سُرَّ مَن رأى هذا الخريف … خريفي
خريفي تأجَّل، خريفي تأخر من أجلي
ليس تخمينًا، فهذا احتفال يعتريني ليهيج في حواسي. لا، بل حواسي وحدها تهيج من فرط الرُّؤية، من فرط اللون، من فرط ورق الشجر، الذاهل خارج أي نظام.
كان وقته قد تَقدَّم، وتباعد قليلًا، فنحن اعتدنا أن نلتقي، أو على الأقل أن نَتهامس بين طرفَي مسافة البعد الممتدة بيننا. نعرف سلفًا أننا نمشي ونبسط اليد، الواحد للآخر، مُتصافِحين في البدء بلياقة، فما نلبث أن نختلس بالتبادل نظرات مهتبلة، كنا قد ترامَقْنا أو تَصادَيْنا لبعضنا إثر تراجُع الصيف الكاسح، وتَملْمُل الظل الوارف نحونا. هذا وحده لا يكفي، هَمْهمَت ظلال راقدة في انتظار لقائنا.
شيئًا فشيئًا، وقته، مثل حَنين مُباغِت، وصل، غير أن الصيف الذي تَقطَّعت به السُّبل لم يكن قد غادرني في ميقاته المعهود. استطاب الإقامة عندي، مُتنقِّلًا بين ثلاث سموات، لا تسلم أي واحدة منها إلى الأخرى إلا بقدر ما أسلم لها جسدي بالتناوب: أولى، تُحلِّق أو تتمطط، مثل قطة كَسْلَى، في بلدة اسمها «أصيلا» فُطِمَت على الأزرق، فأمسى كلُّ داخلٍ إليها أو خارج منها يَتلفَّع بالأزرق، ولا يعرف كيف عنها قد رحل أو سيرحل؛ ثانية، تهبط تصعد من أعماقي فأنظر إليها وهي تنزل وتعلو مني طوال سنين من ازدهار العمر خلت، وهي هنا لا تبرح، تطل مُشرَئِبَّة فوق لهفة الصباح وقدح المساء، فتظل تنوء على كاهل باريس بثقل الغيوم، بحرها تخوض فيه السفائن، ألحاظها أم هي أنهرها حيث سبَحت ومن ياقوتها طعمت، ما مضى من العمر وما أتى سيأتي تحت تلك الثالثة، لها اسم نهر، سماء دجلة رَبَّتَت على دهري أناملُ مائها السوالف مَمْشُوطة، رغم لهيب الحرب نفسًا ترسل إلينا من أشواقنا ومن أجلها «جبت هَجيرًا يترك الماء صاديًا».
هذه ثلاث سموات، ولن يتطابق عندي الكلام، سِيَّان الذي فات أو فِي قدوم: هكذا الفصل لن يمضي إلا في لغة أقولها، وهو يأتي دومًا كلما أعلنتُ سأقولها.
قبل أن يدركني شُرودي في هواها سمعتُ الطَّرْق على باب القلب، وعند الطَّرْقة الثالثة سكن الحر قليلًا، فأخَذَتْني الأرض إلى أعطافها وهي تدعوني إلى الوليمة القادمة.
كنتُ شبعانَ رَيَّان إلا من وجهه، من اغتراف شوقي إليه في أهدابه، من كل ما بي وفيه، فحملت خطوي لرحابه ووقفت ها هنا مثل قامتي الفارعة اعتليتها أستشرف قدومه أو مجيئها على وشك انصرام صيفنا … الذي طال، ومنذئذٍ تمادينا في الرحيل.
خريفي تأجل، خريفي تأخر من أَجْلي
خمسة عشر عامًا مُتتالية قضيتُها هنا؛ أي تارة في الضفة اليسرى لنهر السين، وهو يخترق باريس من الرأس إلى الأخمص، بعد أن يلتوي بها وتلتوي به خصرًا يَتَغنَّجان، وتارة أخرى في الضفة اليمنى، عندما أسميه شفاه السين، وهي تبوح لسنديان وشجر غابة بولونيا الكثيف بحبها، وأنا شاهد على البوح كل صباح.
