتها فلا تبقى، لم تكن بتاتًا، ومن هنا أيضًا أصالة الاستهلال، ولنا موعد مع إغراءاته الخَفِيَّة في عامٍ آخر.

(٢) صحفيون وآخرون

في عام بات بعيدًا؛ أي في مطلع المسيرة الخضراء (١٩٧٦م)، وكانت الأمهات بعدُ حبالى بمن سيصبحون جيل المسيرة، وبين عشية وضحاها سيحسبون كل صيحة عليهم. من الرباط انطلقَت القافلة الأولى المُكوَّنة من السياسيين والخبراء والصحفيين إلى مراكش، القاعدة الأولى للانطلاقة. وصل وقتها عدد كبير من الصحفيين العرب والأجانب إلى المغرب، وانضم إليهم المغاربة الذين لم يكونوا بالكثرة العارمة لهذه الأيام، ولا بهذه الوجوه القابلة لتبديل ملامحها في كل حين. المهم أننا وصلنا جميعًا إلى مراكش، حيث نقضي أو ينبغي أن نقضي مُعْظَم الوقت نتسقط ونَتحَسَّس الأخبار والتكهنات في مواقع حساسة بها، ونعود مساءً إلى القرية السياحية للمكتب الوطني للكهرباء لنَتبَلَّغ ببعض القوت ونَبيت الليل. بعد مرور كل تلك السنين ما زلتُ أتذكر كيف كان الصحفيون الأجانب يعودون إلى القرية مُسرِعِين فيقصدون غُرَفَهم لينكبوا على صياغة أخبارهم أو تحریر مقالاتهم عن التَّوقُّعات المحتملة، يفعلون ذلك كلما تأتَّى لهم، لا يلهيهم جوع ولا عطش، ولا نُعاس، إن غلب، فإن بقيت لهم فضلة من وقت نزَلُوا إلى المطعم ليجدوه قاعًا صفصفًا، ولو بعد ساعة واحدة من نشر خُوانه.

كنت أراهم من نافذة غرفتي أو أنا غير بعيد عنهم يعودون خائبين وهم لا يفهمون كيف تختفي مئات الطيور من دجاج وفراخ ولحوم ضأن وعجول في ساعة واحدة، وليس في المكان غير الصحفيين، غير هؤلاء الصحفيين العرب القادمين من كل حدب وصوب، وكنتُ أسمع الأمريكي بيتر يُردِّد بسخرية: «لا شك أن المقالات السمينة التي سيكتبون سيُسْمَع لها شَخِير حتى تلك العواصم!» كان منظرًا مضحكا حقًّا أن ترى يدًا تمسك بصحن تتسلطن فوقه دجاجة كاملة، واليد الأخرى تمسك صحنًا آخَر مُغطًّى بالخضار والفواكه والأجبان، وبينهما الصحفي العربي يرقص أو يترنح كأنه يحاول السيطرة على توازن المسيرة التي كانت في مرحلتها السياسية وخطوتها الأولى. وفي مؤتمرات وندوات وملتقيات وانتخابات عربية في مختلف العواصم المشرقية والمغربية، ما عدتَ تُصادف تقريبًا سوى هذا الخلط العربي الهجين من كُتَّاب وشعراء مزعومين، مُتْخَمِين حتى الرقبة، وفيهم مَن يحاول التعرف على أُنثى الذُّباب مِن ذَكَرها، وهم يَشقُّون ببطونهم مسيرة من نوع جديد تُغْني عن كل ما عرفته الأمة من قبل من أمجاد وفتوحات.