سمعتُهما يَتباوَحان بما حسبته يعنيني أو هكذا خمنت:
– هو ذا صاحبنا غادَر بيته في شارع فيكتور هوغو، وإني لألمحه وهو يُحرِّك خطوته في الهرولة الأولى.
– لا شك أنه قادم باتجاه الغابة؛ أي نحونا، أليس كذلك؟
– تلك عادته كلَّ صباح مذ قطن في نويى سورسين، ولا أرى لماذا سيُغَيِّرها اليوم.
– لكن اليوم ليس زمنًا عاديًّا، سنَراه يهرول ويعود ليتوقف ثم يستأنف الهرولة، وهو يملأ خياشيمه بالهواء الجديد.
– تقصد بهواء الفصل الجديد.
– مُؤكَّد، لكن الخريف عنده نظر، أراه فيه يفتح عينيه على وسعهما.
– أجل وهو يسلو جريان الماء، ويَهْوَى التطلع إلى الأشجار، إليك أنت بالذات.
– هو لا يراني، هو يبحث عنِّي وحين يجدني يكتشفني، ثم نراه نحن كالذاهل.
– ذاك طبعه مع أوراق الشجر، أقصد ورق الخريف، في نهايات سبتمبر وصعدًا.
– أما أنا فشاهدتُه مُغمًى عليه أكثر من مرة خلال نوفمبر وفي نهايته يختفي، كما نختفي أيضًا، تحت الماء والغمام.
ذاك الصباح رأيتُ سحابة غريبة، مُمتدَّة في شساعة الحقل الفاصل بين النهر والغابة، عندما نجتاز جسر نويي الكبير باتجاه بولوني وسان كلو، سحابة معلقة، أي فوق الأرض ودون السماء. لونها رمادي ولها عريشات وأغصان، وفوقها يُحلِّق سرب نوارس قادم من جهة الغرب يقترب منها حتى يكاد يختفي فيها، لا تُمَيِّز بياضه، أو تحسبه ظمآن، هبط إلى شغاف السحابة ليرتوي ثم يستأنف تحليقه ذاهبًا أو ذاهلًا مثلي بين أشجار وألوان هذا الفصل المجنون.
– أَعِدْ أيها الشجر المعشوق كامل مَفاتنك، فهو آتٍ إليك.
– وأنتَ أيها النهر امشط سالف مائك ليصحو في صباحة محياك بعد أن يتدله وقتًا بوجهي، وبألوان هذا الورق الماجن.
– هذا أقل ما يوصف به الخريف هذا العام يا صديقتي، آه مجون القصف والاشتهاء.
– إش … ش … ش. حذارِ أن يسمعنا، فهو زهواني، إن كنتَ لا تعلم!
الأيام هناك عارية، وبلا ألوان، والليالي ظلام بلا أحلام. كالمُتعطِّش إلى البحر، ولهفتي هي للخريف، نزعت ثيابي بعد وصولي من المطار إلى البيت توًّا، واستبدلتُها باللباس الرياضي. في ثوانٍ عبرتُ الشارع لأصبح في قلب «حقل مارس» ها … ها … هكذا! نظرتُ إليَّ في مرآة الزمن والطقس فرأيتُ شخصين يخرجان منِّي ويعودان مُقتربين من جديد ليندمِجا في الجسد الوحيد الذي أحمل: ثلاثة هم: الأول، من «نويي سورسين» والثاني من «هناك» قادم من فجوة الحنين الفائت، والثالث جماعهما، وهو الذي يستنشق الهواء ملء خياشمه الآن وينظر مفتتنًا بما حوله.
هو الذي رأى
لا أفكر في هيئتها، ليس في هندامها أو شكلها، في التعبير الذي تعطي لوجهها فقط، وكأنَّها تعرف ما في خاطري فتداورني أي تلاعبني: ها أنا ذا في حديقة مارس أهرول بخفة. أهرول رشيقًا بعيني لا بقَدمي. ساقاي ترتفعان بالتناوب من على الأرض وتهتزان واثِبَتَين ولا أعرف متى نَزَلَتا إن هما نَزَلَتا حقًّا، فاللون بل الألوان تسرق بصري. قلتُ لك يا الفقيه عبد الرحيم إن النور شعشع ذلك الصباح. أقرب إلى الأصفر وليس هو. أشحب من البرتقالي وليس هو. يوشك أن يجاور الليموني ويبتعد. يشبهه الذهب وهو أصفى وأرق. فيه بعض صُفْرة من حاجب الغروب قبل أن يَتضرَّج بحُمْرة الخجل. كنتُ أهرول بعيني فوَقَعَتا عليها: هيفاء، فرعاء، مصقول عوارضها، والصباح في أوله، فتداهمه وتزاحمه بلون أوراقها شجرة تضيء النهار فيأخذ لونها تباعًا إذ تعدي بقية الأشجار. وأمامها عُمَّال الحديقة يمشون الهُوَيْنى وهم يقومون بتقليم الأغصان وحلق رءوسها لتستوي من علٍ، فتوقفوا وقد انتفضت فوقهم بعض الأغصان بعصفها. وحين مررت أمامهم تبادَلْنا التحية بأصفر الغروب وألوان قُزَح. لعلهم فَهِموا رغبتي في أن أتمرَّغ فوق سجاد الخريف الورقي، اليوم وغدًا أيضًا. أجلت هذه النزوة لعام آخَر وطَفِقتُ أمسك بورقة من هنا وثانية وثالثة من هناك. بعيني أمسك لا بيدي، فاحصًا اللون، مُتشرِّبًا الوشم الأحمر المتخلله. ظهرت لي أساريره منشرحة، وداخل السياج المحيط بحديقة الأطفال وقفت في الوسط متبرجة بينما الصِّبْية العفاريت يتراشقون بالرمل، وهي لاهية عنهم بكسوتها الثملة.
أنا متأكد من أنني شاهدت ما أصفه الآن في نوفمبر الأخير هذا، وليس سنة ١٩١٠م حين رسم كلود موني … نيلوفر. وهو ما لا يمنع من أني رأيته مُقبلًا نحوي بعد أن عبر جسر الكونكورد، متمايلًا تحت البرج وبين ألوانه المرتعشة بفعل ريح خفية، وحين أصبح على مبعدة خطوتين قُبالتي حرَّك قُبَّعته بإزاحة لطيفة ومضى، ثم ما لَبِث أن توقَّف ليفاجئني بقوله:
– ياه، ألم نَلتقِ قبل اليوم؟ بلى … لكن أين؟
– أوافقك، ربما في الكابستان.
– آه، طبعًا في مطعم الكابستان، سنة ١٩٩٢م وفي الكورنيش، من جهة حي العنق بالدار البيضاء. أتذكر، وكان الفصل خريفًا.
– لكنك نسيت الأهم يا مسيو موني!
– كلَّا، كيف أنساها، وأنت جالس قُبالتها، وطلبتَ من النادل أن يجلب كمقبلات مويجات إلى صحنها، وأنتما تَتعشَّيان تحت لوحتي، أقصد في ظلال عريشة تتهادى فيها إحدى نسائي فوق الأرجوحة.
– ونحن أيضًا نتهادى في تضاريس ألوانك حجبت كل ضوء غير ضوئك.