وبالأمس القريب كنت في سفر في وفد عظيم، ولمهمة جليلة حقًّا. والأرجح أني لا سافرت ولا اختلطت بأي وَفْد، فهذا ممَّا بات يشق عليَّ ولا أتحمل عواقبه، دليلي أن الوفد اشتمل أو اختلط به رهط من الصحفيين، وما أنا إلا كاتب قد قدرت عليه هذه الكتابة التي ليس من ورائها طائل. وقد رأيتُهم والأرجح أني تخيلتهم وقد وصلوا إلى محجهم انصرَفُوا كما ينبغي لهم إلى مَهامِّهم يُتابِعون المهمة في تفاصيلها الدقيقة، ويعالجون ما يرون ويسمعون بأوراق مُتمَكِّنة، مهمتهم التعرف على البلد الجديد، وقادته وسياسته، وعلاقاته ببلدهم، لا يشغلهم عن ذلك شاغل من تُخْمة في الطعام، أو الشراب، أو لهو وعبث أو تَبضُّع، أو أي رغبة عارضة من قَبيل التَّعرُّف على نوعية «اللحم» البلدي إلخ … ثم عدتُ فرأيتهم وتخيلتهم على شاكلة أخرى، أي إنهم وهم في الوفد العظيم، ومن أجل المهمة الجليلة كان سفرهم، لا اتصلوا بهذه المهمة ولا عالَجوها بأي صورة، وكان شغلهم الشاغل حقًّا على خلاف ما يمكن لأي امرئ طبيعي أن يرى في الحالات الطبيعية من تدبير الله لخلقه. والحقيقة أنهم بَلَغوا حظًّا من الشيطنة لا بأس به إذ اختاروا واحدًا منهم ليكون عينًا على ما يجري فيسرد عليهم في حلبات الطعام والشراب الطويلة أهم ما التقطته عينه الفاحصة، وبلغ إلى سمعه «المرخى»، ومقابل هذا المجهود تزويده بكمية من المشتريات وحصة من البضائع كيفما كان نوعها وثمنها، والتي تُعَد في الواقع الدُّرَّة المكنونة للسفرة الميمونة، وبذلك تحصل الفائدة للجميع، وتتحقق أهداف التعاون والتبادل بين بني البشر بأيسر السبل. وقد تَخيَّلت بعد ذلك أفرادًا عديدين من وفد حملة العلم والقلم قد ضاعوا في المتاجر، والمخازن، وبين السلع والبضائع. ومنهم من كان غليظ القلب فصار بقدرة قادر ناعم الملمس كالحرير، بل ويهذي بالحرير الحريري، والحق لا أعرف أي الصُّورَتين أُرَجِّح. ما رأيتُ أو ما تَخيَّلتُ. ما كان أو ما قَدَّرتُ، وعلى كل فهذه إحدى خواتم وفَواجِع هذا الاستهلال الذي لم يخطر على بالٍ.

(٣) سحبان الصيني

وآخر استهلال ورَد على البال ما أوحى لنا به هذا الولد القَوَّال الذي تَعرَّفْنا عليه في الشرق الأقصى، أي في زيارة قُدِّرَت لنا إلى بلاد الصين، ورأينا فيها عجائب وغرائب نأمل سردها في يوم قريب إن شاء الله، والغاية العاجلة إطلاعكم على سعادة غامرة مشوبة بدهشة ما عرفنا كيف نخفيها ونحن نَتلقَّف كلام الفتى الصيني، وهو يتوسط بيننا وبين كبار المسئولين والعلماء، والباحثين ومحافِظي المتاحف، وبين دنياه كلها، فينقل إلينا قولهم وعلمهم ومنطقهم وتحليلهم ودبلوماسيتهم ورموزهم، ينقلها إلينا نقلًا وفِيًّا، مُعلنًا ومُضمرًا، مُعينًا ومَجازًا، كما ترد عبارتهم وحيث يُحَلِّق مَجازهم أو تطفو دعابتهم فنرد منه ومعه الورد الخصب، ومِن فيه الرُّواء الصافي بعربية لا أنقى، ولا أعذب ولا أبلغ ولا أحكم، حتى تقول إنه أفصح من سحبان وائل والعربان الذي يستمعون إلى وساطته هم الأَعْيَى من باقِل. وقد كانوا كذلك حقًّا وأتعس؛ لأن فيهم مَن لم يكن يَتذوَّق جمال هذه الوساطة، وفيهم مَن يُعلِّق عليها بلغة أخرى غير لغته لم يعرف منها سوى فضلاتها. أظن أن الفتى الصيني الأصيل حضر لِيُترجِم إلينا مِن لغته التي لا يَتكلَّم أبناء بلده الأصلاء غيرها إلى لغتنا نحن أو ما افترض أنه لغتنا، أو لأنه افترض أننا أُصلاء، واحترامًا لنا لتاريخنا لأمتنا، واحترامًا للسيادة أيضًا … لهذا كله جاء ليحدثنا بالعربية، نحن الذين كنا قد انقرضنا وأضعنا الوجه واللسان، وهذا ما كان يجهله شوان أو ربما يعرفه جيدًا، ولذلك ظلَّ يستمتع وهو يقهرنا بعربيته الفصيحة الرشيقة، فما أنبَلَه! وما أتْفَهَنا!

١٣ ديسمبر ١٩٩٨م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