وبينما أنا على وشك الانتهاء من دورة الهرولة الصباحية، مقتربًا من جدار السلام الزجاجي، المنصوب منذ عام جنوب «حقل مارس»، أي قُبالة المدرسة العسكرية، الرمز النقيض لحضارة الطين التي ينتمي إليها إنسان مغربي قديم من بلدة كولمين يدعى علي أنوزلا، عاش بين الألفية الثانية والثالثة وعرف بإعجابه الشديد بالبناء الصلب لهذه المدرسة؛ بينما أنا كذلك لَمحتُ روب غرييي بقامته الفارعة وقد تقوَّس ظهره قليلًا تحت كاهل الثمانين عامًا، وهو يُطوِّق بذارعه الطويلة زوجته كاترين، الضئيلة بقامتها القصيرة. مرَّا أمامي فما رأياني ولم نتبادل أي تحية وانصرفَا كما في حلم.
حاولت أن أتأكَّد من ملامحهما فإذا هُمَا فعلًا ألان وكاترين لا سواهما، رغم أنهما موجودان الآن في منطقة النورماندي يُصْلِحان من حال ضيعتهما الجميلة بعد هَوْل تلك العاصفة الشنعاء.
داخَلني الخوف من أن أكون قد أصبحتُ في لا مكان ولا زمان، ولا فصل، لولا أن ألوان موني شرعت تتساقط من كل ناحية.
هنا، مرة يسقط المطر، ومرة تتساقط الأشجار بقطرات أوراقها. المطر ينزل إما عموديًّا أو مائلًا، مائسًا إن شئت. أما الأوراق فتراها في الحقيقة وأنت لا تراها؛ لأن الإشعاع الصادر منها يُشوِّش الرؤية الطبيعية، فتتوهم أنك رأيت بينما أنت مُلاحِق الضياء الذهبي المنتشر.
لذلك فالخريف هو خريفي هذا العام وفي الأعوام القادمة.
لا أعرف حقًّا هل شَتات عمري ما كنت أجمع في حقل مارس مع آخِر الأوراق الصفراء المتناثرة، أم بقايا غياب الأحبة، أم هذا الإفراط عندي في الرحيل. لا أعرف لماذا تمادى الخريف في جماله هذا العام، نكايةً بي ربما لسبب يعلمه وحده أم ليذكرني حتمًا بعهد بيني وبين الأشجار والألوان … ألا أخون الشعر أبدًا، أما الشعراء، لو وجدوا، فذاك شجن آخر.
سمعت محسن مخملباف، المخرج الإيراني في فيلمه الأخير «قندهار»، يَحثُّني على الالتحاق بموكب نسائه، الحائرات، الهاربات، التائهات، القاصدات قندهار في نهاية المطاف. يدفعني في ركاب غانياته المخفيات، مُلْتفَّات تحت ألوان طرحاتهن الفاتنة، لا في ركاب الأمريكان … فاهتاجت حواسي ووثبت خفيفًا، مرحًا، إلى الأمام، وأنا أغني بالأصفر، والأخضر الأمرح، والليموني والعكري، وغنج حب الرمان. وعاد عمال حديقة مارس إلى نشاطهم بعد أن أنهكت الريح ستائر الأشجار، وتهاطلت الأوراق مِدرارًا، معها كنتُ أهطل بين الشعر والمسامِّ، ودفعوا مكنساتهم الآلية وأمامهم عربات كاسحة، ودون أن يبالوا بعمري ولا بمحبتي …، ها أنا ذا أعترف أخيرًا، وبحماس لا نظير لي به راحوا يحملون رفات الخريف — أم رفاتي، لينقلوه إلى حيث لا أعلم — ليس للخريف مَثوًى أخير؛ لأنني سأظل لهم بالمرصاد، سأرجع قبل أن أكمل ما في خاطري من أغراض القول. نهنه في وجهي صديقي الذي ظل يرافقني من بداية الهرولة، أقصد كلبي، المخلوق الجميل الشهير باسم البروفيسور «طانغو» أي آخر طانغو في باريس، نَهْنَه، فتبعته أو لَعلِّي تبعتُ صَدى أغنية في بدايتها، لم تَبْكِ رحيل الخريف، واكتفَتْ في صوتها الرقيق بصب هذا الرحيق: «… رجعت الشتوية»(!)